يقول أدهم شرقاوي : (( تعالي نختلق حديثاً صباحياً عن أي شيء , حتى لو كان عن أن القهوة مرة وحديثك سكر )) , ترد عليه إليف شفق : (( يقال أنّ القهوة مثل الحب , كلما صبرت عليها أكثر , ازداد طعمها حلاوة )) , فكن كما تشاء , ولكن حذاري أن تكون وجعا لأحد , كن كفنجان قهوة , دافء لاينبعث منه إلا رائحة طيبة ونكهة مزهرة , وليكن صباحك قهوة انت سكرها , (( فأغمض عينيك , وأغف , كي لاترى طيف من تحب على وسائد المسافات اغمض وحاول ان لا تتذكر, لأنك ان استعدت التواريخ سيكون ورائك الف تفصيل صغير سيصبّ في فنجان قهوتك صباحاً , ويصيبك بالجنون والذكريات التي تأتي بعد ليلة أرق سوف تتفنن في قلّب يومك)) .
في حوار القهوة يثبُ الفنجان من لهفته في يدي شوقاً الى فنجانها , وعندما تأودت , اعترفت له : (( ضبطت نفسي متلبسةً بحبك مثل طفلة صغيرة تسرق رغيف حنان )) وأشتكت له من قهر السنين لأن عمرها جاوزالسبعين , قال لها : (( لا , أنتِ في العشرينْ كصبيّةِ الأمسِ الجميلْ , يا حلوتي , تتغنّجينْ وسناءُ عينيكِ الشموسْ , وشفاهكِ لوزٌ ورمانٌ وتينْ , ما زلتِ كالأقمار تتألقينْ كالماسِ , كالمرجان كالحجر الكريم , تكابرين وضياءُ وجهكِ مثلَ فجرٍ من لُجَيَنْ , والنورُ في عينيكِ يهزأُ بالسنينْ, يا مَنْ بكلِّ عقودِ عمركِ تهزأين , لا يهمني أن يحمل وجهكِ كل صفات الجمال , ما يهمني حقا أن يكون عقلك كذلك أيضاً , كبّري عقلك , فالجمال يزول فيما العقل تتسع مداركه كلما مرت الأيام والسنين )) .
وفي فن مناغاة القهوة : ما بين روحي وروحك همسة شوق لا يسمعها الا نبض قلبي وقلبك , قد تكون بعيداً عن نظري لكنك لست بعيداً عن روحي , وفي لحظة الأكتئاب , تكون الشهقة عبارة عن نصف التفاتة لاتنتهي , حين يلتصق الرمش على الرمش لتنزل الدمعة الحارة , فيعقبها الاحتراق حيث للشعراء شموع تحترق في نزيف الكلمات , تجمعهم مع النص , تجليات على قيد موت , وفي زَحْمَة رغوة القهوة أحْتَاجَ إِلَى اَلْهُدُوءِ , وعندما ذَهَبَ بَعِيدًا لِيَكْتُم ضَجِيجَهُ , ثَرْثَرَة عَقْلَهُ أَرْجَعَتْهُ .
كانت قد تركت ذات مساء احمر شفاه على فنجان قهوته , ومن يومها أدمن ذاك الفنجان عشقا وولعا بها , فكتب : (( أتعلمين ما يقول لك فنجان القهوة ؟ مسكينة لا يمكنك تذوق طعم شفتيك , أتعلمين ما يقول لك كوب الماء ؟ بي عطش أليك , أتعلمين ما يقول لك المشط ؟ أغرسيني في شعرك أعمق )) , لا قيمة للحياة بدون عشق , لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده , روحي ام مادي , الهي ام دنيوي , غربي ام شرقي , فالانقسامات لا تؤدي الا الى مزيد من الانقسامات , ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف, انه كما هو نقي وبسيط , (( العشق ماء الحياة , والعشيق هو روح من النار , يصبح الكون مختلفا عندما تعشق النار الماء )).
عندما اشرب القهوة اشعر أنّ شجرة البُنّ الأولى زُرعت لأجلنا , النسيم ُ الدافيء في جُرح فمها , اكثر ُ نشوة ً من الاغنية , أغنية ٌواحدة ٌ بعشرات الألحان , لها الأنفاس ُ, ولَك الطَرَب ُالمكتوم , عرفت ألآن ان الشعور الذي كان يملأني بالغضب كل تلك الأيام كان شوقا مجهول الهوية , ثمة انسياب مدهش لك في داخلي , انسياب منبعه ومصبه عيناك , لا اعرف سحرا اقوى منهما , وتلك ليست مسألة اعتيادية متداولة , بل حقيقة , كلما اقتربتُ , ابتعدت , وكلما نسيتُ , تذكرت , كغيمة تمطر مرةً ثم تذوب في الأفق , حلمٌ أم حقيقة ؟ , آه من ذلك المزيج الغامض من الاثنين , ففي غمار الشوق تصبح الحدود غير واضحة.
عرضت عليك فنجان قهوة في محاولة أخيرة لاستبقائك , كيف سمحت لنفسي أن أكون سعيداً إلى ذلك الحدّ , وأنا أدري أنني لم أمتلك منك شيئاً في النهاية , سوى بضع دقائق للفرح المسروق , وأن أمامي متسعاً من العمر, للعذاب؟ فكل أرض أنك لست فيها أنا فيها غريب , و ثمة جوع لا يسده الا شخص واحد , وأنا جائع اليك , لقد تعبت من تمثيل دور الكتف, اريد أن أتكئ , كل تعويذات النوم والدعاء والقرآن وورق الغار تحت وسادتي لم تجلب لي النوم , مادام طيفك يدور في مخيلتي , ويقلقني , خنجر مدفون في لحم ذكرياتي أنت.
عندما أحتسى غسان كنفاني قهوته كتب الى زوجته آني : (( كنتُ أكبر منكِ بالعمر , وكنتِ أكبر منّي بالحب , فالنّساء حين تُحب , تُصبحن اُمّهات , و نحن الرّجال نصغر , نصغر حتی نصبح أطفالهن )) , (( لا زالت الأكواب تتزاحم على طاولة القدر , ورشفة العمر واحدة لم تتغير عميقة المذاق صاخبة المسك , جياش لونها , ثائرة الهدوء كحيلة النظرات ,عربية الحسن , تملأ الدنا من ثرثرة عشقها الخالد , وحديث الروح تحركه ملعقة الشوق المغمورة بالوجد , وجدران الفؤاد )) .