31 يناير، 2025 12:13 ص

انا ونخل السماوة وقرار الاب القائد

انا ونخل السماوة وقرار الاب القائد

كنت فتى لم اتجاوز السادسة من العمر حينما تنبهت الى اغنية نخل السماوة للفنان الرائع حسين نعمة والذي كان يتربع مع عدد محدود من المطربين على عرش الاغنية العراقية في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ومنهم الفنانين ياس خضر وسعدون جابر وفاضل عواد وحميد منصور ورياض احمد وفؤاد سالم. كنت طالبا في الصف الاول الابتدائي في مدرسة الذهب الاسود الابتدائية، وكان والدي رحمه الله قد تم تعيينه للتو بمرسوم جمهوري قاضيا بوزارة العدل (وكان يسمى حاكما) ومنسبا للعمل في وزارة العمل. وكنت مغرما باغنية نخل السماوة ودائما ما اردد مقطعين منها فقط:
نخل السماوة يكول
طرتني السمرة
سعف وكرب ظليت
ما بيه ثمرة
وشجابه للغراف
طير المجرة
سابيها كل هالناس
حيرني بامره
في هذا الوقت كان والدي قلقا جدا لأنه حدث خلاف بين وزير العدل ووزير العمل بشأن تأسيس ما سميت بمحكمة العمل، ورأى وزير العدل انه لا ينبغي ان يكون في القضاء اية ازدواجية وكان يقف ضد المحاكم الاختصاصية خارج سلطة وزارة العدل. ادى هذا الخلاف الى عرض الموضوع امام عناية الرئيس المرحوم احمد حسن البكر. ولقد كان والدي يفضل ان يتم تعيينه في محكمة العمل لأن ذلك ضمانا لتعيينه في بغداد، معشوقته التي لا يريد ان يتركها ابدا حتى لو ضحى بوظيفة قاضي. بينما لو يتم تنسيبه الى المحاكم العراقية التابعة لوزارة العدل فانه ينبغي ان يبدأ في مركز محافظة او قضاء بعيد عن بغداد. في هذا الوقت الصعب الذي كان يمر به والدي والامر اصبح بيد الاب القائد رحمه الله كما يسميه العراقيون، ولا يستطيع احد ان يتوسط لدى الاب القائد في امور القضاء التي كان يحترمها جدا ويضع لها مكانة خاصة في ادارته للدولة (وهذا الكلام لأبي رحمه الله)، في هذا الوقت كنت اردد اغنية نخل السماوة واحيانا بصوت عالي ولا سيما عندما ارجع من المدرسة واشعر بالحرية التي كانت تطوقها بكثير من الضوابط مديرتنا الراقية والمنضبطة الست وفية العبللي رحمها الله بواسع رحمته. في يوم ربيعي من عام 1972 جاء والدي من العمل وهو غاضب ونظر اليّ وقال سويتها ولك محمود؟، فقالت له والدتي وماذا فعل محمود؟ قال لقد قرر الرئيس البكر الغاء تنسيبي وباقي الحكام الى وزارة العمل وتم نقلي الى قضاء الخضر بمحافظة المثنى عندها فقط ادركت والدتي ان الوالد رحمه الله كان يقصد اغنية نخل السماوة التي كنت ارددها ولمدة طويلة. بعد ذلك اصبحت هذا الحادثة قضية للتندر في الاسرة كلما سمعنا الاغنية او ظهر الفنان حسين نعمة في التلفزيون.
ذهبنا الى قضاء الخضر وقال والدي بعد عام ساكتب طلب لنقلي من الخضر الى مكان قريب من بغداد. مرت خمسة اعوام قبل ان يتم نقله ومن دون ان يقدم طلبا لأحد الى عضو محكمة جنايات محكمة السماوة، والتي قضى فيها عامين اخرين قبل ان ينقل الى محكمة استئناف كركوك. لقد قضينا سبعة اعوام جميلة في مدينتي الخضر والسماوة واستمتعنا بطيبة اهل المثنى واخلاقهم العربية الاصيلة. وتكونت لدينا باهلها صداقات استمر بعضها الى يومنا هذا.
بقيت عاشقا لهذه الاغنية التي ذكر لي الفنان حسين نعمة يوما ان كلماتها من التراث الدارمي العراقي القديم وغير معروفة الكاتب، وهي من الحان الفنان حسين نعمة نفسه. لقد غنى هذه الاغنية كثيرون بعد الفنان حسين نعمة ولكنني لم اتوقف الا امام فرقة سومريون وهم يؤدونها برقي بالغ بقيادة المايسترو المتألق علاء مجيد.
تبقى نخل السماوة علامة من علامات الفن العراقي الأصيل، ويبقى حسين نعمة علامة فارقة في الفن العراقي المتميز، وتبقى السماوة شامخة بنخلها الباسق واخلاق اهلها العروبية الاصيلة وصحرائها الممتدة الى جزيرة العرب.
ورحم الله الاب القائد احمد حسن البكر وجزاه الله الجنة على حبه للعراق ولأهل العراق
ورحم الله ابي الذي مات في الغربة وعيناه تنطر (تنتظر) الخبر من بغداد.

أحدث المقالات

أحدث المقالات