12 فبراير، 2025 7:37 ص

في زاوية معتمة من مقهى منعزل، مختبئ في زقاق بعيد عن ضجيج المدينة ولهاثها، جلس يحتسي قهوته الباردة، كانت عيناه غارقتين في صفحات الجريدة التي بين يديه، لكنه لم يقرأها كما يقرأ كتابا، بل تأملها وكأنها نافذة تطل على عالم يكتنفه الوحشية والظلام، تحدّق عينيه في الفراغ، في الهوة السحيقة التي صنعها العالم، فقد حملت الجريدة بين سطورها واقع صعب، واقع مرهق ترسم ملامحه على صفحة أولى تناثرت فيها العناوين وكأنها تئن تحت وطأة الدماء، إذ برزت فيها أخبار عن معارك دامية في أفريقيا، مذابح تهزّ آسيا، حرب طاحنة في أوروبا، جثث تتكدس فوق جثث، وكوارث تتوالى وأوبئة تتكاثر على وجه الأرض، كأن الجحيم قد قرر أن يطفو إلى السطح، ويلقي حممه على بشر لا حول لهم ولا قوة، بل وكأن الأرض ضاقت بأهلها فباتت تخاطبهم بصوت قاس وهي تلفظهم واحدا تلو الآخر.
ارتجفت يده التي تمسك بالصحيفة، واهتز قلبه المثقل بالخيبات والآلام، تنهد بعمق، كأنما يحاول أن يلفظ جزءا من هذا الحزن العالق في صدره منذ زمن بعيد، ثم أدار الصفحة هربا من بحر الدم المسفوح الذي اجتاحها، ليجد نفسه فجأة أمام مشهد آخر يدفعه إلى ضحكة ساخرة، فقد ارتسمت أمام عينيه ابتسامة مزيفة لعارضة أزياء، تلتها صورة أخرى لنجمة سينمائية تستعرض فيلمها الجديد، كانت الصور زاخرة بالبهاء والزيف في آن واحد، كأنما تعلن بأن المذابح التي اختلطت بعنف مع صفحات الجريدة قد تلاشت عند حواشيها وانتهت بمجرد قلب الصفحة، وكأن الدماء المسفوحة لا تستحق أكثر من بضعة أسطر عابرة قبل أن يحين موعد الاستراحة الإعلانية، بل وكأن الصحيفة ذاتها كانت تحاول مواساة قرائها بعد صدمة الخبر الأول، أن تلمس جراحهم بصور مصقولة وزيف معلب، وكأن العالم الذي يغرق في المآسي قرَّر أن ينهيها حين تقلب الصفحة وتنسى الأحزان.
تأمل صفحات الجريدة مجددا حتى اندلعت في نفسه نوبة ضحك كتمها بين رشفات قهوته الباردة، في تلك اللحظة، عاد إلى ذهنه مشهد تلو الآخر من الأماكن التي عمل بها، تلك التي كان يظن في ظاهرها أنها حامل الحقيقة، لكنها في الواقع أدوات صمَّمت لتصوغ الواقع وفق أهواء أصحاب النفوذ، وفي صمت عميق، صرخ في أعماق روحه ساخطا: “هذه هي الجريدة حين تقع في أيدي المتواطئين، حين تتحول إلى سيف يضرب أو درع يحمي، لا إلى مرآة تعكس الحقيقة”، أدرك حينها أن الصحف لم تعد تسعى إلى كشف الواقع، بل أصبحت تعيد تشكيل الرأي لتصنع وهما يخدم الطغاة، تخدع، تُضلل، وتُخرج المجازر من العناوين العريضة لتخفيها في زوايا الصفحات المهملة، ثم تزين المشهد بصورة امرأة جميلة، كأن الزيف قادر على حجب رائحة الموت.
وبينما كان يجلس في زوايا ذلك المقهى المنعزل، رفع رأسه متأملا الوجوه من حوله، حتى وقع بصره على طاولة مجاورة حيث جلس صديق قديم له، كانت ملامح هذا الصديق تتداخل مع صور مضطربة من ذاكرته، تذكارا لشخص كان يوما رمزا للصداقات المتوترة، رمزا لتلك الوجوه التي تخفي وراءها الكثير من النفاق.. تناثر رذاذ القهوة من شفتيه بعد أن عجز عن كبح ضحكته المكبوتة، ففي خضم ذكرياته المتداخلة، لم يتجلَّ له سوى ذلك الشخص الذي كان يذكره بتلك العاهرة التي تتوب مع إشراقة كل صباح لتعود سريعا إلى أحضان الرذيلة مع حلول المساء بفعل سحر الفسق.. لم يعد يتذكر بوضوح عدد المرات التي اختلف فيها مع هذا الصديق، إذ كانت الاختلافات كثيرة حتى لم يعد يفرق بين آخر لقاء جمعهما، هل كان على وفاق أم كان طيف خلاف لا ينتهي؟
كان صديقه يشبه تماما الصحيفة التي بين يديه، وجه تزيّنه أقنعة متعددة، شخص يختبئ وراء زيف معبأ بالجهل، وضيع يحمل في داخله عقدة نقص أزلية، يمقت من يذكره بحقيقته، فيحاول طعنه وتشويهه وجذبه إلى مستنقعه القذر، وحين يفشل في ذلك، يتحول إلى ممثل بائس يتقمص دور الضحية، يعزف على أوتار العاطفة، ويستجدي التعاطف من كل من حوله، لكن مهما طال العرض، ستأتي لحظة الانكسار، كما في كل مسرحية، فلابدّ أن يأتي اليوم الذي تنكشف فيه كل خبايا الزيف وتسقط الأقنعة، ليتجلّى للجميع كم كان وضيعا.
كان هذا الصديق القديم يتحدث بحماس مفرط عن استثمار جديد سيجني منه أرباحا خيالية، وكأن العالم بأسره انحنى ليبارك طموحه، بدا منتشيا بنجاحه المحتمل، لكنه في الوقت ذاته كان يحمل وراء كلامه سُمّا قاتلا، إذ من يعرفه حق المعرفة كان يعلم أنه لم يكن يوماً صادقا، لقد كان بارعا في لعبة الوجوه، يتلون كما الحرباء ويرتدي قناع التاجر الناجح أمام الناس، بينما كان في الحقيقة مجرد سمسار للمآسي، يستثمر في انهيار الآخرين ليحصد الأرباح من خسائرهم، ثم يمضي في حياته كأن شيئا لم يكن.
وفي لحظة من لحظات الهدوء المتخلّلة بين زحام الأصوات في المقهى، ترك ما تبقى من فنجان قهوته ونهض متثاقلا، واقترب من طاولة هذا الصديق ببطء وحذر كما لو كان يحذر من لمس جرح لم يندمل بعد، وبصوت مثقل بالمرارة، وبإشارة باردة إلى الجريدة، همس قائلا: “ألا تتابع الأخبار؟ العالم يحترق.” كانت كلماته تترنم بصدى الألم واليأس، فيما كانت نبرة صوته الباردة تكشف عن سخرية عميقة لا تعرف الرحمة.
لم يكن ردُّ فعل الصديق إلا بمجاملة عابرة، حيث ابتسم ببرود، وأخذ الصحيفة وكأنما يقتات من صفحاتها، تصفحها بلا اكتراث، ثم قال بنبرة خالية من الانفعال: “أخبار الأمس تُنسى اليوم، وأخبار اليوم ستُمحى غدا… المال وحده هو الذي لا يُنسى.” ثم تابع ببرودٍ، وأضاف: “ولكن أخبرني، هل تعرفني حقّا؟”.. تلك الكلمة الأخيرة كانت كالسهم الذي يخترق كل ثغرة في قلبه، لتثير فيه موجة من الغثيان والارتباك.
شعر بالغثيان، نظر إلى صديقه كما لو كان يراه لأول مرة، وبدأ يتساءل كيف لم يكن قد لاحظ ذلك الوجه الحقيقي من قبل؟ كيف كان من الممكن أن يخدع بكل هذه الأقنعة التي ارتداها؟ أدرك حينها أن القناع الذي طالما اعتقد أنه صلب لم يكن سوى قشرة هشة، وأن ملامحه الحقيقية، المتأصلة في أعماق روحه، كانت دائما موجودة خلف تلك الواجهة المزيفة، لكنه لم يكن مستعدا لرؤية تلك الحقيقة المريرة التي اجتاحت وعيه كالعاصفة التي لا مفر منها.
تردد للحظة، تلك اللحظة التي بدا فيها الوقت وكأنه متوقف في فضاء من السكون، ثم نهض فجأة تاركا وراءه كل ما كان يرمز إلى الزيف، تاركا فنجان القهوة الباردة، تاركا الصحيفة، تاركا كل تلك الذكريات الملتفة حوله، ومضى بخطى ثابتة، تذكره بأن الأقنعة ستسقط دائما، مهما طال العرض، مهما حاول الإنسان إخفاء حقيقته خلف زينة الأكاذيب، ومع كل خطوة خطاها خارج المقهى، بدأت الأصوات المحيطة به تتلاشى تدريجيا حتى أصبحت همسات باهتة، بينما أخذت الليلة تلفّه بستارها العميق، كان الهواء البارد يحتضنه كحارس أمين، ينقله من عالم المظاهر الكاذبة إلى عالم يَعِد بالصدق والشفافية، عالم لا مكان فيه للزيف أو الخداع، عالم يحفزه على ألا يكون يوما أسيرا للأكاذيب، وأن يسعى جاهدا للكشف عن الوجوه الحقيقية، مهما كانت مريرة، أدرك حينها أن ما يدور في هذا العالم ليس سوى مسرحية ضخمة يلعب فيها الجميع أدوارهم المقررة، وأن يوم الانهيار قادم لا محالة، حين ستسقط الأقنعة وتنكشف الوجوه كما هي دون زينة أو زخرفة، فكل الأكاذيب لن تبقى سوى ذكرى باهتة في سجل الزمن.
وبينما واصل السير في شوارع المدينة التي بدت فجأة أقل ضوضاء وأكثر صدقا في ضوء القمر الباهت، استشعر كأن الليل يحكي له قصة قديمة عن أولئك الذين انغمسوا في زيفهم حتى نسوا حقيقة الوجود، كل زاوية وكل ظل كانا يشيران إلى أن ما وراء هذه الواجهات الزائفة يكمن عالم من الحقيقة النابعة من أعماق الإنسان، وفي قلبه يقين بأن الحقيقة، مهما حاول العالم إخفاؤها خلف أقنعة التظاهر، ستظل دائما مطروحة في أعماق الوجدان تنتظر أن تُكتشف.. في تلك اللحظات، شعر بأن روحه تستنهضها قوة جديدة تدفعه إلى رفض التعايش مع الأكاذيب والابتعاد عن تلك الوجوه المزيفة التي تسرق الضوء من الحقيقة، فقد أدرك أن الانفصال عن تلك الحياة التي تُكرّس الزيف والدهاء قد يكون الطريق الوحيد للوصول إلى ذواتهم الحقيقية، إلى ذلك السلام الداخلي الذي ينشده كل إنسان في أعماق قلبه، وهكذا، ومع كل خطوة خطاها في شوارع المدينة الهادئة، شعر بأنه كلما ابتعد عن عالم الوجوه المزيفة، كلما اقترب من عالم يحمل في طياته الأمان والصدق.
وفي نهاية تلك الليلة الطويلة التي بدأها في زقاق مظلم، وبينما كان صخب المدينة يتلاشى خلفه، ظلّت كلمات الصحيفة تتردد في ذهنه كمرثية حزينة: “الأقنعة ستسقط دائما، مهما طال العرض.”.. ورغم كل الألم والمرارة، حمل في قلبه بصيص أمل، أملٌ بأن يوما ما ستنكشف الحقيقة بكل ما فيها من عظمة وضعف، وأن يُفتح باب جديد للحياة على أسس من الصدق والشفافية، وهكذا، تبعثرت الأفكار في ذهنه، ومع ازدياد الضبابية حول معالم الطريق، زاد إصراره على السير نحو النور، ساعيا إلى أن يجد في تلك الحقيقة المرة مرسى يقيه من أمواج الزيف التي تلتهم كل من اقترب منها، ومع بزوغ فجر جديد تكسوه أشعة الصباح الهادئة، أدرك أنه لم يعد بإمكانه العودة إلى الوراء، فقد كانت تلك الليلة بمثابة رحلة انتفاضة ضد الأكاذيب والواجهات المزيفة، رحلة نحو الذات الحقيقية، رحلة تعلم فيها أن المال والسطحية لا يبقيان أثرا سوى الذكريات الباهتة، وهكذا، وبينما بدأ العالم يستيقظ من سباته، حمل معه الوعد الذي نُسِج في جوف الليلة، وعدٌ بأن يكشف الزمن عن كل شيء، وأن الحقيقة مهما طال انتظارها، ستأتي في موعدها لتضيء دروب الأرواح المنسية.. وفي تلك اللحظة، كانت الأفكار تتلاحم في ذهنه، فتحدثت معه بصوت داخلي متمرد: “هذه هي الحقيقة التي لا تستطيع المظاهر تزييفها، هذا ما قرأته في الجريدة أيضا.”