خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن الحضارة اليونانية وكيف أنها تشكلت ببطء علي مدار السنين من تنوع عرقي وثقافي. وذلك في الحلقة السابعة بعد المائة وثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
فتح الدوريين..
يحكي الكتاب عن هجرة جديدة: “اجتاحت بلاد اليونان حوالي عام 1104 موجة جديدة من الهجرة أو الغزو متدفقة من الشمال القلق المضطرب النازع إلى التوسع؛ فقد انزلق، أو سار إلى البلوبونيز، أو تدفق عليها، شعب ذو روح حربية، طويل القامات، مستدير الرؤوس، معدوم الصلة بالأدب، بعد أن اخترق إليريا وتساليا وعبر خليج كورنثة عند نوبكتوس، ومضيق كورنثة عند كورنثة نفسها، واستولى على البلاد وقضى على الحضارة الميسينية قضاء يكاد يكون تاما. وكل ما نقوله عن أصلهم وعن الطريق الذي سلكوه لا يرقى إلى أكثر من الحدس والتخمين.
أما أخلاقهم وأثرهم في البلاد التي فتحوها فإن علمنا عنهما يرقى إلى مرتبة اليقين. لقد كانوا ما يزالون في مرحلة الرعي والصيد؛ وكانوا من حين إلى حين يستقرون لفلح الأرض، ولكن جل اعتمادهم كان على ماشيتهم، وكانت حاجة هذه الماشية إلى المرعى الجديد سببا في كثرة تنقلهم وعدم استقرارهم. وكان الشيء الوحيد الموفور عندهم وفرة لم يسمع بها عند غيرهم هو الحديد؛ ومن أجل ذلك كانوا هم رسل الثقافة الهلستانية إلى بلاد اليونان؛ وكانت صلابة أسلافهم وشدة بأسهم سبباً في تفوقهم على الآخيين والكريتيين، وفي قسوة قلوبهم وبطشهم الشديد، وكان الآخيون والكريتيون وقتئذ يستخدمون أسلحة من البرونز. والراجح أنهم تدفقوا من الغرب والشرق، من إليس ومجارا، على ممالك البلوبونيز المتفرقة الصغيرة وذبحوا بسيوفهم طبقاتها الحاكمة.
واتخذوا من بقي من الميسينيين أرقاء. ودمرت النيان وتيرينز وأضحت أرجوس عاصمة جزيرة بلوبس وظلت كذلك مائتين من السنين. واستولى الغزاة في برزخ كورنثة على أكروكورنثوس وهي قمة عالية تشرف على ما حولها وتسيطر عليه، وشادوا حولها مدينة كورنثة الدورية وفر أمامهم من بقي حيا من الدوريين، فلجأ بعضهم إلى جبال البلوبونيز الشمالية، وبعضهم إلى أتكا، وعبر بعضهم البحر إلى الجزائر وإلى سواحل آسية. واقتفى الفاتحون أثرهم إلى أتكا ولكنهم صدوا عنها؛ وجاءوا في أثرهم إلى كريت، ودمروا ما بقي من نوسس تدميرا تاما؛ واستولوا على ميلوس وثيرا، وكوس، ونيدس ورودس. وكان الخراف أشمل وأتم في جميع أنحاء البلوبونيز وكريت حيث ازدهرت الثقافة الميسينية أكثر من ازدهارها في غيرها الأصقاع”.
عودة الهرقليين..
وعن ذلك الفتح الدموي يواصل الكتاب: “وهذه الكارثة الختامية التي وقعت في العصر السابق للحضارة الإيجية هي المعروفة لدى المؤرخين المحدثين باسم الفتح الدوري، والتي تسميها الرواية اليونانية “عودة الهرقليين”. ذلك أن الظافرين لم يقنعوا بأن يسموا انتصارهم هذا غلبة أقوام همج على شعب متحضر، بل قالوا إن ما حدث في واقع الأمر هو أن أبناء هرقل، ومن تناسلوا من أبنائه، حيل بينهم وبين حقهم المشروع في العودة إلى البلوبونيز، فانتزعوا هذا الحق بقوة سواعدهم وبطولتهم. ولسنا نعرف ما في هذا القول من الحقائق التاريخية، وما فيه من الأساطير الدبلوماسية التي يقصد بها تصوير هذا الفتح الدموي في صورة حق مقدس. وإنا ليصعب علينا أن نعتقد أن الدوريين قد برعوا في الكذب هذه البراعة كلها في شباب العالم. وقد تكون القصتان كلتاهما صحيحتين وهو ما لم يسلم به المحاجون: فقد يكون الدوريون غزاة فاتحين من الشمال يقودهم أبناء هرقل وحفدته.
ومهما يكن مظهر هذا الفتح فإن ما ترتب عليه من الأثر هو أنه عاق تقدم بلاد اليونان ونماءها زمنا طويلا، وأصابها بمحنة شديدة. فقد ظلت أحوالها السياسية مضطربة قرنين كاملين، فقد كان كل رجل فيها يحمل السلاح لأنه بات غير مطمئن على حياته؛ وزادت أعمال العنف زيادة مطردة فعطلت أعمال الزراعة والتجارة البرية والبحرية، واشتعلت نيران الحرب وعلا سعيرها، وازداد الفقر شدة وانتشاراً؛ وأصبحت الحياة قلقة مضطربة لأن الأسر أخذت تنتقل من إقليم إلى إقليم طلباً للأمن والسلم”.
عصر الحديد..
ويضيف الكتاب عن مشاعر الخوف والاضطراب: “ويسمى هزيود هذا العصر عصر الحديد، ويأسف على فساده وانحطاطه عن العصور الجميلة التي سبقته، وكان كثير من اليونان يعتقدون أن “كشف الحديد قد أضر بالإنسان”؛ واضمحلت الفنون وأهمل التصوير، وقنع المثالون بنحت التماثيل الصغيرة الملونة؛ وانحطت صناعة الفخار لأن الصناع غفوا عما كان يمتاز به فن ميسيني وكريت من نزعة طبيعية حيوية، فاتبعوا “طرازا هندسيا” لا حياة فيه، ظل يسيطر على فن الخزف اليوناني جملة قرون.
ولكن الخسارة لم تحل بكل شيء، فقد امتزج العنصر الجديد بالقديم امتزاجا سريعا في خارج لكونيا وامتزاجا بطيئا في داخلها، على الرغم من تصميم الغزاة الدوريين على أن يحتفظوا بدمائهم نقية طاهرة من دماء الأهلين المغلوبين، وعلى الرغم من الكراهية العنصرية بين الدوريين والأيونيين، وهي الكراهية التي اصطبغت بها بلاد اليونان على بكرة أبيها. ولعل امتزاج دم الآخيين والدوريين القوي النشيط بدم الشعوب التي هي أقدم من هذين الشعبين وأرق، والتي كانت تقيم في جنوبي اليونان، لعل هذا كان ذا أثر حافز منشط. ومهما يكن لهذا الامتزاج من أثر فإن النتيجة النهائية التي أسفر عنها بعد قرنين من الزمان هي نشأة شعب جديد مختلفة عن الشعوب التي كانت تعيش من قبل في تلك البلاد، امتزجت فيها دماء عناصر “البحر الأبيض المتوسط” و “الألبي” و “الشمالي (النوردي)” والعناصر الآسيوية امتزاجا أدى إلى كثير من القلق والاضطراب”.
الحضارة الميسينية..
وعن بقاء بعض أثار الحضارة الميسينية يكمل الكتاب: “كذلك لم تمح الحضارة الميسينية من الوجود. فقد بقيت الحياة كامنة طوال قرون العنف والفوضى في بعض عناصر التراث الإيجي- كطرائق الحكم والنظام الاجتماعي، وعناصر الصناعات اليدوية والفنية، وأساليب التجارة وطرقها، وأشكال العبادة وأدواتها، والمهارة في صنع الخزف والنقش، وفن طلاء المظلمات، وأساليب الزينة وطرز العمارة. ويعتقد اليونان أن النظم الكريتية قد انتقلت إلى إسبارطة، وقد ظلت الجمعية الآخية عنصرا أساسيا في بلاد اليونان الديمقراطية. وأكبر الظن أن تصميم الهياكل الدورية قد أخذ عن الميسينيين، بعد أن خلعت عليه الروح الدورية حرية وتناسقا وقوة. وانتعشت التقاليد الفنية انتعاشا بطيئا، فرفعت كورنثة وطيبة وسكيون وأرجوس إلى نهضة فنية مبكرة شبيهة بالنهضة الأوربية التي أعقبت العصور الوسطى، وجعلت الفن والغناء يبتسمان في إسبارطة العنيدة نفسها، حينا من الدهر، وظلت هذه التقاليد تبعث الحياة في الشعر الغنائي طوال هذا العصر المظلم الذي لا تاريخ له.
وحملها معهم البلاسجيون والآخيون، والأيونيون، والميناويون المنفيون في هجرتهم إلى جزائر بحر إيجة وإلى آسية هرباً من الغزاة الفاتحين، وأعانت المدن التي أقامها المستعمرون على أن تفوق أمهاتها في الآداب والفنون. ولما جاء المنفيون إلى الجزائر وإلى أيونيا وجدوا بقايا الحضارة الإيجية فاستولوا عليها واستعانوا بها. فقد احتفظ عصر البرونز بشيء من المهارة والنضارة القديمتين في المدن القديمة بهذه الجزائر، لأنها كانت أقل اضطرابا من مدن القارة الأوربية، وهناك في هذه الأرض الآسيوية بدأت بعدئذ يقظة اليونان الجديدة.
وبعث هذا الاتصال بين خمس ثقافات- الكريتية والميسينية والآخية، والدورية والشرقية- الشباب من جديد في حضارة بدا يدب فيها دبيب الفناء، حضارة فقدت رقتها في أرض القارة بفعل الحرب والنهب، وأصبحت حضارة منحلة مخنثة في كريت لما ركنت إليه عبقرية أهلها من ترف. وقد اجتاح امتزاج السلالات والأساليب قروناً عدة حتى استقر بعض الاستقرار، ولكنه أعان على خلق ما في التفكير اليوناني والحضارة اليونانية من تنوع، ومرونة، ودقة منقطعة النظير. وليس من حقنا أن ننظر إلى الثقافة اليونانية على أنها وميض لاح فجأة، وبطريقة غير عادية، في بحر مظلم من الهمجية، بل إن علينا أن ننظر إليها على أنها عملية بطيئة كدرة أدت إلى خلق شعب غني غنى يكاد أن يكون مفرطاً في تنوع مائه وفي ذكرياته، تحيط به وتتحداه، وتعلمه، جموع همجية، وإمبراطوريات قوية وحضارات قديمة”.