ربما كانت سنوات طويلة، سنوات فراق مرت لا يمكن وصفها أو الاستهانة بها، وأنت ترى دموع الأمهات والآهات التي تخرج من قلوب الآباء والزوجات والأخوات، وهن ينتظرن ذلك اليوم الذي سيلتقون فيه بذلك الغائب الذي خطفه الزمن من أمام أعينهم.
مرت ساعات وأيام وسنين ثقيلة وطويلة بدقائقها ولحظاتها، فقد طال الفراق وبدأ الأمل يفقد نفسه، خاصة مع تجلي المعارك ونهاية كل شيء في المنطقة التي كانوا مخطوفين فيها وهي تنعم اليوم بالاستقرار التام. كانت الآمال معلقة بانتظار أن تأتي الأخبار من السجون والمعتقلات أو من دول الجوار، وتنتهي تلك المأساة وذلك الحلم المزعج الذي خطف بقساوته أبناء منطقة جنوب الموصل.
ما أصعبها أن تعيش العوائل على أمل يعرفون أنه أقرب إلى المستحيل، ولكن ذلك الخيط المعلق باقي بين خبر الحياة وخبر الموت. رحل قسم من الآباء والأمهات إلى عالم آخر يحملون في أرواحهم صور أبنائهم وأسمائهم ليبحثوا عنها في ذلك العالم بعد أن يئسوا من عدم وجودها في عالمنا الدنيوي، عالم القتل وعدم التسامح، عالم الانتقام، عالم التجبر والاستبداد في الرأي، عالم مبني على قذارة القتل وسفك الدماء، عالم مبني على السب والشتم. وبين هذا وذاك، تأتي الأخبار المزعجة في هذه الأيام لتعلن عن وجود مقابر جماعية تضم رفات عدد من الشهداء المخطوفين والذين ما زال مصيرهم مجهولًا لدى عوائلهم وفي دوائر الدولة كافة.
أخبار مزعجة ثقيلة جدًا ستجدد الأحزان بعدما كانوا في عالم الأمل والوجود في ذاكرة أهاليهم. لقد رحلوا دون وداع وقتلوا بدم بارد، ولم يكن هناك من ينقذهم من الموت، وحتى الموت نفسه لم يقدم لهم واجب الدفن وواجب العزاء الذي يليق بهم.
ومرت السنين بساعاتها وأيامها الثقيلة ولكن دون جدوى، إلى أن جاء هذا اليوم الذي أيقظ الأحزان في القلوب وجدد جراحات وآلام أهالي الضحايا. لقد كان الأمس يومًا ثقيلًا في محافظة نينوى عمومًا وفي منطقة جنوب الموصل خاصة، وأنت ترى العشرات من الشباب قد وصل ما تبقى من جثثهم إلى أهاليهم ليلقوا نظرتهم الأخيرة على ذلك الصندوق الخشبي الذي يحمل رفات أبنائهم.
تشييع مهيب وحضور واسع وجثث أصبحت هياكل عظمية لشباب كانوا قبل سنوات في زهرة شبابهم وهم المعيلون لعوائلهم، وكانت أمهاتهم وآباؤهم وزوجاتهم وأبناؤهم يحتفلون بقدومهم في إجازاتهم الدورية.
الوداع الوداع أيها المظلومون في هذه الدنيا، الوداع إلى عالم آخر… إلى رب عادل هناك ومحكمة عادلة لا يُظلم فيها مخلوق. نعم، لقد خرجتم من قبوركم الجماعية فسكنتم في قلوب الملايين وبكى عليكم كل من سمع بمأساتكم وهم يشاهدون تلك المناظر الحزينة لجثث هؤلاء الشباب الذين قتلوا بلا ذنب وتركوا خلفهم مأساة الفراق والحزن لعوائلهم.