حينما تخرج الشخصية الروائية للواقع!

حينما تخرج الشخصية الروائية للواقع!

يحرص الروائي على حبك أحداث روايته بعناية فائقة ويتوخى من وراء ذلك محاكاة الواقع الإنساني بكل تفاصيله وتناقضاته، والروائي هُنا فنان يُعيد رسم تجاربه الشخصية أو التجارب التي شهدها لأخرين بريشة دقيقة في التعبير، مُبدعة في التقاط التفاصيل.

ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أنّ القبول الذي حظي به الفن الروائي في بداياته كان مرده لشعور القراء بأن هذا الفن الجديد يُعبر عن أزماتٍ إنسانية قد عاشوها ومروا بها فهو يعيد حبك هذه التجارب بحلة أدبية عمادها الأسلوب الراقي واللغة الممتعة.

وتنوعت وسائل استنباط الروائيين للشخصيات الروائية بين من يمم وجهه شطر التاريخ ليختار منه شخصية تلفت انتباهه فيُسقط عليها تفاصيل الواقع ويُناظر الحاضر بالماضي لينتقد أحدهما أو كلاهما أو لمجرد التذكير بحدث مندثر، أو لغرض استخلاص العبر والمواعظ، وبين من اتجه للمجتمع المحيط أو لتجربته الشخصية بتعبير أدق ليلتقط منها تقاسيم شخصياته الروائية.

ولم يعدّ ينظر بأية حال للشخصيات الروائية على أنها مجرد “كائنات من ورق” بل اضحتْ ذات تأثير كبير في القراء، فإيما بوفاري وزوربا والكونت مونت كرستو وغيرهم من الشخصيات الروائية ذائعة الصيت لا ينظر لها القراء على أنها مجرد شخصيات مُختلقة في قصص عابرة بل بوصفها أيقونات لقضايا إنسانية عامة كارتباط الكونت مونت كرستو بالانتقام وإيما بوفاري بالخيانة وزوربا بمحبة الحياة والتفاعل معها بإيجابية.

ويحدث أنّ تجد شخصية روائية قد رُسمت بإتقان ماثلة أمامك بكل تفاصيلها، فتدرك حينها بأن الروائي لم يكن ينطق عن فراغ وإنما عن طول معاينة وتجربة، وهذا ما حصل لي بالتحديد حين قرأتُ قبل مدة رواية سبعة للروائي السعودي الراحل غازي القصيبي التي تناول فيها عددًا من الشخصيات الثقافية العربية وشرع في بيان تناقضاتها ومثالبها، ولم تكن هذه الشخصيات مُحددة بشخوص معينين وإنما تحمل دلالات رمزية قابلة للانسحاب على عدد لا حصر له من الأفراد.

وكانت شخصية المثقف الثالث من هؤلاء هي شخصية الصحفي، وقد اختار له القصيبي اسم “مسعود أسعد”، وهو كما تكشف الرواية صحفي يرأس تحرير إحدى الصحف العربية المهاجرة في لندن ويمتهن التلفيق والابتزاز وسيلة لكسب العيش والتمتع بالملذات في مدينة الضباب. وقبل الخوض في تفاصيل هذه الشخصية أود أنّ أشير للشخصية المطابقة لها في الواقع وهوكما أرى الصحفي الفلسطيني أسامة فوزي الذي سبق وأصدر جريدة باسم “عرب تايمز” في الولايات المتحدة الأمريكية وكانت أخبارها من نمط أخبار “صوت الحقيقة” جريدة مسعود أسعد!

وإذا ما تلمسنا أوجه الشبه بين شخصية مسعود أسعد الروائيةوأسامة فوزي الحقيقية ـ وأنا هًنا لا أنفي فرضية كون القصبي يقصده تحديدًا ولا اؤكدها ـ فإننا سنجد كثيرًا من المُعطيات الدالة على هذا الشبه، منها حرص مسعود أسعد على نشر أخبار المعارضين لأنظمة بلادهم في الغرب ومعظمها تلفيقية لغرض ابتزاز هذه الأنظمة أو لقبض المال من هذه المعارضات المغتربة، وهذا هو النهج الذي دأب عليه أسامة فوزي في جريدته وتحدث عنه بفخر في سلاسل منشورة على قناته على اليوتيوب استعرض فيها أرشيف جريدته في الثمانينيات والتسعينيات حيث تعجالعناوين الرئيسة بأخبار فضائح الأنظمة والشخصيات العامة والمُسندة في الغالب لمصادر خاصة!

ومن صفات مسعود أسعد كما بينت الرواية عداؤه الشديد لزملاء المهنة وخاصة عدنان شهوان صاحب جريدة “الحرية”، والذي يحرص على تلفيق الأخبار في إتهام أسعد وبالمقابل يحرص مسعود أسعد على رد الصاع بتلفيق أخبار موازية ضد شهوان ونشرها في “صوت الحقيقة”، وحرب التلفيق تشمل مُختلف التهم من التزوير إلى السرقة إلى عدّ أحدهما للآخر بأنه مجرد مرتزق وطارئ على مهنة الصحافة! ولن نستغرب إذا ما وجدنا أن أرشيف أسامة فوزي حافل بمثل هذه الصراعات فكم سود من صفحات “عرب تايمز” باتهام زملاءه بأنهم مأجورون واتباع للمخابرات وتحدث حتى عن تفاصيل حياتهم الشخصية وعلاقاتهم النسائية وقاموا برد الصاع عليه في صفحات جرائدهم!

ولعل السمة البارزة التي يلمحها القارئ في شخصية أسعد كما نسجها القصيبي هي إحاطته لكل نشاطاته الإعلامية بإطار الوطنية والقومية والحرص على قضايا الأمة والسهر على سمعتها، فنراه يخاطب أحد جنرالات الأنظمة العربية بالقول : “نحن يا أخي في خدمة القضية من المحيط إلى الخليج، العروبة لساننا والعروبة طريقنا والعروبة مصيرنا…” (رواية سبعة، ص 109)، وليس سرًا كون أسامة فوزي يُكني نفسه بأبي نضال ويحرص على الظهور بمظهر المنافح عن القضية والذائد عن حياضها، والفاضح لخونتها. ولهذا كان يحرص في عرب تايمز على توجيه تهم بيع القضية للجميع من أنظمة وحكومات وشخصيات وحركات سياسية وحتى دينية!

والأمر المفقود في سيرة مسعود أسعد الصحفية هو المصداقية، ذلك أنه يعدّ تلفيق الأخبار “شطارة” وحنكة اكتسبها عبر السنين ولهذا نراه يكتب أخبار صحيفته وهو يضحك من الإشارة للمصادر كما في قوله: “بدأتُ بصياغة الخبر الذي سيظهر غدًا في صوت الحقيقة عن صديقي اللدود ….. أبلغنا مراسلنا البوليسي (هاه! هاه! مراسلنا البوليسي)  أنّ أحد العربستانيين تعرض لاعتداء جسدي عنيف …” (رواية سبعة، ص111). ولا نعدم وجود شيء من هذه الاعترافات في سيرة أسامة فوزي ففي فيديو نشره على اليوتيوب وعنونه بـ ” صحافة أيام زمان” استعرض فيه عددًا من العناوين التي كان ينشرها بجريدته ومنها خبر عن هوس الديكتاتور الليبي السابق معمر القذافي بارتداء الملابس النسائية! والغريب أن فوزي أطلق ضحكة صفراء عند مروره على العنوان وأردف بالقول إنّ القصة كانت مختلقة وهي محض نكتة “Joke“، وراح يشرح للمشاهدين العربستانيين أن المجتمع الغربي يتقبل مثل هذه الأمور على أنها نكات! وفات الصحفي المخضرم أن لكل مقام مقال وأن النكت لا يمكن أن تظهر على الصفحة الأولى لجريدة تدعي المصداقيةوالحرص على الحقيقة! فالميثاق القرائي في الصحف الرصينة يقوم على أساس نقل الأخبار بدقة وحيادية ومن مصادر موثوقة، أما البحث عن الفضائح الملفقة ومزج الجد بالهزل واستخدام الأسلوب الابتزازي فهو من عمل الصحافة الصفراء الفاقدة لأدنى معايير المهنية.

وتنتهي سيرة مسعود أسعد في الرواية بالكشف عن صداقة خفية بينه وبين عدنان شهوان خصمه المهني وصاحب جريدة “الحرية” وأن كل ما يجري بينهما محض صراع مُختلق، وأن كليهما يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالسفارة الإسرائيلية في لندن! ولعل هذا الأمر لا ينسحب على حالة أسامة فوزي ولكنه لا يمنع بأية حال فرضية وجود الاختلاق في سيرته، كاختلاق النضال والأخبار والصراعات.

وقد امتدت السيرة الإعلامية لأسامة فوزي ليشهد نهاية الصحافة الورقية فيغلق صحيفة عرب تايمز ويطلق بدلا منها قناة على اليوتيوب بذات الاسم، يُطل فيها بهيئته الكاريكاتورية وهو يُنظر على العربستانيين في السياسة والفن والدين ويوزع تهم الخيانة والتخلف يمنة ويسرة، ويدعي امتلاكه لفضائح تدين الجميع! وأول شعور طرأ علي وأنا اشاهد فيدواته أن هذا الرجل ليس سوى شخصية روائية ورقية هاربة من عالمها الروائي ومندسة في واقعنا المُعاش، ذلك أن الأسبقية عندي في التعرف عليها كانت لوجهها الروائي مسعود أسعد صاحب جريدة “صوت الحقيقة” المهاجرة.