خاص: كتبت- نشوى الحفني:
مع تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب؛ “دونالد ترمب”، يوم 20 كانون ثان/يناير الجاري، ينظر الأوروبيون بقلق شديد تجاه مستقبل نظامهم الأمني، في ظل تصورات وأفكار “ترمب” تجاه منظومة الأمن عبر “المحيط الأطلسي”، وفي القلب منها “حلف شمال الأطلسي”.
ويرى “غاليب دالاي”؛ الاستشاري الزائر في برنامج مبادرة تركيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في “المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني”؛ (تشاتام هاوس)، أن عودة “ترمب” تجعل قضية مستقبل نظام الأمن الأوروبي أكثر إلحاحًا، كما تُزيد الحاجة إلى تحديد مكان ودور “تركيا” في هذا النظام بوضوح.
تدفع نحو حوارات بين “تركيا” و”أوروبا”..
وأضاف أن: “هذه العودة للرئيس الأميركي السابق، بعد خروجه من البيت الأبيض قبل (04) سنوات، قد توفر الزخم المطلوب بشدة للاتحاد الأوروبي وتركيا للانخراط أخيرًا في حوارات أكثر جدية بشأن الأمن الأوروبي، والتعاون الأوسع نطاقًا في السياسة الخارجية والأمنية”.
وقد شهدت البيئة الأمنية في “أوروبا”، تحولًا جذريًا في السنوات الأخيرة. فبعد نشوب الحرب الروسية ضد “أوكرانيا”، تم التخلي عن الفكرة السّائدة حول إقامة نظام أمني يضم “روسيا” لصالح فكرة تضع “موسكو” بقوة في معسكر الأعداء. وعلى نحوٍ مماثل، أدت “حرب غزة” وسقوط نظام “بشار الأسد”؛ في “سورية”، إلى تغييّر جذري في الجغرافيا السياسية للجوار الأوروبي، سواء في الشرق أو الجنوب.
ومثل هذه التغييّرات، تُفرض الحاجة إلى نهج جديد يتعامل مع الأمن الأوروبي بالمعنى الأوسع، ويسّد الفجوة بين الدول الأعضاء في “الاتحاد الأوروبي” والدول غير الأعضاء في الـ (ناتو). ومن الضروري إقامة حوار منظم حول الشؤون الخارجية والأمن بين كل من “الاتحاد الأوروبي” و”تركيا وبريطانيا والنرويج”. كما ينبغي أن يهدف هذا الحوار في المستقبل، إلى إشراك الدول الأوروبية غير الأعضاء في “الاتحاد الأوروبي”، وغير الأعضاء في “حلف شمال الأطلسي” مثل “أوكرانيا”.
“روسيا”.. التهديد الأكثر إلحاحًا..
وما زالت “روسيا” تُمثل التهديد الأشد إلحاحًا للأمن الأوروبي، ولا يمكن لـ”أوروبا” تحمل نظام أمني مناويء لـ”موسكو” ويستبعد “تركيا”؛ في الوقت نفسه. فـ”البحر الأسود” وشرق “البحر المتوسط” و”الشرق الأوسط”؛ ليست مناطق منفصلة عن المواجهة “الروسية-الغربية”، وإنما تُمثل فضاءً واحدًا، في الوقت الذي تتمدّد فيه “تركيا” في كل هذه المناطق.
تطور “تركي-أوروبي” استراتيجي..
ويرى “دالاي”؛ أن العلاقات “التركية-الأوروبية”، على المستوى الاستراتيجي، شهدت مؤخرًا بعض الخطوات الإيجابية. ففي تشرين أول/أكتوبر الماضي، وافقت “برلين” على حزمة كبيرة من صادرات الأسلحة إلى “أنقرة”، بما في ذلك المواد اللازمة لتحديث الغواصات والفرقاطات التركية.
وفي تشرين ثان/نوفمبر الماضي؛ وبعد تأجيل طويل، سحبت “برلين”، نهائيًا، اعتراضها على بيع طائرات (يوروفايتر) المقاتلة الأوروبية إلى “تركيا”. وعلى نحوٍ مماثل، أدى خفض التصّعيد في شرق “البحر الأبيض المتوسط” والتحسَّن الأخير في العلاقات “التركية-اليونانية”، إلى توفير بيئة أكثر ملاءمة للحوار “التركي-الأوروبي” بشأن السياسة الخارجية والأمنية.
وعلى الرُغم من هذه التطورات الإيجابية نسبيًا؛ تظل هناك قضايا رئيسة قد تُعرقل وربما تمنع أي حوار ذي معنى في السياسة الخارجية والأمنية. أولًا؛ كيفية تعامل “الاتحاد الأوروبي” و”تركيا” مع المنافسة بين القوى العظمى، ولا سيّما “روسيا والصين”. فـ”روسيا تُشّكل بالنسبة لـ”أوروبا”، مصدر قلق أكثر إلحاحًا، ولا سيّما عندما يتعلق الأمر بحرب “أوكرانيا”.
4 مواقف تصادمية..
وفي السنوات الأخيرة؛ شهدت العلاقات بين “أنقرة” و”موسكو” تقاربًا وتناقضات واضحة في وقتٍ واحد. وقد اصدمت مواقف الدولتين تجاه (04) صراعات جيوسياسية في “سورية وليبيا وناغورنو كاراباخ وأوكرانيا”. وفي “ليبيا وناغورنو كاراباخ”، كان لـ”تركيا” اليد العُليا، وهو ما تحقق لها مرة أخرى في “سورية” بعد سقوط “الأسد”، الذي كانت “روسيا وإيران” من الداعمين الرئيسيين له.
وعندما بدأت “موسكو” عمليتها العسكرية في “أوكرانيا”، أغلقت “تركيا” مضائقها أمام السفن الحربية، مما قلل قُدرة “روسيا” على تدوير سفنها الحربية بين “البحر الأسود” و”البحر الأبيض المتوسط”. كما كانت “تركيا” أيضًا من أوائل الدول التي قدمت المعدات العسكرية إلى “كييف”، بما في ذلك الطائرات بدون طيار المسلحة. وفي وقتٍ لاحق، سلمت فرقاطتين للبحرية الأوكرانية، في حين كانت العديد من الدول الأوروبية، باستثناء دول مثل: “بولندا”، متَّرددة في البداية في توفير الأسلحة الثقيلة لـ”أوكرانيا”.
وفي الوقت نفسه؛ لم تنضم “تركيا” إلى العقوبات الغربية ضد “روسيا”، وتبنّت المسّاعي الدبلوماسية لإنهاء الحرب في البداية، رُغم أن جهودها كوسيط سلام لم تسَّفر عن نتائج. لكن في الوقت الذي تتزايد فيه احتمالات نشوب خلاف بين “الولايات المتحدة” و”أوروبا” بشأن “روسيا” و”حرب أوكرانيا”، فإن الحوار والتعاون بين “تركيا” و”أوروبا والمملكة المتحدة” يُعدّ أكثر أهمية من أي وقتٍ مضى بالنسبة للدول الأوروبية.
وتُعتبر “تركيا” لاعبًا رئيسًا في كل المناطق التي تُهدد فيها “روسيا” الأمن الأوروبي، سواء في “البحر الأسود”، أو “غرب البلقان”، أو “شرق البحر الأبيض المتوسط”. وفي الوقت نفسه أثار سقوط “الأسد” الشكوك حول مستقبل القاعدة البحرية الروسية في “ميناء طرطوس” السوري، إلى جانب القيود التي تُفرضها “تركيا” على حركة المرور في “مضيق البسفور”. ويعني هذا أن موقف “روسيا” في “شرق البحر الأبيض المتوسط” يبدو أكثر خطورة. (بحسب التصورات والدعايات الأوروبية الغربية المضللة). وبالتالي فإن الوقت قد حان لمزيد من التعاون مع “تركيا” لتحسّين أمن حدود جنوب شرق “أوروبا”.
السياسات تجاه “الصين”..
وعلى صعيدٍ آخر؛ لا يوجد تباين جوهري بين السياسات الأوروبية والتركية تجاه “الصين”. فالانقسام داخل “الاتحاد الأوروبي” حال دون صياغة سياسة موحدة، للتعامل مع “بكين”، حيث لا ترى العديد من الدول الأوروبية أن “الصين” تُشّكل تهديدًا مباشرًا لمصالحها. لذلك من المُرجّح أن يواجه كل من “الاتحاد الأوروبي” و”تركيا” مشاكل مع إدارة “ترمب”، الذي يعتزم الضغط على حلفائه الأوروبيين والأتراك لسياسات بلاده المناوئة لـ”الصين”؛ وبخاصة على الصعيد التجاري. وبالتالي فمن غير المحتمل أن يُثير ملف “الصين” خلافات كبيرة بين “أنقرة” و”بروكسل” في أي وقتٍ قريب.
الجوار المشترك.. تعاون أم تنافس ؟
ويرى “دالاي”؛ أن هناك سؤالًا آخر مهمًا، يتعلق بما إذا كانت “أوروبا وتركيا” ستتعاونان أم تتنافسان في الجوار المشترك بينهما. فعلى مدى العقد الماضي كان كل من الجانبين ينظر إلى الآخر باعتباره منافسًا أكثر منه شريكًا، وذلك بسبب التوترات في شرق “البحر المتوسط” بدرجة كبيرة، ولكن مع تحسَّن العلاقات “التركية-الأوروبية” والحاجة إلى ضمان ضرورة الانتقال السياسي المنظم في “سورية”، يحتاج الجانبان إلى استكشاف السبُل لتعزيز التعاون في ملفات الجوار المشتركة.
وأخيرًا؛ لا تملك “أوروبا” سوى الدخول في حوارٍ جاد وبناء من أجل تعزيز التقارب مع “تركيا”، وطيّ صفحة الخلافات السابقة نظرًا لطبيعة التحديات التي ستُفرضها عودة “ترمب” إلى “البيت الأبيض” على “أوروبا”، وبخاصة على الصعيد الأمني والجيوسياسي. كما أن “تركيا” ستحتاج إلى الدعم الأوروبي إذا ما تصادمت المواقف التركية والأميركية، تجاه العديد من الملفات بسبب تصورات “ترمب” لهذه الملفات، ولما يتوقعه من حلفاء “واشنطن” بشكلٍ عام.
زيادة خطر انتشار الأسلحة النووية..
وعلى جانبٍ آخر؛ يعتبر الكاتب “أندرياس كلوث”، أن السياسة الخارجية الأميركية في ظل الرئيس المقبل ستواجه تحديات كبيرة، خاصة فيما يتعلق بمبدأ أساس كان يُشكل حجر الزاوية في السياسة الأميركية على مدار العقود الستة الماضية، “الحد من انتشار الأسلحة النووية”.
وفي هذا السيّاق؛ يُعرّب “كلوث” عن قلقه من أن سياسات “دونالد ترمب” قد تسَّهم في تقويض هذا المبدأ، مما يُزيد من خطر انتشار الأسلحة النووية في العالم.
وكتب “كلوث”؛ في شبكة (بلومبيرغ)، أنه بحلول ستينيات القرن العشرين، أدركت “الولايات المتحدة” ودول أخرى أن مسّارها نحو التسلح النووي كان ضربًا من الجنون، فحينها ارتفع عدد الدول النووية من ثلاث إلى خمس، ثم سّعت (20) دولة إلى امتلاك قوى نووية، وهذا يعني أن أعداء هذه الدول سيسعون بدورهم إلى امتلاك أسلحة نووية.
منع انتشار الأسلحة النووية..
دفعت هذه المخاوف إلى القوتين النوويتين الأكبر حينها؛ “أميركا وروسيا”، إلى طاولة المفاوضات في محاولة للحد من التجارب الحية للقنابل الذرية وإبعادها عن الفضاء، وكان كل ذلك بمثابة مقدمة لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، التي ظلت منذ عام 1968 تُمثّل الالتزام الوحيد من جانب الدول النووية وغير النووية لوقف انتشار الأسلحة النووية، وفي نهاية المطاف خفض المخزونات إلى الصفر.
تعترف “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية”؛ بالدول الخمس، التي سبق أن امتلكت أسلحة نووية بشكلٍ رسمي، لكنها تُلزمها: “بمواصلة المفاوضات بحسَّن نية” لتحقيق: “نزع السلاح الكامل”.
وتتعهد جميع الدول الموقّعة الأخرى بعدم امتلاك أسلحة نووية أبدًا، مقابل المساعدة في الحصول على التكنولوجيا النووية المدنية إذا رغبت في ذلك.
نجاحات وإخفاقات..
وبحسّب الكاتب؛ يُشير بعض الخبراء إلى نجاحات المعاهدة، فبعد أكثر من (05) عقود على دخولها حيز التنفيذ، لم تكتسّب سوى (03) دول أسلحة نووية: “الهند وباكستان وكوريا الشمالية”.
وقامت دولة واحدة؛ وهي “جنوب إفريقيا”، بتفكيك برنامجها للأسلحة النووية للتوقيع على المعاهدة.
وتخلت (03) دول من “الاتحاد السوفياتي” السابق – “أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان” – بشكلٍ طوعي عن ترساناتها للانضمام إلى النادي، في مقابل ضمانات أمنية من “الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا”، وقّلل الكاتب من شأن هذه الضمانات إذ لم تنجح مع “أوكرانيا”.
أما أولئك الذين يرون المعاهدة من منظور سلبي؛ فيُشيرون إلى أنها عّززت مبدأ تعدَّد الدول النووية، مع غض الطرف عن أنظمة مثل: “الهند وباكستان”، التي لم توقّع على المعاهدة.
كما يتخوفون من أن سياسة “الولايات المتحدة وروسيا” في خفض ترساناتهما لم تكن ناجحة بما يكفي لتحقيق نزع سلاح نووي شامل.
بالإضافة إلى ذلك؛ يُشّكل خطر “كوريا الشمالية”، التي انسحبت من المعاهدة في 2003، تهديدًا متزايدًا. (بحد زعم الكاتب الذي يردد نفس الدعايات الغربية المضللة حول المعاهدة التي تستبعد الكيان الصهيوني تمامًا من تعداد تلك الدول التي تزدري تلك المعاهدة وكافة المعاهدات الدولية التي تخرج عن نطاق مصلحة الكيان ذاته، وذلك بدعم ومساعدة كاملة من أميركا وأوروبا).
كما أن “إيران”، رُغم توقيعها على المعاهدة، تبقى في صراع مع المجتمع الدولي بشأن نواياها النووية.
وعلى الرُغم من التحديات؛ فقد نجحت المعاهدة في الحفاظ على حجم “نادي الدول النووية”. من دونها، لكان عدد هذه الدول أكبر بكثير. لكن نجاح المعاهدة يعود إلى جانبٍ آخر؛ وهو الزعامة الأميركية، إذ وضعت “الولايات المتحدة” مظلة نووية لحماية حلفائها مثل: “ألمانيا الغربية”، ومن ثم وسّعت تلك الحماية لتشمل “كوريا الجنوبية واليابان”. كما يزعم الكاتب.
عودة “ترمب”..
ومع مجيء “ترمب”، أصبح الوضع أكثر غموضًا، حيث أشار مرارًا إلى عدم استعداده للدفاع عن حلفاء “أميركا”، وهو ما أثار القلق في دول مثل “كوريا الجنوبية”.
وفي هذا السيّاق؛ أصبح هناك دعم متزايد في “كوريا الجنوبية” لبناء ترسانة نووية محلية.
وختم “كلوث” مقاله بالقول: “لو كنتُ كوريا الجنوبية اليوم، لرغبت حقًا في امتلاك أسلحتي النووية، وكذلك لو كنتُ أي دولة أخرى تقريبًا. ولكنني بالنيابة عن العقلاء، لا أريد لأحد أن يمتلكها. الشخص الوحيد الذي يمكنه التأثير على هذه المعادلة هو رئيس الولايات المتحدة، وإذا لم يكن ترمب يُدرك ذلك بعد، فعلى مستشاريه أن يشرحوا له هذا الأمر”.