26 نوفمبر، 2024 3:24 م
Search
Close this search box.

عن بعض العراقيين , الذين مرٌوا بموسكو / دميتري عبد الحسين

عن بعض العراقيين , الذين مرٌوا بموسكو / دميتري عبد الحسين

70 عاما على العلاقات العراقية – الروسية
هذه حلقة اخرى من سلسلة مقالاتي – ( عن بعض العراقيين , الذين مرٌوا بموسكو ) والتي انشرها بمناسبة الذكرى السبعين على اقامة العلاقات العراقية – الروسية ( ايلول / سبتمبر 1944- ايلول / سبتمبر 2014 ) . لقد كانت الحلقة الاولى عن بعض الزملاء الراحلين ( حياة شرارة وعبد الرزاق مسلم ومعروف خزندار ) الذين درسوا في الجامعات الروسية وتخرجوا فيها ونشاطاتهم العلمية والحياتية الرائدة في العراق بعد عودتهم الي الوطن , والحلقة الثانية كانت عن سفيرين عراقيين في موسكو هما – ( صالح مهدي عماش وعبد الوهاب محمود ) , والحلقة الثالثة , الخاصة , كانت عن اولئك العراقيين, الذين رحلوا وتم دفنهم في موسكو وكانت بعنوان – ( قبور عراقية في موسكو ) , ثم حلقة اخرى , رابعة , عن بعض العراقيات اللواتي مررن ودرسن بجامعة موسكو ومكانتهن ودورهن لاحقا في المجتمع العراقي بعد تخرجهن , اما اليوم , فان هذه الحلقة مكرسة فقط للابن الشرعي للعلاقات العراقية – الروسية ومأساته , ولهذا فانني خالفت بنية مقالاتي هذه ووضعت اسمه في عنوان الحلقة , لانني اعتقد جازما انه يجب ان أقوم بذلك لأنه يستحق فعلا هذا التميٌز , واننا يجب علينا ان نبرز اسمه و ان نتذكره ونتأمل بعمق قصته واحداثها وموقعها في ضمائرنا وان نتحدث عن أثرها في واقعنا و تاريخنا, لانه عنوان كبير لمسيرة حياة انسانية حزينة و مأساوية لا زالت تحز في اعماق روحي و نفسي وقلبي وعقلي طوال اكثر من ثلاثين سنة , وقد سبق لي ان تحدثت عن تفصيلاتها همسا لاصدقائي القريبين , الذين كنت أثق بهم في تلك الايام العصيبة الخوالي (( وأخص منهم بالذكر المرحوم الشهيد الدكتور فؤاد

ابراهيم محمد البياتي – رئيس قسم اللغة الالمانية في كلية اللغات بجامعة بغداد , الذي اغتالوه صباحا قرب بيته عندما كان متوجها الى عمله في الكلية بتاريخ 19/4/2005 )) والذين قالوا لي جميعا انه من الضروري ان اسجل هذه الواقعة وانشرها كي يطلع عليها الجميع في الوقت والزمن المناسب باعتبارها واحدة من تلك الشهادات القاسية على زمن و عصر مأساوي من عصور عراقنا المعاصر, والذي لا زال لحد الان – مع الاسف الشديد – جريحا و ينزف دما غزيرا, وقد وعدتهم ان اقوم بذلك يوما- ما , وها انا ذا أبرٌ بوعدي.

ض. ن .
+++++++++++++++++++++++++
كنت جالسا وحدي في غرفة فرع اللغة الروسية بقسم اللغات الاوربية في كلية الآداب بجامعة بغداد في بداية ثمانينات القرن العشرين واذا بشاب يدخل الى الغرفة ويتوجٌه اليٌ بسؤال – اين أجد الدكتور ضياء نافع ؟, فقلت له تفضل انا ضياء نافع , فانتقل رأسا متحدثا باللغة الروسية وبطلاقة وقال انه يريد ان يتعين في قسمنا استاذا لتدريس اللغة الروسية , وانه يتوجه اليٌ باعتباري رئيسا للفرع بهذا الرجاء , خصوصا وان الكثيرين من معارفه نصحوه بمقابلتي والتحدث معي بشأن ذلك . تعجبت أنا من طبيعة هذا الطلب وقلت له انه لا زال في مقتبل عمره وان التعيين في الجامعة يقتضي الحصول على شهادات عليا كالماجستير والدكتوراه , وسألته عن شهادته , فقال انه لم يكمل حتى المدرسة المتوسطة , و من ثمٌ بدأ بالحديث تفصيلا عن حياته ومأساتها, واخبرني ان والده كان طبيبا انهى دراسته في الاتحاد السوفيتي وتزوج والدته الروسية اثناء دراسته هناك ورجع الى العراق , ودرس دميتري وشقيقته في مدارس بغداد , ثم تم اعتقال والده بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي , ومن ثمٌ اعدامه , واضطرت والدته بعد اعدام والده للعودة الى الاتحاد السوفيتي مع طفليها طبعا , ومرٌت

الايام والاعوام وتزوجت والدته من شخص روسي , ولم يستطع دميتري الانسجام مع كل هذه الاوضاع الجديدة في حياة العائلة في موسكو , وهكذا وجد نفسه خارج البيت , ووقع فريسة بيد كل تلك العصابات والمافيات التي كانت مسيطرة في الشوارع الروسية آنذاك قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي , وانتهى به الامر في السجون السوفيتية وهو بهذا العمر اليافع , وكشف لي ظهره وقال لي – انظر الى المرض الذي اصابني هناك , ونظرت وانا لا أصدق ما أرى , اذ رأيت ظهره وهو ملئ بالتقرحات الكبيرة الحجم الرهيبة الحمراء اللون و المتورمة والمتقيحة ,واخبرني بانه بدأ بالصراخ في السجن السوفيتي وباللغة الروسية بالطبع انه مواطن عراقي ويطالب بالاتصال بالسفارة العراقية في الاتحاد السوفيتي, وقد اضطرت ادارة السجن بعد هذه الضجة الكبيرة التي كان يكررها دائما الى مفاتحة الجهات الرسمية بحالته , وهكذا تمت مفاتحة السفارة العراقية في موسكو حول ذلك , والتي أكدت فعلا انه مواطن عراقي , وقد تم تسليمه اليها بعد عدة اجراءآت , وقامت السفارة رأسا بتسفيره على الطائرة العراقية الى بغداد , وذهب دميتري رأسا الى بيت جده الذي يعرفه جيدا , وفوجئت العائلة العراقية المرعوبة و المنكوبة باعدام ابنها الطبيب بحفيدهم المريض العائد من روسيا اليهم , ولم تستطع تقبله – رعبا من الوضع السياسي الذي كان قائما آنذاك وخوفا من وضعه الصحي , وهو في هذه الحالة الصحية الرهيبة والمشوهة وحتى المعدية , وهكذا اضطر الجد ان يخصص له مبلغا ضئيلا جدا وحسب امكانيته المالية الضعيفة جدا لكي يسكن في فندق رخيص للمبيت ليس الا والعيش في اطار الحد الادنى , وقد نصحه بعض المحيطين به ان يتوجه اليٌ لاساعده في موضوع تعيينه لتدريس اللغة الروسية في جامعة بغداد , لأنه لا يتقن اي شئ آخر ولا يعرف اي مهنة اخرى بتاتا , وسألني ببساطة وسذاجة طفولية مدهشة – ( ألا أعرف اللغة الروسية جيدا ؟ ) فقلت له وانا أكاد ابكي ألما , انك تتقنها – يا ابني – بشكل رائع وممتاز ولكن هذه المعرفة غير كافية للتعيين في اي جامعة من جامعات العالم , وهكذا خرج دميتري عبد الحسين من الغرفة وغادر كلية

الاداب خائبا . رجعت الى البيت وانا في حالة ذهول وحزن , ثم بدأت بتأنيب نفسي لاني لم احاول ان اقدم له ولو مساعدة – ما تعينه على تدبير بعض اموره , وفي اليوم التالي جاء اليٌ رئيس القسم وسألني عنه قائلا من هو هذا ال ( دميتري عبد الحسين ) الذي راجعك امس ؟ وقد قال تلك الجملة بنبرة لئيمة وواضحة المعنى والقصد مؤكدا على الاسم واسم الاب , وقد علم بذلك من مكتب الاستعلامات طبعا في مدخل الكلية , والذين كانوا يسجلون كل اسماء المراجعين , فقلت له انه شاب بسيط من ام روسية واب عراقي وطلب التعيين في القسم لتدريس اللغة الروسية واخبرته بعدم امكانية ذلك دون الشهادات العلمية المطلوبة , وانهيت الحديث مع رئيس القسم بحجة ارتباطي بعمل لاني كنت متأكدا من نواياه الشريرة . بدأت بالبحث عن دميتري عبد الحسين بين اصدقائي وزملائي الذين اثق بهم وعلمت ان قصته حقيقية فعلا وان والده قد تم اعدامه لأنه عضو في الحزب الشيوعي العراقي وقد درس وتخرٌج في كلية الطب في مدينة كالينين الروسية ( والتي اعادوا لها تسميتها القديمة الان وهي تفير ) وعاد الى العراق وتم تعينه طبيبا في احدى مستشفيات بغداد , وابدى الكثيرون استعدادهم لمساعدته قدر الممكن وطلبوا مني تدبير الوسيلة لذلك , وفي يوم من الايام كنت مع مجموعة من الاصدقاء في مطعم ظهرا في شارع الرشيد نتناول طعام الغداء واذا بدميتري يدخل الى المطعم وهو يبيع السجائر بالمفرد على الزبائن ويمسك بيده علبة مفتوحة من السجائر ويعلن عن بضاعته باسلوب ساذج ويبدو عليه بوضوح الارتباك وعدم اتقان هذه المهنة والاعيبها واسرارها , وعرض السجائر بشكل سريع وخرج من المطعم رأسا دون ان يشتري منه أحد. انتبهت انا اليه وصعقني منظره , وخرجت من المطعم محاولا اللحاق به وسط اندهاش اصدقائي وتعجبهم , ولكني لم استطع ايجاده رغم محاولتي التفتيش عنه , وعدت خائبا الى زملائي وحكيت لهم قصته باختصار, وقد تعاطف الجميع معي آنذاك , وبعد فترة قصيرة جدا أخبرني أحد اصدقائي الذين استفسرت منه عن دميتري عبد الحسين , انهم وجدوه ميتا في شارع من شوارع بغداد , وتم دفنه في احدى المقابر من قبل دائرة البلدية باعتباره شخصا بائسا مجهولا ومشردا بلا عائلة ترعاه او مسؤولة عنه .

أحدث المقالات