خاص: إعداد- سماح عادل
“تشيزاري بافيزي” شاعر وروائي وناقد فني ومترجم إيطالي، من أهم الأدباء الإيطاليين في القرن العشرين. صدرت له نحو 10 أعمال أدبية مابين الشعر والرواية والقصة القصيرة.
حياته..
تعلم في بلدة سان ستيفانو، وانتقل إلى تورينو لإكمال دراسته الثانوية. اهتم بالأدب الإنجليزي وتخصص فيه بعد أن ألتحق بجامعة تورين بإيطاليا، وأطروحته كانت عن الشاعر “والت وايتمان”، ترجم أعمال من الأدب البريطاني والأمريكي الكلاسيكي والحديث، الذي كان في ذلك الوقت غير معروف بإيطاليا.
انضم “بافيزي” لحركات مناهضة للفاشية وفي 1935 قبص عليه بعد أن ثبت تلقيه رسائل من سجين سياسي لينفى بعد عدة شهور إلى جنوب إيطاليا مع آخرين وجهت إليهم نفس التهم ليعود بعد عام إلى “تورين” ويعمل مترجما لدى الناشر “جوليو إينودي”.
عندما كان في روما استدعي للتجنيد في الجيش الفاشي، ولكنه سرح بعد ستة أشهر قضاها في المستشفى العسكري نتيجة لإصابته بالربو، وعندما عاد إلى “تورين” وجد الألمان قد احتلوا الشوارع وأصدقاءه شكلوا مجموعات لمحاربة الألمان، فهرب “بافيزي” إلى الجبال القريبة من مدينة “كازالي مونفيراتو” ولم يشارك في القتال الدائر حينها.
بعد انتهاء الحرب اشترك “بافيزي” في الحزب الشيوعي الإيطالي، وعمل في صحيفة الحزب وهي الفترة التي أنتجت فيها معظم أعماله، وكان “بافيزي” يزور باستمرار مسقط رأسه والتي كان يجد فيها العزاء من الاكتئاب والأزمات التي يلاقيها، فقد ذهب إليها بعد قصة حب قصيرة انتهت بالفشل مع الممثلة الأمريكية “كونستانس داولينغ” والتي هجرته وعادت إلى بلادها، وقد أهدى “بافيزي” روايته الأخيرة إليها.
أعماله..
روايات:
رواية (بلداتكم) عام 1941.
رواية (الشاطئ) عام 1941.
رواية (عطلة آب) عام 1946.
رواية (الرفيق) عام 1947.
رواية (الشيطان في التلال) عام 1948.
قصص قصيرة..
(منزل في التلة) مجموعة قصصية عام 1949.
(الصيف الجميل) مجموعة قصصية عام 1949.
شعر:
(ليأت الموت ويأخذ عينيك) مجموعة شعرية نشرت بعد وفاته عام 1951.
انتحار..
بسبب قصة حب فاشلة إلي جانب الإحباط السياسي الذي أصابه تناول “بافيزي” جرعة مفرطة من الباربيتورات في 1950، وفي نفس العام فاز بجائزة Strega Prize عن روايته La Bella Estate.
أجواء ما قبل الانتحار..
في مقالة بعنوان (الشاعر الإيطالي يكشف أسرار الكتابة ويرسم أجواء ما قبل الانتحار) كتب “أنطوان أبو زيد”: “تشيزاري بافيزي، أحد أكثر الكتاب والشعراء الإيطاليين (1908-1950) الذين حيكت حولهم قصص وأجريت دراسات، وأعدت أفلام عن حياتهم القصيرة الصاخبة والتي وضع لها صاحبها حداً، وهو لما يزل في الـ 42.
” 15عاما من التدوين” الكتاب الصادر عن دار منشورات الجمل بعنوان “مهنة العيش” لتشيزاري بافيزي، وهو يوميات، كان المؤلف قد ثابر على تدوينها طوال 15 عاماً (1935- 1950)، وصدرت بعد مماته عام 1952. هذه الترجمة إلى العربية التي أعدها الكاتب والمترجم صالح الأشمر عن الفرنسية، هي الثانية بعد ترجمة عباس المفرجي للكتاب نفسه والعنوان عينه. ولئن كنت أفترض أن الكاتب الإيطالي، موضوع المقالة، بافيزي بات معروفاً لدى القراء العرب، وأن كتاب “مهنة العيش” بدوره سبق لهم أن تعرفوا إليه بصورة عامة وإجمالية، فإن من الصعب استنفاد أفكار بافيزي النقدية والفلسفية والأسلوبية التي انطوت عليها اليوميات، بل فاضت بها، إذ اختلطت الوقائع لديه بالأفكار المقتبسة بالآراء الجمالية والفلسفية المستخلصة من تجاربه اليومية ومن تمرسه الطويل في الكتابة الشعرية، ومن ميله المتشائم الناجم عن يتم مبكر ووحدة قاسية.
وعلى ما تبين للقراء فإن المسائل الشخصية المحضة وتأملاته في صعوبات الكتابة والتحولات التي طرأت على أسلوبه عبر الزمن، وفي معنى الأدب وقيمة أعماله الأدبية وقيمة الأدب بحد ذاته، هي التي طغت على ما عداها من المواضيع بما ينسجم مع الطابع الحميم لليوميات، بصيغتها التي ارتأى بافيزي تقديمها بها.”
الموت داخلك..
في مقالة بعنوان (والموت داخلك) كتب: “محمد سمير مصباح”: “في مساء 27 أغسطس/ آب 1950، في مدينة تورينو الإيطالية بجوار محطة بورتا نوفا، طرق موظف بفندق روما باب غرفة 346 بالدور الثاني، التي لم يخرج منها صاحبها منذ الليلة الماضية. بعدما طال انتظاره، زاد توتره فاضطر لفتح الباب بالقوة، ليجد نزيلهم ممددا في سريره دون حراك، ورأسه على الوسادة ومرتديا ملابسه، وبجانبه ستة عشر علبة فارغة من حبوب Veronal المنومة، وعلى المنضدة بجانب السرير كتابه المفضل حوارات مع ليوكو، وقد كتب على صفحته الأولى “أنا أسامح الجميع، وأطلب المغفرة للجميع. حسنا؟ لا داعي للكثير من الثرثرة”.
لم يكن موظف الفندق يعلم وقتها أنه شهد “الرذيلة السخيفة” لأحد أبرز الشعراء والكتاب الإيطاليين المعاصرين، تشيزاري بافيزي، الذي كانت رذيلته التي طاردته طوال حياته هي رغبته في الانتحار. راودته الفكرة كثيرا وحاول تنفيذها صغيرا؛ إذ قرر مدفوعا باليأس، تَسلُّق أحد التلال ومحاولة الانتحار، بعد ثلاثة أيام من انتحار “إيليكو بارالدي” زميله في مدرسته الثانوية، لكن إرادة الحياة كانت لا تزال قوية بداخله فاستسلم لها وأطلق رصاص مسدسه على شجرة. منذ تلك اللحظة، لم يفارقه شبح الانتحار أبدا.”
المرأة ..
وتضيف المقالة: “قبل حادثة الفندق بتسعةِ أيام، وجه تشيزاري بافيزي إلى روحه رصاصة تحمل أنينا صارخا، أطلقها في يومياته مهنة العيش بجملته الختامية “كل هذا بائس. لا كلمات. لا إشارة. لن أكتب بعد الآن”. وفي تلك الأيام الأخيرة، كان يتنقل وحيدا في شوارع روما، إذ كان يفضل مغادرة منزله في شارع لامارمورا والتسكع في الشوارع، أو زيارة شقيقته وبناتها، أو النوم في أحد الفنادق. وفي أحد الأمسيات، زار رؤساء تحرير بعض الصحف وجلس معهم ومع صحفيين آخرين في ناد في وسط المدينة، دون أن يترك نواياه الانتحارية تتسرب إليهم.
يبدو أن مقولة “فَتش عن المرأة”، التي وردت في رواية موهيكان باريس (1854) للروائي الفرنسي الشهير ألكسندر دوما، تنطبق على حياة “بافيزي”، إذ كان يشعر طوال حياته باستحالة أن يكون محبوبا من أي امرأة. كانت المرأة هي مفتاح حكايته وسبب مأساته.
رغم ولادة بافيزي (9 سبتمبر/ أيلول 1908) في عائلة برجوازية، فإن تفاصيل طفولته كانت المحرك الأول لأفكاره الانتحارية واكتئابه شبه المزمن. سبقه في الميلاد بستة أعوام أخته ماريا، ولكن قبل ولادته، توفي ثلاثة أبناء للأسرة (طفلان ماتا بعد الولادة مباشرة، وطفلة أخرى بسبب الدفتيريا)، ومات والده أوجينيو بافيزي، الذي كان يعمل مستشارا في قصر دي جوستيزيا في مدينة تورينو، بسبب ورم في المخ، عندما كان تشيزاري في الخامسة من عمره.
تسببت كل تلك الأحزان في ضعف صحة الأم فيورنتينا كونسولينا مستوريني، واتصافها بالحدة والقسوة والتسلط. ربما لم تحبذ الارتباط الحنون مع طفليها، بعد خسارتها لثلاثة أبناء وزوج، وفضلت التحرر مِن حب من حولها حتى لا تنكسر بشدة عند خسارتهم. وكانت نتيجة عدم قدرتها على رعاية ابنها، أن تركته منذ ولادته لممرضة من مدينة مونتيكو لتتولى رعايته، ثم أعادته معها إلى تورينو وتولته ممرضة أخرى هي فيتوريا سكاليوني. واضطرت الأم، فيما بعد، أن تربي طفليها (ماريا وتشيزاري) بمفردها، تربية صارمة، ما ساهم، إلى جانب مآسي الأسرة، في إبراز شخصية بافيزي المضطربة والانطوائية، وشعوره بأنه غير محبوب.
ولم ينس بافيزي مشهدا لأمه وهو في الخامسة من عمره أحدث له اضطرابا كبيرا. كان والده يحتضر، وتوسل إليها لتسمح له أن يرى للمرة الأخيرة، جارة لهم كانت عشيقته في يوم من الأيام، فرفضت الزوجة. لم يفهم الطفل بافيزي وقتها معنى عشق والده لامرأة أخرى غير والدته، بل ما ترسخ بداخله من ظاهر هذا المشهد هو تعنت وقسوة أمه في رفضها لتوسلات شخص يحتضر وعدم تنفيذ رغبته الأخيرة، وسينسب هذه الصفة إلى الجنس الأنثوي بوجه عام.”
قبل الموت..
تواصل المقالة : “قبل وفاته بفترةٍ وجيزة، كتب إلى روميلدا بولاتي (أخت الناشر جوليو) البالغة من العمر ثماني عشرة سنة وقتها، التي أطلق عليها اسم بيرينا:
عزيزتي بيرينا، مهما كانت حياتك جافة وشبه ساخرة، لكنك لست في نهاية الشمعة مثلي. أنت شابة، شابة بشكل لا يصدق، أنت ما كنت أنا عليه في الثامنة والعشرين عندما كنت مصمما على الانتحار بسبب خيبة أمل، لم أفعل. كنت أشعر بالفضول بشأن الغد، فضولي بشأن نفسي. بدت الحياة مروعة بالنسبة لي ولكن ما زلت أجد نفسي مثيرا للاهتمام. (…) هل يمكنني أن أخبرك، يا حبي، أنني لم أستيقظ أبدا وامرأة بجانبي، وأن من أحببته لم يأخذني على محمل الجد أبدا؟ …
هذا هو حزنه الذي لا يطاق، إذ كان من أهم أسباب تعاسة بافيزي، طوال حياته، هو استحالة أن يكون محبوبا. هواجسه هي: استحالة الحب، وعدم القدرة على العيش بطريقة بسيطة ومباشرة، ما جعل كل تفاصيل حياته خاضعة للتفكير، وكلما زاد تفكيره في أوجه القصور في وعيه، والأشياء التي تؤرقه بشكل مزمن، يكتب عنها، فتتحول إلى نقاط ضعف مرضية ولا يمكنه التغلب عليها.
أثناء دراسته في المدرسة الثانوية، أصيب بمرض التهاب الجنبة بعد أن ظل لأكثر من ست ساعات واقفا تحت المطر في انتظار فتاة استعراضات (كارولينا مينيوني)، كان وقع في حبها، وكتب لها عددا لا يحصى من الرسائل، التي لن تقرأها أبدا إلا عقب نشرها بعد انتحاره، لأنها كانت طلبت من أمها إميليا، ألا تمرر لها سوى رسائل الرجال الأثرياء المهمين، التي يمكنها الاستفادة منهم في حياتها المهنية”.
نصوص ل“تشيزاري بافيزي”..
ترجمة: جمانة حدّاد
سيجيء الموت وستكون له عيناكِ
هذا الموت الذي يرافقنا
من الصباح الى المساء
أرِقاً، أصمّاً،
كحسرة عتيقة
أو رذيلة بلا جدوى.
ستكون عيناك حينئذ
كلمةً قيلت سدى
صرخة مكتومة، صمتاً ستكونان
مثلما تتراءيان لكِ كل صباح
حين تنحنين على ذاتك في المرآة.
في ذلك اليوم يا أملاً غالياً
نحن أيضاً سوف نعرف
أنّ الحياة أنتِ وأنك العدم.
يرتدي الموت نظرةً لكل منا:
سيجيء الموت وستكون له عيناكِ
سيكون له طعم التخلّي عن رذيلة
سوف يشبه رؤية وجه مضى
ينبثق من الخيال
كما الإنصات الى شفتين مغلقتين سيكون.
آنذاك
سوف ننزل إلى الهاوية بسكون.
***
لك دمٌ، ولهاثٌ
جسدٌ
شعرٌ ونظرات.
الأرض والزرع
سماء آذار والنور
تتموّج وتشبهك.
ضحكتك وخطواتك مثل مياه ترتعش
جسدك الطري مرج وسط الشمس
الخطوط التي بين عينيك
كم تشبه قطاف الغيوم!
لك دمٌ ولهاث
تعيشين على هذه الأرض
تعرفين نكهاتها
فصولها ويقظاتها
تلعبين في الشمس
ومعها تتكلّمين
يا ماء صافياً يا سليلة الربيع
يا غيمة تتدفق كنبع من الأعماق
وثمرة حلوة تسطع تحت سماء مبرعمة
في صمتكِ المغمد تكمن قوتك
ومثل عشبة حيّة في الهواء
ترتعشين وتضحكين.
أنتِ الزرع
وجذوره المفترسة
أنت الأرض التي تنتظر.
***
تمضي الصباحات صافية ومقفرة .
مثلها كانت عيناك
تتفحتان في ما مضى .
كان الصباح بطيئاً يمضي ،
وكان لجة من النور الجامد .
صامتاً كان ومثله كنت وأنت حية،
الأشياء كانت تنطق بالحياة تحت عينيك
( لا حزن، لا حمّى، لا ظلال )
مثل بحر عند الصباح ، صاف .
حيث أنتِ، أيها النور، يرى الصباح النور !
الحياة كنت والأشياء.
وكنا فيك نتـنفس يقظين
تحت هذه السماء التي ما زالت فينا.
لا حزن لا حمّى إذن،
ولا ذاك الظل الثـقيل
لنهار طافح ومختلف.
أيها النور، يا صفاء بعيداً،
يا نفساً يلهث ،
وجّهي أنظارك الجامدة والصافية إلينا .
مظلم هو كل صباح يمضي
من دون نور عينيك.
***
أنتِ مثل أرضٍ
لم يقلها أحد قطّ
لا تنتظرين شيئا
سوى الكلمة التي ستنبجس من قاعك
كثمرة من بين الأغصان.
دائماً تأتين من البحر
وصوتكِ مثل صوته أجشّ.
***
الرجل الوحيد يصغي الى الصوت الهادىء
بنظرة منفرجة،
وشبه نفس يرقد على وجهه،
نفس صديق يرتقي، عجيباً، الى زمن مضى.
الرجل الوحيد يصغي الى الصوت القديم
الذي سمعه آباؤه في ما مضى، جلياً
وموحّداً.
صوت يكفهرّ عند السماء
كما خضرة المستنقعات والقبب.
الرجل الوحيد يعرف صوتاً من ظلال، عذباً،
يتفجّر في أنغام النبع السرّي الهادئة:
يشربه مأخوذاً، مغمض العينين،
فلا يبدو انه قربه.
ذلك هو الصوت الذي استوقف يوماً
والد والده، وجميع ذوي الدم الميت.
صوت امرأة هو، يُــعزَف سراً
على عتبة المنزل، حين ينسدل الظلام.