يذكر الدكتور فاضل التميمي في ص٨٨ من مؤلفه ( رحلات المرأة العراقية ) : حضرت الكاتبة الروائية لطفية الدليمي عام ١٩٧٧ مؤتمرا للادباء العرب بسوريا فقالت عن دمشق : (( دمشق تلك التي هي اخر مدينة يطالها النسيان)) , وقالت عن نسائها : (( فوجدتهن اجمل نساء العالم , حاكمات بأمرهن , متمسكات بجوهر الحرية ,لهن ثقافة غير محددة )) .
يقول محمود درويش: (( من الأزرق ابتدأ البحرُ هذا النهار يعود من الأبيض السابقِ الآن جئتُ من الأحمر اللاحقِ , اغتسلي يا دمشق بلوني ليُولَدَ في الزمن العربيِّ نهار, أحاصركم : قاتلاً أو قتيلْ وأسألكم , شاهداً أو شهيدْ : متى تفرجون عن النهر حتى أعود إلى الماء أزرقَ أخضر أحمر أصفرَ , أو لون يحدّده النهرُ إنّي خرجتُ من الصيف والسيفِ إنّي خرجتُ من المهد واللحدِ , نامت خيولي على شجر الذكرياتِ ونمتِ على وتر المعجزاتِ , ارتدتني يداكِ نشيداً إذا أنزلوه على جبل , كان سورةَ ((ينتصرون)) , دمشق ارتدتني يداك دمشق , ارتديت يديك , كأنّ الخريطة صوتٌ يُفرِّخ في الصخرِ , نادى , وحركني ثم نادى , وفجَّرني ثم نادى , وقطّرني كالرخام المذاب ¸ونادى كأن الخريطة أُنثى مُقَدَّسةٌ فجّرتني بكارتُها , فانفجرتُ دفاعاً عن السرٍّ والصخرِ, كوني دمشق فلا يعبرون , من البرتقاليِّ يبتدئ البرتقالُ , ومن صمتها يبدأ الأمسُ , أو يولد القبرُ , يا أيّها المستحيل يسمونك الشامَ , أفتحُ جرحي لتبتدئ الشمسُ , ما اسمي ؟ دمشق وكنت وحيداً ومثليَ كان وحيداً هو المستحيل , أنا ساعة الصفر دقَّتْ فشقَّت خلايا الفراغ على سرج هذا الحصان المحاصر بين المياه , أنا ساعة الصفر جئت أقول : أحاصرهم قاتلاً أو قتيل أعدُّ لهم ما استطعتُ , وينشقُّ في جثتي قمرُ المرحلهْ وأمتشق المقصلهْ )) .
التغني بدمشق لا ينتهي , وجمال الدمشقيات الساحر , او الشام كما يحب ان يدلعها أبنائها , أقدم عصمة مأهولة في التاريخ , تغنى بها الشعراء على مر القرون , نظموا القصائد بسحرها وجمالها , تغنوا بقاسيون وبردى , والغوطة الخضراء , تلك هي دمشق المدينة السورية المحملّة بعبق التاريخ , والموسومة ببصمات حضارات عديدة تعاقبت عليها , هي دار نزار التي عبر عنها في مقال طويل مشهور بعنوان (( دارنا الدمشقية )) قائلاً : (( هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة , إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ , ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر , وإنما أظلم دارنا , والذين سكنوا دمشق , وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة , يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون )) .
كثيرون قالوا عن دمشق , فهذا حسان بن ثابت الذي قال :(( لله در عصابة نادمتهم يوماً بجلّق في الزمان الأول , يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل )) , و البحتري الذي خلدها : ((أما دمشق فقد أبدت محاسنها وقد وفى لك مطريها بما وعدا , إذا أردت ملأت العين من بلد مستحسن وزمان يشبه البلدا )) , والصنوبري : ((صَفَتْ دنيا دمشق لساكنيها فلست ترى بغير دمشق دنيا )) , والمتنبي :(( مبيتي من دمشق على فراش حشاه لي بحرّ حشاي حاشِ )) , والمقّري التلمساني :(( أما دمشق فخضرةٌ لعبت بألباب الخلائقْ )) , وأحمد شوقي : (( لولا دمشق لما كانت طليطلة ولا زهت ببني العباس بغدانُ )) , و (( سلام من صبا بردى أرقّ ودمع لا يكفكف يا دمشق )) , وحديث العشق لدمشق يطول .
على أرض دمشق دارت رحى الحروب , ومرت كل الحضارات , وظهرت بدايات النبوات , دخلها الإسلام في سنة 14هـ/636م , ومع قيام الخلافة الأموية , أصبحت دمشق حاضرة العالم وفخر المدائن , تشع أنوارها من البرتغال إلى الصين , ومن سيبيريا إلى قلب أفريقيا , يكفي أن نؤشر أن كتابًا واحدًا فقط وضعه محدث الشام ابن عساكر (499-571هـ) , يستعرض جزءًا من تاريخ دمشق , وقد شغل ذلك العمل الضخم 80 مجلدًا , ليعتبره المؤرخون أحد أعظم المؤلفات في تاريخ الإسلام.
يصف البحتري حين دخل الخليفة المتوكل دمشق من باب داريا , بهاء المدينة وروعتها بقوله : (( العيش في ليل داريا إذا بردا , والراح تمزجها بالراح من بردى , أما دمشق , فقد أبدت محاسنها , وقد وفى لك مطريها بما وعدا , إذا أردت ملأت العين من بلد , مستحسنٍ , وزمان يشبه البلدا )) , وعندما دخلها العثمانيون فاتحين , ظلت دمشق كما كانت , عاصمةً للعلم والعلماء , ذكر عبد القادر النعيمي الدمشقي (المتوفى 927هـ) في كتابه (( الدارس في تاريخ المدارس )) أن دمشق في القرن الخامس الهجري ضجت بالعلم , واحتوت على 7 دور للقرآن الكريم , و18 دارًا للحديث , و57 مدرسة للشافعية , و51 مدرسة للحنفية , و4 مدارس للطب , ومدرسة للهندسة .
ظلت دمشق تتأرجح بين عبق العطور وزهو الزهور, متألقة بمائها العذب ونمائها الدائم , مستلهمة روح البقاء عبر العصور , ورغم الزحوف المغولية , والغزوات الصليبية , والاحتلالات المتكررة , كانت دمشق السر الكامن , المحتفظ دائمًا بمادة الحياة وأنفاس البقاء , أرسلت أسرارها وأنوارها إلى العالم , تضخ فيه الدماء والعافية , متجاوزة البغي والدمار , وتعيد ترميم مجدها مهما طالها من حصار.