نتأمل ونتمنى، وتسير بنا الأيام وتعصف بنا السنين بين هذا وذاك… بين الهموم والسعادة، وبين ليالي اللعب في براري الريف ومدن الألعاب ورفاهية المترفين والأغنياء والفقر الشديد للمحرومين والبؤساء…
لحظات وذكريات ذهبت في أدراج الزمن، لكنها باقية في خزانة العقول نتذكرها يا صديقي العزيز، فيها المخيف المحزن وفيها الخبر المفرح…
لم يكن لنا موعد مع القدر في يوم من الأيام، لكننا نتذكر أولئك الرجال الذين قدموا لنا كل ما يمتلكون من طاقات ولم يضعوا في حساباتهم أي حدود لتلك الطاقات… رجال صدقوا بكلامهم وأوفوا في عهودهم، كانوا فرسان زمانهم، استطاعوا أن يصلوا بالأجيال التي نعيش معها إلى بر الأمان…
يا صديقي العزيز،
أتذكر والدك جيدًا، صاحب الابتسامة التي لا تفارقه دومًا رغم أنه يخفي خلفها لوعات الزمن وتجاعيد ولّدتها في وجوههم قساوة الحياة…
وهنا أعيد الذكريات وأتكلم عن أولئك الآباء وهم يقومون بتلبية كل طلبات عوائلهم، وخاصة متطلبات أبنائهم من الشباب الذين تجد طلباتهم مبنية على أساس تلبية رغباتهم حتى وإن كانت ضمن الفائض من الحاجيات الدنيوية…
عندما تحين ساعات الفجر الأولى وتسمع صوت سيارته وهو يخرج إلى العمل بها كونها مخصصة لنقل الحاجيات من القرية إلى المدينة، ورغم أنه من المتقاعدين العسكريين إلا أن طموحه بأن تكونوا الأفضل من بين أبناء جيلكم من أقاربكم وأصدقائكم.
كان ذلك الأب الناجح في كل معايير النجاح والأب المثالي في تعليمكم مبادئ الحياة الصحيحة ووضع الأسس الحقيقية لتلك العائلة التي كان ثمارها نخبة من حملة الشهادات العلمية وهم يضعون الرتب العسكرية على كتوفهم مدافعين في ساحات الوغى عن ذلك الوطن العزيز ناذرين أنفسهم فداء له…
ذكريات يا صديقي العزيز نتكلم عنها اليوم ونحن نودع أحد فرسان قريتكم والذي كان تربطه روابط متينة وقوية مع والدك…
هذا الفارس الذي ترجل اليوم عن صهوة جواده مودعًا إلى عالم الغيب والشهادة ملتحقًا بالرفيق الأعلى تاركًا بيننا سيرة حياة فارس خالدة بدأها بحياته العسكرية منذ شبابه وبعد أن أحيل إلى التقاعد بدأ حياته في العمل في القطاع الخاص وبالتحديد في مجال تجارة الأجهزة الكهربائية وواصل مسيرته مع هذه المهنة وقد أدى رسالته في أتم وجه مع عائلته…
نعم، أصبح اليوم تاريخهم ذكريات فخر واعتزاز نكتبها ونرويها للأجيال القادمة… نكتب بين سطورها أن التضحية بكل مسمياتها هي تقديم مصلحة العائلة على مصلحتهم الشخصية… والإيثار على النفس هو أسمى وأرقى غاية الجود…
نعم، صديقي العزيز،
إنها ذكريات، مجرد ذكريات.