اتفق المجتمع الدولي في اتفاقية مكافحة الفساد على تطبيق مبدأ المنع والردع قبل التجريم، إذ إن وقوع جريمة الفساد والقبض على المتهمين لا يعني بالضرورة نجاحًا في مكافحة الفساد، لا سيما في ظل وجود حالات إفلات من العقاب، كما هو الحال في سرقة القرن، التي لا يزال ملفها مفتوحًا!
الأتمتة الإدارية: أداة للمنع والردع
تُعد الأتمتة الإدارية إحدى أبرز أدوات المنع والردع في تجارب الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، حيث تختصر الإجراءات بنسبة قد تصل إلى 70% من الوقت اللازم لتنفيذ أي خدمة عامة يقدمها الموظف الحكومي للمواطن المستفيد. وقد عُرفت هذه الإجراءات ضمن إطار “ممارسة الأعمال” (Doing Business)، التي تهدف إلى تسهيل الخدمات الحكومية وتقليل التداخل البيروقراطي
التحديات والعقبات
إذا حاولنا مقارنة مستوى ممارسة الأعمال في المؤسسات الحكومية العراقية—مثل فتح حساب مصرفي، نقل ملكية عقار، التقييم الضريبي، أو تسجيل شركة—نجد أن هناك فجوة كبيرة بين المعايير الدولية والواقع المحلي، ويمكن تحليل ذلك وفق المستويات التالية:
1. على مستوى القيادات العليا
هناك التزامات دولية وقانونية تفرض مواءمة إجراءات ممارسة الأعمال مع المعايير العالمية، وتظهر الحكومة العراقية رغبة في الالتزام بهذه المعايير من خلال إصدار أنظمة العمل والتعليمات الخاصة بتطبيق الأتمتة الإدارية، كما هو الحال في منصة إصدار الجواز الإلكتروني أو البطاقة الوطنية الموحدة. ومع ذلك، تصطدم هذه الجهود بعجز إداري واضح يعيق التنفيذ الفعلي.
2 على مستوى الإدارة الوسطى (من منصب مدير عام فأدنى)
هناك محاولات للالتزام بالأتمتة، ولكنها تتم بشكل مزدوج وغير فعال. على سبيل المثال، تفتح المنصة الإلكترونية لدائرة مسجل الشركات لبضع دقائق فقط، مما يعيق تسجيل الشركات بسلاسة. كما أن إجراءات فتح الحسابات المصرفية تعاني من بيروقراطية غير منطقية؛ فمثلًا، يخضع فتح حساب بمبلغ مليون دينار لنفس إجراءات فتح حساب بمبلغ مليار دينار، مما يعطل الأعمال ويعكس سوء الإدارة.
ومن الأمثلة الأخرى على هذا الخلل، أن إجراءات تسجيل الشركات، نقل ملكية العقارات، وإدارة الضرائب.. لا تزال تعتمد على السجلات الورقية والتقييمات الافتراضية غير المضبوطة، مما يفرغ الأتمتة من معناها الحقيقي. على سبيل المقارنة، فإن:
# تسجيل شركة أو نقل ملكية عقار في هونغ كونغ يستغرق أقل من ساعة.
#تسجيل شركة دولية متعددة الشركاء في حكومة دبي الإلكترونية قد يستغرق أقل من يوم عمل.
#أما في العراق، فإن تسجيل نفس الشركة قد يستغرق شهورًا بسبب الإجراءات المعقدة، وهو أمر يتناقض مع توجه الحكومة نحو فتح أبواب الاستثمار الدولي ضمن مشاريع مثل طريق التنمية.
3.على مستوى أصحاب المصلحة (المستفيدين من الخدمات الحكومية)
تحولت الأتمتة الإدارية من فرصة للإصلاح إلى عقبة معقدة تعيق بيئة الأعمال، مما دفع العديد من المستثمرين المحليين إلى الهروب برأس المال الوطني. ويعود ذلك إلى ازدواجية الإجراءات، التي تجبر المستثمرين على اللجوء إلى جهات متنفذة للحصول على الحماية من عوائل وأمراء الأحزاب، أو الرضوخ للجان الاقتصادية الحزبية. وقد ظهر هذا الخلل بشكل واضح في أزمة مطار النجف الأخيرة، حيث تصاعدت النزاعات بسبب التدخلات السياسية والاقتصادية.
أين تكمن الحلول الفضلى؟
لمعالجة هذه التحديات، لا بد من تبني حلول جذرية ترتكز على التخطيط بعيد المدى، ومن أبرزها:
1 . التخلي عن عقلية “الإدارة باللحظة”
يجب على الحكومة مغادرة عقلية “صاحب العربة في سوق الخضار”، التي تعتمد على قرارات آنية سريعة، والانتقال إلى تطبيقات تخطيط استراتيجي واضح. وهذا يستوجب مراجعة الفجوات الموجودة في تطبيق الاستراتيجيات الوطنية، أبرزها الاستراتيجية الوطنية لأهداف التنمية المستدامة 2030، بحيث تتطابق التعليمات والأنظمة مع هذه الرؤية الشاملة.
2. إطلاق “رؤية عراق 2050”
من الضروري أن تقود وزارة التخطيط، بالتعاون مع مراكز الأبحاث وبيوت الخبرة، مبادرة وطنية لصياغة “رؤية عراق 2050″، التي تستجيب لمتطلبات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. ومن شأن هذه الرؤية أن:
//توفر خارطة طريق واضحة لمستقبل الأتمتة الإدارية.
//تشكل الأساس لتشريعات جديدة تدعم التحول الرقمي، مثلما هو الحال في العديد من دول الشرق الأوسط.
3. إعادة تقييم إجراءات الأتمتة الإدارية وتصحيح مسارها
لا يمكن للأتمتة أن تحقق أهدافها في منع الفساد وردعه إذا كانت تؤدي إلى تعقيد الإجراءات وزيادة المدد الزمنية بدلًا من تقليلها. وعليه، لا بد من إعادة هيكلة أنظمة الأتمتة الإدارية وفقًا لأفضل الممارسات العالمية، بما يضمن تسريع وتبسيط إجراءات ممارسة الأعمال.
ما ورد أعلاه ليس إلا غيضًا من فيض، حيث تمثل الأتمتة الإدارية ركيزة أساسية لمكافحة الفساد، لكن سوء التطبيق يجعلها أحيانًا عبئًا إضافيًا بدلًا من أن تكون حلاً. فهل من مدركٍ لذلك؟
ويبقى القول: لله في خلقه شؤون!