رحلت المؤرخة فيبي مار ولم يتحقق حلمها في ان تكون للعراقيين جميعا هوية وطنية موحدة؟!

رحلت المؤرخة فيبي مار ولم يتحقق حلمها في ان تكون للعراقيين جميعا هوية وطنية موحدة؟!

تكاد تكون المؤرخة الدكتورة فيبي مار من أبرز الشخصيات الاكاديمية الامريكية، التي احبت العراق كثيرا، ولم تنساه حتى في اخر لحظات حياتها. فهي على مدى سبعة عقود قضتها في دراسة كل القضايا المهمة في تاريخ العراق. شهدت سقوط النظام الملكي في العراق عام ١٩٥٨، وصعود صدام حسين للسلطة في السبعينات، والحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، وإخراج القوات العراقية من الكويت على يد قوات التحالف الدولي في عام ١٩٩١ بعد احتلاله. التقت بعدد من السياسيين في العهد الملكي مثل صالح جبر، وفاضل الجمالي وفي العهد الجمهوري وبعبد السلام عارف، عندما كان وزيرا للداخلية في الحكومة التي تشكلت بعد ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨. وعلى حد قول زوجها الدكتور لؤي يونس بحري، عندما عادت الى واشنطن التقت، وبمناسبات مختلفة، بجميع السفراء العراقيين. في اخر زيارة لها للعراق في عام ٢٠١٥، التقت بالراحل السيد محمد سعيد الحكيم، الذي كان أحد المراجع الأربعة الكبار في (برانيته)* في النجف الاشرف، وبعدها ذهبت الى الكوفة لإلقاء محاضرة في جامعتها.
سالت زوجها الدكتور لؤي بحري عن اليوم الذي فارقت فيه الحياة وكان يوم الخميس الموافق ٢٦ كانون الثاني فقال:
أ تدري ماذا قالت لي بعد ان استفاقت في اخر لحظات حياتها؟ لقد قالت: ماذا يحدث في العراق؟
كانت في لقائها مع الساسة الامريكان تطالبهم دوما في الحفاظ على وحدة العراق وترفض تقسيمه. وكانت تدعو الى احياء الهوية الوطنية للعراقيين لإنها كانت تعتقد بانها كفيلة في المحافظة على وحدة العراق. ولم توافق على اضعافه ليصبح دولة فاشلة. كانت النخب السياسية ومراكز البحوث تستمع الى طروحاتها عندما يكون الحديث عن العراق، كونها باحثة متمرسة لها معرفة دقيقة بالشأن العراقي. لقد درست تاريخ العراق وحاضره بشكل معمق منذ خمسينيات القرن الماضي. كانت تمتلك شخصية قوية، وجريئة ولا تجامل على حساب الحقيقة. يقول عنها أحد زملائها في كلية الدفاع الوطني إذا تكلمت الدكتورة فيبي مار فان الجميع يصغي لما تقول.
التقيتها اول مرة خلال احدى الندوات التي كنا نقيمها يوم كنت اعمل في المركز الثقافي العراقي في واشنطن في شهر مايس ٢٠١٢. كانت بصحبة زوجها الدكتور لؤي بحري. كانت دائمة السؤال عن العراق وعن كل جانب مهم من جوانب الحياة فيه، عن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل عام. وتسأل عن أداء الحكومة وتركز دائما على وضع التعليم، وهل هناك تقدم في هذا المجال المهم لإنها تدرك ان تقدم البلد مرهون بتطور التعليم فيه.
كانت مسيرتها حافلة في مجال البحث والتدريس والتأليف. لقد راهنت طويلا على الهوية الوطنية العراقية حيث كانت تعتبرها الرابط الموحد للعراقيين بعكس غيرها من الباحثين الغربيين في المنطقة. وظلت تصر علنا على موقفها على الرغم من اندلاع الصراع الطائفي إثر الاحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣. كتب براين مورفي في مقال نشرته صحيفة الواشنطن بوست، يقول ان الدكتورة فيبي بار في عام ٢٠١٤ صرحت لصحيفة نيويورك تايمز قائلة: إن مسألة الهوية – وأعني بها الحصول على هوية يتفق عليها جميع العراقيين لتبقى الدولة موحدة – تُعتبر مسالة ذات أهمية كبيرة. هذه القناعة الراسخة لم تأت من فراغ كونها زارت العراق في خمسينيات القرن الماضي وساعدها ذلك في التعرف على خصائص المجتمع العراقي. فبعد حصولها على شهادة البكالوريوس في التاريخ عام ١٩٥٣ بدأت بتعلم اللغة العربية. وقد اكملت دراستها في جامعة هارفرد حيث حصلت على شهادة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط عام ١٩٥٦ مما ساعدها في الحصول على منحة سفر من الجامعة. فتوجهت الى بيروت حيث بدأت بحثها في الجامعة الامريكية هناك وقامت بتدريس اللغة الإنجليزية من اجل الحصول على مورد مالي إضافي. وفي بيروت التقت بعائلة عبد الله الدملوجي اول وزير خارجية للعراق ودعوها لزيارة بغداد. وبعد وصولها الى هناك قالت هذا هو الشرق والبلد العربي الحقيقي. كانت منذ صغرها معجبة بحياة الشرق. عندما كانت في سن العاشرة ذهبت ذات يوم الى السينما لتشاهد أحد أفلام ألف ليلة وليلة فظلت جالسة في مقعدها تشاهد الفيلم مرتين او ثلاث حتى افتقدها أهلها بسبب تأخرها. فجاء والدها ليجدها في صالة السينما. تلك المشاهدات طُبعت في مخيلتها حالها حال الكثيرين سواء كانوا صغارا ام كبارا من الذين فتنهم سحر الشرق.
من بغداد توجهت الى تكريت فبقت هناك بعض الوقت لتسجل انطباعاتها عن المدينة التي تقع على الضفة اليسرى لنهر دجلة. بعد ذلك وجه لها الشيخ بلاسم الياسين دعوه لتكون في ضيافته بقضاء الحي في جنوب العراق. ومكثت مع عائلة الشيخ حوالي ستة أشهر تتناول طعامهم وتدون انطباعاتها عن العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة في مجتمع القرية.

* البراني: غرفة استقبال الضيوف

لقائها بعبد السلام عارف
يقول زوجها الدكتور لؤي بحري، كانت فيبي موجودة في العراق عندما حصلت الثورة في ١٤ تموز ١٩٥٨ وتحول العراق الى نظام جمهوري. الا انها خلال أيام الثورة كانت ترقد في المستشفى نتيجة اصابتها بوعكة صحية وبعد بضعة أسابيع من خروجها من المستشفى كانت بحاجة الى تمديد تأشيرة الإقامة. وقتها لم يستطع أحد من المسؤولين البت بطلبها كأمريكية، اذ كان المد اليساري آنذاك اخذ في التوسع. حينها اخبروها ان طلبها من اختصاص وزير الداخلية حصرا. وكان الوزير وقتها عبد السلام عارف. فتقدمت بطلب لمقابلته وحددوا لها يوم المقابلة. وعندما حضرت في الموعد المحدد دخلت عليه الغرفة فوجدته متجهم الوجه. قالت له باللغة العربية إني طالبة أمريكية وجئت للعراق للتحضير لرسالة الدكتوراه وانا بحاجة الى تمديد الإقامة من اجل اكمال الاطروحة فسالها الوزير كم تحتاجين من الوقت فقالت له، ستة أشهر، فأجابها هذا غير ممكن سأمنحك ثلاثة أشهر فقط. وطلب منها تقديم طلبا بالموضوع وفعلا قدمت طلب وسجلته في سجل الوارد. وبسبب الوضع السياسي الجديد كانت تتلقى معاملة جافة بعض الشيء. طلبوا منها ان تأتي بعد أسبوع لإخذ النتيجة. فعادت فعلا بعد أسبوع لمعرفة النتيجة وعندما حاولت دخول الوزارة فوجئت برؤية عبد السلام عارف وهو يخرج من الوزارة برفقة اثنين من الشرطة ويداه مكبلتان. كان ذلك بسبب محاولة عبد الكريم قاسم ابعاده عن العراق من خلال تعيينه سفيرا في احدى الدول الاوربية وكان يومها قد اقتيد الى المطار. دخلت الوزارة لمعرفة ماذا حل بطلبها فلم تجد احدا من الموظفين وظلت تجوب غرف الوزارة بحثا عن موظف، فوجدت أحدهم في أحد المكاتب وشرحت له ما تريد فابتسم بوجها قائلا: لا تفزعي انا شخصيا كنت في الولايات المتحدة وقد تلقيت معاملة جيدة من قبل الامريكان. فاصطحبها الى مكتب الوزير وبحث عن الطلب ليجده موقعا من قبل الوزير فأخذته والأرض تكاد لا تسعها من الفرح.

سكنها في بغداد
استأجرت فيبي مشتملا صغيرا في الكرادة وكان فيه شجرة تكي (توت) حيث كانت تتلذذ بأكلها. كان المشتمل يقع مقابل منزل عباس المهداوي رئيس محكمة الثورة. ومن ذكرياتها الجميلة عن بغداد كانت تركب باص مصلحة نقل الركاب للقاء بعض الكتاب والمؤرخين والساسة حينما كانت تحضر لأطروحة الدكتوراه حول شخصية ياسين الهاشمي (١٨٨٢-١٩٣٧)، رئيس الوزراء العراق السابق ابان العهد الملكي. وكانت دائما تذكر المؤرخ الكبير عبد الرزاق الحسني الذي فتح لها مكتبته وما تحتوي عليه من كتب ومصادر ووثائق مهمة. وقد ساعدها كثيرا من خلال الشرح والتوجيه. ولطالما كانت تذكره بالخير وتعترف له بالجميل. ومن الأمور الأخرى التي تعترف بها انها لم تصادف في يوم من الأيام ان عراقيا قد اساء لها.

كانت الدكتورة فيبي مار مؤرخة بارزة لتاريخ العراق الحديث، فقد كتبت عدد كبير من البحوث والمقالات من ضمنها كتاب تاريخ العراق المعاصر، وكتاب ركوب النمر، وكتاب تحدي الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة، وأزمة اللاجئين والنازحين في العراق – الخسائر البشرية والتداعيات، والخارطة السياسية الجديدة للعراق – تقرير خاص 2007، وتقرير خاص صدر عام ٢٠٠٦ بعنوان من هم قادة العراق الجدد وماذا يريدون؟
وكانت أستاذة باحثة في جامعة الدفاع الوطني، وعضو في مجلس العلاقات الخارجية ومعهد الدراسات الدولية والاستراتيجية ومعهد الشرق الأوسط. وقد نشرت العديد من المقالات والفصول العلمية وقامت بتدريس تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تينيسي في نوكسفيل وجامعة ولاية كاليفورنيا في ستانيسلاوس. كان الرئيس بايدن يستشيرها بالمواضيع التي تخص العراق عندما كان رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس. ولم تؤيد عملية غزو العراق عندما استشارتها إدارة الرئيس بوش.
وفي عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٠، كانت زميلة في مركز وودرو ويلسون للعلماء الدوليين في العاصمة واشنطن، حيث ساهمت وبشكل متكرر في المناقشات الإعلامية حول العراق وكتبت عددًا من المقالات حوله وحول منطقة الشرق الأوسط. وفي عام ٢٠٠٤ نُشرت طبعة منقحة من كتابها، تاريخ العراق الحديث الذي يدور حول العراق المعاصر، حيث يضع في منظور تاريخي الأزمات والاضطرابات التي لا تزال تعصف بالبلاد. وتجمع مادة الكتاب بين عدة موضوعات مهمة، بما في ذلك البحث عن الهوية الوطنية، والسعي من أجل تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والتغيرات في الديناميكيات السياسية، وتأثير التدخلات الأجنبية في العراق.
في كثير من الأحيان، ما يميزها عن غيرها من الباحثين الغربيين في المنطقة هو إيمانها بهوية عراقية موحدة، على الرغم من حدود البلاد التي رسمتها القوى الأوروبية المنتصرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. حتى مع انزلاق العراق في دوامة العنف الطائفي، فان الدكتورة مار اعربت علناً عن اقتناعها بأن الروابط الوطنية العراقية أقوى من انعدام الثقة والمخاوف التي حرضت الكيانات على التنافس مع بعضها البعض. وقد ازداد انزعاجها من دعم الولايات المتحدة المتزايد للحكم الذاتي الكردي، ووصفت هذه التحركات بأنها إحدى التهديدات الرئيسية لتماسك العراق كأمة.
كما انها نأت بنفسها، إلى حد كبير، في النظر بقرارات عسكرية، وسياسية أميركية محددة، بما في ذلك مزاعم الاستخبارات التي تم دحضها فيما بعد بشأن الأسلحة الكيماوية العراقية ومخزونات أخرى، استخدمها الرئيس بوش وآخرون كمبرر لغزو العراق. كان همها الأكبر ان يتفق العراقيون على هوية جامعة تبقي الدولة موحدة، رغم ان الواقع ينبأ غير ذلك لان المكونات الثلاث الرئيسية وهم الشيعة والسنة والاكراد كل له حساباته الخاصة. وعلى حد قول الكاتب الصحفي براين انها اعترفت في العام الماضي، بأنها ربما تكون قد أخطأت في فهم البلد الذي درسته طوال حياته، وتساءلت:
– اين ذهبت الهوية الوطنية العراقية؟ لقد اختفت. انه امر غريب جدا بالنسبة لي. لم أكن أدرك مدى هشاشتها، لكن لا أدري ربما ستعود. وهو ما كانت تامل به دائما.

اللقاء الأخير بالدكتورة فيبي مار
كنت عندما أزور الصديق الدكتور لؤي بحري في داره بواشنطن، احيانا التقي الدكتورة فيبي ويدور نقاش حول الشرق الأوسط، وخصوصا العراق واخر المستجدات. كانت تفرح عندما تسمع ان هناك استقرار، وتطور وبناء، وان كان نسبيا، في العراق. ودائما تقول ان المسار الديمقراطي مسار طويل ويحتاج الى صبر.
وفي اخر زيارة لي للدكتور لؤي كان لي معها اللقاء الاخير. كانت في غرفتها لم تكن تقوى على المشي، وكان ذلك قبل نقلها الى المستشفى ببضعة أيام حيث كنت اخر شخص يلتقي بها. ودار الحديث حول العدوان الإسرائيلي على غزة وحجم الخسائر بالأرواح، والدمار الهائل فبادرتها بالسؤال لماذا لا يتخذ بايدن موقفا حازما اتجاه ما يجري في غزة، انها إبادة جماعية بكل ما تعنيه الكلمة…لماذا كل هذا التردد؟ فأجابتني: بايدن رئيس ضعيف لا يستطيع اتخاذ قرار حاسم، انا اعرفه. وأضافت:
كان بإمكان اي رئيس جمهوري مثل ريغان، وبوش الأب، او وبوش الابن أن يتخذ قرارًا حاسمًا للضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. وسؤالي الاخر كان عن الانتخابات الامريكية، وخصوصا حول كاميلا هاريس، نائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس. فقالت: لقد ارتكب بايدن خطأ عندما قرر بشكل مباشر ترشيح هاريس للرئاسة. كان يجب عليه أن يطلب من المؤتمر الوطني الديمقراطي تقديم مرشح. وبذلك يمكن أن يكون لدى كاميلا هاريس فرصة للتنافس مع ذلك المرشح من خلال الانتخابات التمهيدية. وربما تكون لدى حاكمة ولاية ويسكونسن فرصة جيدة للفوز. هاريس انتهازية وليست قوية بما يكفي لمنصب القيادة؛ لقد قضت أربع سنوات تقريبًا في الظل. لا أحد يعرف عن مواقفها تجاه العديد من القضايا.
وسألتها عن التظاهرات التي قادها الطلاب في الجامعات الامريكية ضد ما يجري في غزة واستمرارهم رغم المضايقات التي تعرضوا. فقالت: يتمتع الطلاب بموقف جيد للتعبيرعن أنفسهم بحرية دون الاكتراث بالضغوط التي تفرضها عليهم إدارة الجامعة. إنهم يحافظون على الديمقراطية بشكل جيد جدا. وأضافت لم أسمع أو أشهد انتهاكًا فظيعًا لحقوق الإنسان مثل الذي يحدث في غزة. يعاني المدنيون من الجوع ونقص الأساسيات مثل الأدوية، بما في ذلك مراكز الرعاية الطبية والمستشفيات. في الوقت الحاضر، يحكم إسرائيل سياسيون تقودهم عقلية المستوطنين، وليسوا مثل السياسيين القدامى الذين كانت لديهم عقلية غربية وليبرالية. يلعب الليبراليون دورًا مهمًا من خلال محاولة الحد من السلوكيات القاسية التي يمارسها المستوطنون. وسألتها عن القيادة حيث قلت: الا تعتقدين ان هناك نقصا في القيادة على مستوى العالم، فقالت:
– على المستوى العالمي، نعم، هناك نقص في القيادة التي يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في السيطرة على القضايا الدرامية التي تحدث في العالم. وقبل ان اغادرها بادرتها بسؤال: هل تعتقدين ان الولايات المتحدة يمكن ان تكون محايدة في موقفها اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي؟ وكانت اجابتها (لا). لم يسعفني الوقت لأسائلها برأيها (لماذا) لكني قررت ان اسألها إذا ما سمحت الفرصة للقائها في المرة القادمة، الا ان القدر لم يمهلها طويلا فرحلت فيبي مار الباحثة التي طالما حلمت ان يكون للعراقيين هوية وطنية واحدة توحدهم.

-عبد الجبار جعفر
ماجستير اتصالات إستراتيجية – الجامعة الامريكية/ واشنطن
https://www.facebook.com/jabbar.jaafar.1
https://x.com/JabJafar

أحدث المقالات

أحدث المقالات