لاتزال تفتنني عبارة توصيف التصوف الإسلامي القائلة بأن التصوف هو لغة الأرواح في درجتها الأسمى , يقول أحد المتصوفة بدون الحب نسير نحمل أجسادنا وكأننا نحمل جثة , وقد قرأت ان الشّاعرُ العاشق مبتلى بالابتلاءات كلّها , منخطف لا حضور له بين الخلق , إنه الباكي أبداً بين يدي ربّه, يتلمّس طريقهُ كالضّرير مخافة أن يلحظ عماه أحد , فلا بدّ أن تعمى يا صاحبي كي ترى بقلبكَ ما لا يراه الآخرون , ولا بدّ أن تصمّ أذنيْك عن كلّ شيء كي تسمع ما لا يسمعه الآخرون وتحبل منهُما بالكلمة المُقدّسة , ويرى ابن القيم ان العشق يهذب النفوس , ويرقق الطباع , ويصلح الأخلاق .

(( مذ رأيتك ولدت من رحم عينيك , أتذكرك عند اول نظرة , ساحرة كأنك قصيدة جاهلية نظمها ابن ابي سلمى بعد ان بلغ من الكبر عتيا , عابثة بالقلب كغزل ابن ابي ربيعة , عذبة كبيت لأبي نواس , آخذه بتلابيب القلب كرثاء ابن الرومي ابنه الأوسط , تكللك هاله من الحكمة كقصيدة للمتنبي , كان فيك شيء لا اعرف حتى اللحظة كيف اصفه , يشبه تدفق شيء جديد لا نعرفه من قبل , نقضم بحذر , ثم لما يسحرنا الطعم لا يعود بإمكاننا ان نتوقف )) .

قرأت حوارا مع الدكتور خزعل الماجدي حين سأله المقدم : في رواية تحكي سيرة المتصوف العلامة محيي الدين ابن عربي إسمها ( موت صغير) يقول فيها أن ديوان ترجمان الاشواق , الذي كتبه ابن عربي , كان لحبيبته ومعشوقته نظام , لكنه بعد ان فُضح هذا الحب تحول الى عشق الله , وكذلك علاقة الرومي مع معلمه شمس التبريزي , ماذا تقول في تلك الحالات التي تمر مع المتصوفة وكيف تقيّمها وتصفها ؟ , فأجاب الدكتور

خزعل الماجدي : هذا صحيح جداً لأن مبدأ التصوّف هو العشق والشوق , وسواء كان العشق بشرياً أم إلهياً فإنه يحرّك الروح باتجاه المعشوق , خصوصاً اذا لم يكن هناك اتصال جسدي , ويزداد الضمأ والشوق كلما كان الجسد بعيداً عن الإتصال , وحين يمتنع الإتصال نهائياً بين العاشق ومحبوبته , يتماهى العشق بينه وبين الله , ولذلك لانستغرب قول ابن عربي المعروف (( الطريق إلى الله يمرّ من خلال المرأة )) .

أقتطع من حوارات الدرويش ألآتي : (( قلت :- أي الشهوات أخطر يادرويش؟

قال :- غيبة في مخلوق … ونظر الى حرام … وغرور يصحبه رياء .

فقلت :- وماهو الرياء يادرويش ؟

قال :- التزين للناس من أجل الناس …. وهو قلب مقلوب عن الاخلاص .

قلت :- وهل ينقلب القلب يادرويش

قال :- نعم إذا إنشغل بالناس عن رب الناس )) .

في حوار تخيلي بين عمر الخيام والشاعر القزويني , يمكن أن نتناول موضوع غموض الرب والفهم البشري له , يمثل هذا الحوار استكشافًا لفلسفة التصوف والفكر الديني , وكيف يتفاعل الإنسان مع مفهوم الألوهية , يقول عمر الخيام: (( يا صديقي , تأملت كثيرًا في مفهوم الرب , وفي كل مرة أجد نفسي أمام بحر من الغموض , هل يمكن للعقل البشري المحدود أن يفهم هذا اللامحدود ؟ نحن نرى إشاراته في الطبيعة , في النظام الدقيق , في الجمال , وفي الفوضى , لكن , هل هذه الإشارات كافية لفهم حقيقته؟ )) , فيرد الشاعر القزويني :  (( يا عمر, هذا السؤال قديم قِدَم الزمن نفسه , لطالما سعى الإنسان لفهم الألوهية من خلال العقل والمنطق , وكذلك من خلال الروح والقلب , هناك من يرى الرب في كل شيء , وهناك من يراه بعيدًا عن كل شيء , لكن ما نتفق عليه جميعًا هو أنه غامض , لا يمكننا الإحاطة به بالكامل )) , فيعاود عمر الخيام السؤال : (( نعم , هذا الغموض هو ما يجعل الألوهية ساحرة ومرعبة في الوقت ذاته , نحن نبحث عن معناه في الكتب المقدسة , في الفلسفة , وحتى في النجوم , ربما نرى جزءًا منه في العلم , حيث تكشف لنا الاكتشافات عن عظمة الكون وترتيبه , ولكن , هل هذا يقربنا فعلاً من فهم حقيقته , أم يزيد من غموضه؟ )) , ليرد الشاعر القزويني قائلا : (( ربما نكون نحن البشر نميل إلى تبسيط الأمور لفهمها , نحاول وضع الألوهية في قوالب نعرفها ونفهمها , لكن الرب يتجاوز كل هذه القوالب , إنه أكبر من أن يُحتوى في كلمات أو أفكار , إنه يُدرَك بالقلب قبل العقل , وبالإيمان قبل المعرفة )) .

قرأت نصا لشاعرة مولوية تقول فيه : (( بين جسرين قريبين التقينا وعلى أكتافنا عِدلٌ من الرُّمَّان مفروطٌ ,بحبّات من القلب عجيباتٍ , كما البلَّور , لا يُعصرن في آنيةٍ , يلمع من أطرافهن النُّور شمساً وغماما , ما انتبهنا حين سال الماء من تحت بساط الرُّوح بوح ,
وبين جسرين بعيدين , غريبين عن الأضواءِ , موصولين بالأشجارِ, مهموسين بالأسرارِ ,
لا يفصل أنفاسهما جُرفٌ , ولا هُدْب يغطي نَعَسَ الليل بأحداقهما , صرنا قريبين , انحنينا
  مثل غصنينِ ,  التوت أطرافُ أضلاعِهما كي يحتمي بينهما برعم حبّ رضع الزَّهر وناما )).

لا أحد يُطيق نيرانَ العشق وأنواره , ولا امتحاناته الكبرى , والكلّ يدّعي العشقَ ويكتب عنه , وما ذاق طعمه أحد , إنّه مرٌّ كالعلقم في بداياته وحلو كالشّهد في نهاياته , ونار حارقة وبرد زمهرير في الآن نفسه , وما احتواه فؤاد إلّا وأصبح ذا صلاة حارقة , ما وقف خلفه أو أمامه أحد إلّا صُعق وصُرع , نسأل الله السلامة لنا ولكم أيّها العُشّاق .

أحدث المقالات

أحدث المقالات