تعد رواية “تفصيل ثانوي“ للكاتبة الفلسطينية عدنية شبليالتي صدرت عن دار الآداب عام 2017 من الأعمال الأدبية المهمةالتي تناولت الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بأسلوب سردي مكثف وعميق.
تتسم الرواية ” بعمقها الفني وتجسيدها الدقيق لمأساة الصراع العربي-الإسرائيلي، معتمدة على بناء سردي متقن ولغة مكثفة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة لتحمل أبعادًا رمزية قوية. تمثل الرواية صوتًا سرديًا متميزًا يوثق لحظات منسية لكنها حيّة في ذاكرة أبطال الرواية كما في ذاكرة الشعب الفلسطيني بأكمله. ومن خلال السرد المزدوج بين شخصيتين، يعيد النص بناء الزمان والمكان ويخلق رؤية متعددة الطبقات تسلط الضوء على جروح تتوارى عادة في خلفية المشهد التاريخيالأليم.
تبدأ الرواية من منظور جندي إسرائيلي متمركز في صحراء النقب في أغسطس 1949، في أعقاب أحداث النكبة الفلسطينية. يضع السرد القارئ مباشرة في أجواء المعسكر العسكري، محيطًا بتفاصيل المكان وكأنها شظايا متفرقة تعبر عن نفسية مشوشة تتقاذفها ضغوط الأوامر والتوترات الداخلية. على الرغم من انضباطه الظاهر، يعاني هذا الجندي من اضطرابات نفسية عميقة تظهر من خلال مشاعر مختلطة بين الطاعة للأوامر العسكرية والرغبة المتخفية في فهم حقيقة ما يدور حوله. وبينما يغوص السرد في تفاصيل حياته اليومية، من روتين الحلاقة إلى تأملاته الغارقة في صمت الصحراء، يلتقط القارئ شيئًا فشيئًا الضياع الذي يكتنف شخصية الجندي، حيث يبدو وكأنه جزء من آلة عسكرية هائلة، تضغط على الجانب الإنساني فيه، وتدفعه للتعامل مع واقع دموي ومؤلم لا يمكنه الإفلات منه.
ومن خلال منظور الجندي، تعكس شبلي الصراع النفسي بين القوة والضعف، وبين الطاعة والخوف المتوارين وراء قناع من القسوة والانضباط العسكري. تنشأ مشاعر مختلطة لدى القارئ تجاهه؛ فيحاول التعايش مع تباين الضحية والجلاد في شخصية الجندي، والذي يظهر حين يلتقط معاناة المدنيين الفلسطينيين على هامش مشهد الحرب، رغم انصياعه للأوامر التي تتجاهل ذلك الجانب الإنساني. تجد الشخصية الإسرائيلية نفسها في نهاية المطاف مجبرة على الوقوف عند حدود إنسانيتها، وهي محاولة باهتة تنبثق وسط حقل من الدمار، لكنها تكشف عمق التوتر النفسي الذي يعانيه، حتى وهو يحاول أن يحافظ على قوته الظاهرة.
وفي تحول زمني يُجسّد التقاطع بين الماضي والحاضر، تُنتقل الرواية بعد عقود إلى شخصية امرأة فلسطينية تعود إلى الموقع ذاته في رحلة مشحونة برغبة ملحة للبحث عن “الحقيقة”. تأخذ هذه الرحلة طابعًا شخصيًا للغاية، فالمرأة الفلسطينية ليست فقط باحثة عن تفاصيل تاريخية، بل هي رمز للهوية الضائعة والسعي المستميت لاستعادة أجزاء مفقودة من الذاكرة. تبدو الشخصية مدفوعة بذاكرة جماعية متجذرة، تتحدى محاولات طمسها، محملةً بدلالات حول الحنين للأرض والرغبة في فهم أبعاد النزاع الذي فُرض على أجيال متعاقبة. في هذه المرحلة، تأخذ الرموز والتفاصيل الصغيرة أهمية كبرى؛ إذ إن مشهدًا بسيطًا يمكن أن يكون مرآة لأحلام محطمة، أو لحظات ألم لا تزال حيّة في الذاكرة.
تعتمد الرواية على بناء سردي ثنائي يُبرز تداخل الأزمنة والمواقف، مما يربط بين الماضي والحاضر في سرد ينبض بالإنسانية. يكشف هذا التلاقي بين القصص عن عمق المعاناة المتجذرة وتأثيرها عبر الأجيال، متيحًا للقارئ فرصة تأمل أسئلة جوهرية عن الهوية، وعن قدرة التاريخ على صقل الذاكرة الفردية والجماعية في آن واحد. يتجسد هذا الالتقاء في طريقتين مختلفتين للنظر إلى الحادثة: فمن خلال عيون الجندي، تبدو مجرد مهمة عسكرية فرضت عليه، بينما من وجهة نظر المرأة الفلسطينية، تمثل هذه الحادثة رمزًا عميقًا للصراع مع محاولات التهميش والمحو. يتعاظم تباين المنظورين ليخلق تناغمًا سرديًا مؤلمًا يعكس تناقض الروايات حول الحقيقة التاريخية، ويجعل القارئ يتساءل عن مدى صلابة الذاكرة وقدرتها على مقاومة التزييف.
تتسم لغة الرواية بأسلوبها المختزل والمشحون بالتوتر، حيث تغوص الكاتبة في أعماق الشخصيات بلغة مكثفة، تعكس الصمت المحمل بالمعاني في داخل كل من الشخصيات. تبرز عدنية شبلي في أسلوبها نوعًا من الشعرية ، الصور التي تستخدمها تعكس قسوة المكان والجراح النفسية التي تتجسد في الصحراء التي تبدو وكأنها تبتلع الأسرار والأحلام معًا. هذا الاختزال لا يحرم القارئ من تذوق جمال الأسلوب، بل على العكس، يدفعه للغوص أكثر في المشاهد المعبرة عن صحراء مليئة بالصمت والألم.
تحقق الرواية توازنًا بين الواقعية والرمزية، بحيث تأسر القارئ من خلال تصوير دقيق للمشهد المادي وتفاصيله الحسية، مما يجعله يشعر وكأنه يعيش تجربة حية، تتبدى فيها أبعاد التاريخ الفلسطيني المعاصر وآثار الصراع الذي يشكل جوهرها. تبتعد عدنية شبلي عن الخطاب المباشر أو المبالغة في تصوير الأثر العاطفي، بل تقدم الرواية منظورًا إنسانيًا لافتًا، يضع القارئ في مواجهة شجاعة مع التراجيديا الفلسطينية عبر تفاصيل تبدو صغيرة لكنها تحمل في طياتها رموزًا كبيرة.
بهذا الأسلوب، تتحول “تفصيل ثانوي” إلى عمل أدبي يُقدّم رؤية اضافية مختلفة للقضية الفلسطينية، مستعرضةً معاناة شعب يسعى لإعادة بناء ذاكرته وحفظ هويته، بعيدًا عن الشعارات السياسية. تتجلى براعة شبلي في أنها، بدلاً من السقوط في نمطية الخطاب، تجعل من التفاصيل، مهما كانت بسيطة، رموزًا غنية تمثل تجربة شعب بأكمله، وتجعل من كل مشهد دعوة إلى التفكير في كيف يمكن للإنسان أن يحتفظ بإنسانيته وذاكرته حتى في أحلك الظروف.