الموت هو النهاية الطبيعية لجميع البشر، وغالبية الناس يدفنون موتاهم في باطن الأرض بقبور معلومة وشاخصة أو مُنْدَرسة، ويزورون موتاهم بين حين وآخر!
والغربة، وبالذات الاجبارية منها، صورة من صور الموت والعقاب، وهنالك في بعض عقوبات الشريعة الإسلامية السمحاء عقوبة “التغريب“، وهذا يعني أن الغربة ليست، دائما، رحلة ترفيهية ترويحية فقد تكون عقوبة قاسية على الروح والفكر والجسد، والماضي والحاضر والمستقبل، والحياة والموت!
والموت هو الفصل الأخير من كتاب الحياة، والنهاية التي لا مَفرّ منها لكل إنسان، حتى ولو كان من الملحدين، والناكرين لوجود البعث والحساب ويوم القيامة!
ومن أول مراحل العالم الآخر، هو القبر. والقبور تُحصر في أماكن محدّدة تسمّى المقابر، وهذه المقابر تختلف أحجامها بناءً على عدة عوامل منها، قُدسيّة المدن، كما هو الحال في مكة والمدينة وغيرهما، أو حجم المدينة، وبالتالي لا توجد مقابر متشابهة حتى من حيث البناء والتنظيم!
ويختلف ترتيب القبور بين دولة وأخرى، فهنالك بعض الدول العربية والإسلامية تكون فيها القبور منظّمة بشكل مُميّز، وضمن “السيطرة الإدارية“ منذ المراحل الأولى للوفاة، وحتى مرحلة القبر، ولغاية مرحلة الزيارة لاحقا!
وتتميّز مقابر الدول الرصينة بأنها مُحاطة بالحراسات ومنظّمة، وبالطرق المعبّدة، الرئيسية والفرعية، وبقية الخدمات التي تُسهّل زيارة المقبرة!
ومما يُميّز هذه المقابر أنها مقسّمة ومرقمة في حواسيب وسجلّات، ويمكن بزيارة سريعة لإدارة المقبرة الحصول على مكان القبر ورقمه، وهي خدمات مجانية!
وبالمقابل هنالك في دول أخرى مقابر كبيرة وضخمة، ولكنها عشوائية، رغم أن فيها مئات آلاف القبور، وذلك بسبب الفوضى الإدارية، ومَن يريد أن يعرف قبر قريبه عليه أن يستعين بالمكاتب التي تولت الدفن، وهذه خدمات مدفوعة الأجر، وليست مجانية!
واللافت للنظر أن أذواق الناس في التعامل مع القبور، بعيدا عن شرعية هذه الأفعال، تختلف من مكان لآخر، فهنالك مقابر محاطة بالورود والزهور، وهنالك مقابر مهملة ومحفورة وخربة، تماما مثل واقع مساكنالناس، الأغنياء والفقراء، مع الفارق الساحق بين الحياة والموت!
وقبل أيام تابعت فليما وثائقيا عن احدى المقاطعات الروسية وقد أذهلني قبور المسلمين الغرباء في مقابر مغطاة بالثلوج لمّا لا يقل عن نصف متر!
واقعيا هنالك شعوب اعتادت على زيارة الأموات في الأعياد والمناسبات الدينية والعائلية والشخصية، كنوع من التواصل بين الأحياء والأموات، وذلك، في الغالب، للقرب “المعقول” بين مدنهم ومقابرهم!
ولكنّ الحال بالنسبة لغالبية الغرباء مختلف تماما حيث إن الغربة فرّقت الناس ليس في أجسادهم فحسب بل حتى في قبورهم، وجعلت قبوربعض عوائل الغرباء، ربّما، في أكثر من ثلاث دول!
وحينما نتابع أخبار المغتربين العرب اليوم نجد أنّهم منتشرون في أغلب الدول الأجنبية، ولديهم مقابرهم الخاصّة، التي يَقْبرون موتاهم فيها، ولكنّ الأمر المذهل، هو العودة للوطن وترك الأموات في مقابر بعيدة ونائية، وكأنها غربة مركّبة للأحياء والأموات!
ويبدو أن النعم الإلهية لا تتوقّف عند الموت، بل تستمرّ حتى بعد مرحلة القبر، حيث ينال الميت، عند زيارة قبره، دعوات أهله وأحبابه وخصوصا في المقابر القريبة نسبيا من السكن الدائم!
إن الدفن في مقابر الغرباء جزء من ضريبة الغربة، التي تُفرض على الغرباء كجزء من ضرائب أخرى منها الضياع في دروب غريبة، والتأقلم والتعايش مع عادات وشعوب تختلف، غالبا، في أبسط السلوكيات والعادات والتقاليد!
وأخيرا نحن لا ندري أنُقْبَر في بلداننا، أم سنُقْبَر في بلاد الغربة والضياع؟
رحم الله “الغرباء“ في غربتهم المركّبة، وفقدانهم لأبسط حقوق الأموات ألا وهي زيارة الأهل والأقارب!
@dr_jasemj67