الجملة الشعرية الأولى في مجموعة ( لو ينبغي للريح ) للشاعر باسم الحربي

الجملة الشعرية الأولى في مجموعة ( لو ينبغي للريح ) للشاعر باسم الحربي

لا يخفى عليكم أن علم النحو يدرس الجملة من حيث إفادتها التامة للمعنى ؛ مما يحسن السكوت عليها ، وقسمها العلماء إلى جملة اسمية ( مبتدأ وخبر ) وجملة فعلية ( فعل وفاعل إذا كان الفعل لازماً وفعل وفاعل ومفعول به إذا كان الفعل متعدياً ) ولما كان الشعر، فناًأداته اللغة ، أصبح من اللازم على الشاعر أن يتفاعل مع تراكيبه اللغوية ، والتفاعل هذا يمتزج بالخيال والعاطفة والإبداع ، بمعنى أن الجملة الشعرية التي تشكل البناء الشعري للقصيدة ، يقصدها الشاعرقصداً ، ولم يضعها بشكل عبثي ، وهنا تبرز مهارة الشاعر وحنكته في خلق هذه الجمل الشعرية .

تشكل الجملة الشعرية الأولى عتبة مهمة في القصيدة ، بل أزعم أنها الحجر الأساس والقدحة الأولى ، التي يؤسس عليها الشاعر قصيدته ، غرضها أو موضوعها … وقد كان اختيار الجملة الشعرية الأولى للشاعر باسم محمد الحربي موضوعاً للكتابة عنها؛ لأنها تشكل ظاهرة أسلوبية بارزة في مجموعته ( لو ينبغي للريح ) لأن معظم قصائده يتلوها تحت العنوان جملة شعرية أولى بلون غامق يؤسس الشاعر عليها قصيدته … ولنبدأ من الجملة الشعرية الكبرى وأعني بها العنوان ( لو ينبغي للريح ) التي تشكل أمنية غير مكتملة المعنى والتركيب بتوظيف أداة الشرط ( لو ) التي إحدى معانيها التمني .. على أن هذه الجملة تشكل انزياحاً بترك المتلقي يتأول جواب الشرط غير المذكور ، وجملة ينبغي للريح التي تعني يمكن للريح ، هي رغبة يائسة إذا ما قلنا      ( ليت يمكن للريح ) يمكنها ماذا ؟ أو تتمنى منها ماذا؟ فثمة مسكوت عنه عند الشاعر ومعنى في قلبه لم يبح به … ولعله جعل هذا المعنى مطلقاً غير مقتصر على قلبه فقط ، بل على قلوب الجميع.

في قصيدة ( وقنديل ) يستهل الشاعر هذه القصيدة بجملة ( يربي الضوءَ في رازونة البيت ) فقد شكلت الجملة الفعلية حركة شعورية ذات دلالة تحيل إلى استمرار وديمومة هذا الضوء بتوظيف الفعل المضارع ( يربي ) الذي يعني التغذية والعناية والاهتمام ، ومكان هذا الضوء هو ( رازونة ) واحدة في البيت ؛ مما جعل هذا الضوء مقتصراً على مكان واحد يحتويه وهو ( الرازونة ) الذي يشكل ذكرها في جملة البداية ، دلالة تراثية في البيوت العراقية القديمة بيوت الأجداد … أما في قصيدة ( وردتان لرقيم واحد ) فقد جاءت جملة البداية مسهبة ؛ لأنها ذات محمولات ناصحة ( ستبقى كثيراً كما شئت ، عليك أن تعي ذلك جيداً ؛ كي لا تمنح الظلمة فرصة أخرى ) أقول مسهبة ؛ لأنني أزعم أن الشاعر هنا يتحول إلى معلم حكيم ناصح … فالنصح بالثبات والبقاء والوعي بهذا البقاء ، كفيل بتفويت الفرصة على الظلمة على الاجتياح .. ويقدم الشاعر في قصيدة  ( ليلة عميقة ) الجملة الشعرية ذات بعد تفسيري ( الأغاني لا تحب النوم ، أقصد لا تحب الكلمات ، أعني لا تحب المسافة ) فقد جرد الأغاني بأسلوب النفي الوارد ثلاث مرات من ثلاثة أشياء النوم /الكلمات / المسافة … وقد أكد الشاعر في هذا التجريد باستعماله فعلين تفسيريين وهما ( أقصد / أعني ) … ويمكن أن نستنتج أن الجملة الشعرية أو جملة البداية عند الشاعر ، كلما اتجهت إلى التفسير والشرح طالت ، كما في قصيدة ( سيرة رجل أحمر ) البذور التي زرعها في ملامحنا ، هي الآن أشجار عالية ، تشبه المشانق كثيراً ) فالضمير هي قد أدى إلى تفسير ما قبله ؛ لما لهذا الضمير من توضيح إلى مصير هذه البذور المزروعة في الوجوه … ولاسيما أن كلمة أشجار عالية توحي بالمدة الزمنية الطويلة لهذه الزراعة … إن للشاعر قدرة على تطويع مشاعره ضمن الجملة الشعرية التي يستهل بها ولاسيما إذا اتجهت نحو أن تكون رسالة لصديق كما في قصيدة ( برتقال أخضر ) إلى صديقي علي فرحان مع الود ، لا وقت للأنهار يا صديقي كي تغسل عنا كل هذا التعب …. إن إسناد الرسالة هنا جاء إلى صديق مؤكد بالنداء الاعتراضي الذي كرر كلمة صديق ، كما أن هذه الرسالة من النوع الإخباري ، فهو يخبر صديقه علي فرحان وينفي له بلا النافية للجنس بعدم وجود وقت للأنهار لنا نحن المتعبون ؛ كي نغتسل بماء الراحة بمعنى أن الجملة الشعرية هنا تحيل إلى ديمومة التعب لبخل الأنهار بمائها … ثمة علاقة استرجاعية للماضي في جملة البداية الشعرية كما في قصيدة ( منديل لمجنون ليلى ) القصائد التي أحرقتها ، صار لها جناحان ، هي الآن تحلق فوق رأسي كالقيامة … فاسترجاع الماضي المحروق وتجنيحه عن طريق فعل الصيرورة وبثه طائراً بالاستعارة المكنية يجعل هذه الفعل فعل الاحتراق كبيراً مرعباً كالقيامة … وتشكل بعض الجمل الشعرية التي يستهل بها إحالة معتمدة على السياق ومقتضى الحال بموقف اتصالي يتجه نحو الحكمة المتعالية ففي قصيدة ( نبوءات متأخرة ) يقول : المسامير تختنق يا صديقي حين نمنحها كل هذا الخشب … إن الموقف هنا يؤثر في المتلقي ويجعله في حالة تصور واقعي لزج المسامير بطولها حد الاختناق عنق المسمار عند دقه بالخشب الذي يبتعله … فالاختناق هنا للمسامير مقرون بالتقاء عنق المسمار أو رأسه في سطح الخشب …. ومن الإحالات القبلية ونعني بها الرجوع إلى ما سبق أن حدث نجده في قصيدة ( إلى السيدة القديسة وضحة محمود تقاسيم على مقام النهاوند : صدقيني البيت الذي أخرجونا منه عام 2014 سنعود لنشتريه في 2020 هكذا نحن نحب العودة دائماً … فهو يبدأ جملته بــــ ( صدقيني ) للطمأنينة والثقة وبث الطاقة الإيجابية للعودة إلى البيت الذي يشكل عنصراً إشارياً وطنياً للعودة المضادة ؛ لكنها عودة معكوسة فالخروج من البيت كان بلا ثمن والعودة إليه كان بثمن لأن العودة دائماً هي الحلم !! … وختاماً فإن الجملة الشعرية بحسب تعريفها : هي الجملة التي تستمد عطاءها من التركيب النحوي والأسلوبي والبلاغي …. وقد آثرت أن أتحدث عن الجملة الشعرية الأولى عند الشاعر باسم محمد لأنها تشكل تأسيساً لقصائد مجموعته ….

أحدث المقالات

أحدث المقالات