أنتهت قبل قليل وقائع انتخاب رئيس الجمهورية في مجلس النواب اللبناني، ومراسيم الترسيم التي تابعتها من بدايتها، وسماع الكلمة القيمة بحق لرئيس الجمهورية جوزيف عون (الحائز على 99 صوتاً من 128)، فهنيئاً للبنان وهنيئاً لرئيسه على صدقه وعلى بيان وبلاغة كلمته المؤثرة التي تتناسب مع الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، لقد بقيت مُنشدّاً كل الانشداد، ولا أغالي إن قلتُ أنني لم أسمع كلمة لسياسيّ بهذا الصدق والشمول وبهذه البلاغة من زمن طويلٍ طويل!..
كانت الكلمة ملأى بآمال وحماس وعهود قطعها الرئيس في أن يجعل لبنان عزيزاً بأهله وأمكاناته الزاخرة، وألا تكون مساعدة الأصدقاء مبرراً لتفرقة شمله والتدخل في شؤونه بما يؤثر على استقلاله السياسي والاقتصادي،فالبناء ينبغي أولاً يُعاد بجهوده أولا وبسواعد أبنائه ومساعدة الأصدقاء غير المشروطة الى أن يقف على قدميه شامخا شموخ صنين، مع تطلع ألى لبنان الحرية والديمقراطية والمساواة، وحماية أموال الناس وتعزيز التجارة النظيفة التي لا تدنسها المخدرات، وإعادة السياحة الى ازدهارها، وغير ذلك من عهود صفق لها النوّاب ونسوا بموجب هذه الكلمة بعض التلاسنات التي حصلت هنا وهناك.. أتمنى على ساستنا أن يستمعوا الى الكلمة ويروا بأعينهم عملية الانتخاب السلسة الشفافة، وأسلوب الحوار الصريح والبناء في آن، لعل في ذالك عبرة ودرساً لألي الألباب!!
سيفتح ترسيم رئيس الجمهورية مكتب الرئاسة بعد غياب نحو سنتين ويلحقه باب رئاسة الوزراء على مصراعيه بعد تعيين رئيس للوزراء بنفس روحية التوافق، وعساها بل ولا بدّ أن تكون بنفس الحماس والبرنامج الذي سيلتزم به رئيس الجمهورية، ولا شك أن ست سنوات غير كافية لتحقيق كل العهود والاستحقاقات ولكنها في الوقت نفسه ستحقق الكثير وستعيد للبنان وجهه الجميل وبريقه وخاصة إذا عرفنا أن رئيس الجمهورية مؤطر الصلاحية، وبالتعاون مع رئيس الوزراء القادم سينبعث لبنان جذاباً ساحراً رومانسيا ملهم الشعر والغناء بجماله!
فمذ كنا صغاراً ونحن نسمع من أقاربنا الذاهبين الى لبنان الذين يحدثوننا عن جمال لبنان بجباله ونسائمه مضرب الأمثال، وجمال أهله وأناقة مأكله وجمال نسائه ورقة لهجتهم، التي لا تخلو من مفارقات مع لهجتنا العراقية! كذاك الذي رجع للفندق متعباً متعرقاً لطول ما تمشى في الطبيعة وتضاريسها فاستقبلته مديرة الفندق مُرحِّبة سائلة إياه مبسوط؟ فأجاب متعجباً: لا تعبت وعرقت، من يبسطنى؟! فكانت نكتة نضحك لها!!
ويحضرنا لبنان بغنائه ودبكاته بمغنين مثل صباح ونجاح سلام وديع الصافي، ونصري شمس الدين أستاذ اللغة العربية الذي هجر اللغة الى الغناء، وفيروز وفيلمون وهبة والأخوين رحباني؛ وسمعت أحد الرحابنة يروي حادثة بطعم النكتة أن حمل ساعي البريد رسالة الى فيروز تحمل عنوان: الى المطربة فيروز وزوجها الأخوين رحباني!!
زرت لبنان صيف عام 1973 برفقة زوجتي ندفع عربة ولدي ذي الشهور الأربعة وكنا نترك العربة بمن فيها عند باب المحلات التجارية في شارع الحمرا فنرى سيدات يداعبنه وهو يضحك مندهشا.. الناس كانوا لطفاء تزيدهم وتزينهم لهجتهم الجميلة! كان الجو حاراً وأصحاب المحلات يبادرون بتقديم الماء بسبب “الشوب” وهذه أول كلمة تعلمناه تعني “الحر”!
أحببت جبران خليل جبران(كتبت عنه قبل بضعة أسابيع ست حلقات)، وكذلكشعر بشارة الخوري “الأخطل الصغير” وكنت معجباً بسلاسته والغوص على المعاني وحسن التصوير ورقة اللفظ، زار بغداد وقال فيها رائعته:
بغداد ما حمل السرى مني سوى شبح مريبِ
جفلت له الصحراء والتفَتَ الكثيبُ الى الكثيبِ
يتساءلون من الفتى العربي في الزي الغريب
يتساءلون وقد رأوا قيس الملوح في شحوبي
وعندما خرج الجواهري مغضباً إثر خلافه مع الزعيم عبد الكريم قاسم، أنشد في بيروت معارضاً بحضور بشارة الخوري:
لبنانُ يا خمري وطيبي هلا لممت حطام كوبي
من لحن إسحاقٍ و زريابٍ على شفتي عُريْبِ
وقبلهما رائعة المتنبي وكان في طريقه لمدح أمير لبناني وإذا بالثلوج تحاصره، فقال:
أمن اِزدياركِ في الدُّجى الرُّقباءُ – إذ حيثُ أنتِ من الظلامِ ضياءُ
وعقابُ لبنانٍ وكيف بقَطْعِها – وهو الشتاءُ وصَيفُهنَّ شتاءُ
لَبَسَ الثلوجُ بها عليَّ مَسالكي – فكأنّها ببياضِها سوداءُ
أتمنى للبنان الجميل أن يعود بهياً يغمره الحب والسلام، وسنزوره ونأكلُ من كَرّزه ونشرب سلافا من سوائغه!