نعم انتخاباتنا التي لم تستطع المفوضية العليا لها والى حد يومنا هذا في الالتزام بالموعد المحدد والمقرر من قبلها لأعطاء النتائج التي تراهن عليها شعب بدأ يتنفس الصعداء في ممارسة ديمقراطية ينقصها ومع كامل الأسف وعياً سياسياً واضحاً، والمثير للدهشة هنا ما تضخم عنها من عواقب وادعاءات في التزوير ورمياً او خطفاً للصناديق لا بل وصلالامر احياناً الى التشابك وبأسم الديمقراطية تلك بالأيدي.
ماحدث في عرسنا البنفسجي هذا وثورة التغيير التي تأمل العراقيون بها خيراً لم نلمس أية بوادر لها لا لشئ فقط لان التغيير الحقيقي هو الذي ينبع من وعي وصدق ساستنا والذين لا هم لهم سوى الكرسي والراتب البرلماني. الإيمان بالتغيير يجب ان ينبع اولا من صدقنا تجاه مسوؤليتنا وقدراتنا نحن كعراقيين سياسين كنا ام ناخبين، وهنا لا اريد الخوض والحديث اكثر عن انتخاباتنا وتجربتنا الديمقراطية الفتية والحديثة العهد لأنه مثلي كمثل الذي( ينفخ في أربة مقطوعة ) على قول إخواننا المصريين.
وبالمقابل وجدت في الانتخابات البلجيكية القادمة مناسبة لانقل لكم وبأيجاز محاولة ومعتمدة على بعض المعلومات التي أسعفني بها زوجي في هذا الجانب تجربتهم في العمل الديمقراطي كشعب وكأحزاب في الوقت ذاته.
ولكي يكون لديكم تصور ولو بسيط عن تاريخ وسياسة هذا البلد الذي شاءت الظروف ان أعيش فيه سوف اقدم لكم بعض المعلومات حول هذا الموضوع، وكيف استطاع ان يصبح وبالرغم من صغر حجمه قياسا مع دول أوربا الاخرى مثالا للاستقرار والتناغم الاقتصادي والثقافي والسياسي الواحد لشعب يعيش ثلاث ثقافات ولغات واتجاهات مختلفة الواحدة تماماً عن الاخرى.
المملكة البلجيكية والتي يبلغ عدد سكانها مايقارب العشرة ملايين نسمة وهي العضو المؤسس للاتحاد الأوربي ومنظمة حلف الشمال الأطلسي، نالت استقلالها عام ١٨٣٠ عندما انفصلت عن جارتها هولندا بعد حروب أهلية طويلة فيما بين العوائل المالكة وتفرعات الديانة المسيحية والكنائس آنذاك . وبعد الانتهاء من هذه المرحلة احتلتها ألمانيا النازية في الحرب العالمية الاولى وكذلك الثانية الا انها استطاعت ان تنال استقلالها وتطرد الاحتلال وكان هذا بمساعدة دول الحلفاء حينها وخاصة الجارة فرنسا. حروبها الخارجية والداخلية تلك وتدخلات دول الجوار قديماً جعل منها نسيجاً لثلاث ثقافات ولغات وأصول تاريخية مختلفة تماماً الا وهي الثقافة الفرنسية والهولندية والألمانية، الا انه استطاع ساستها وقادتها وبمساعدة المؤسسة الدينية المسيحية الكاثوليكية فيها الخروج من أزمة كادت ان تؤدي بها الى الفناء أزمة التعددية هذه والتي تعود جذورها الى ستينيات القرن التاسع عشر وتبلورت هذه الأزمة اكثر فأكثر في بدايات القرن العشرين.
وكان للتعديل الدستوري الحاصل في عام ١٩٧١ اثره البالغ في استقرار البلاد، حيث ثبتت في هذا التعديل صلاحيات ومسؤوليات التقسيم هذا وبأتفاق جميع الأطراف، وحسب هذا التعديل أصبحت بلجيكا مقسمة الى ثلاثة أقسام (القسم الفلاماني المتحدث باللغة الهولندية ويشمل جميع المدن الواقعة شمال بلجيكا والبالغ نسبة السكان فيها ٨٥٪ ) ، ( والقسم الوالوني المتحدث باللغة الفرنسية والواقع جنوب البلاد بنسبة سكان ٤١٪ )، وأخيرا ( القسم الجرماني المتحدث باللغة الألمانية والواقع في شرق بلجيكا وبنسبة ١٪ ). وكان لدول الجوار المتمثلة في هولندا وفرنسا وألمانيا تأثيرا واضحا في سحب البساط كلا لمصلحته من خلال نشر لغته وثقافته في هذه البلاد. ولان خيارات البلجيكيين كانت ضئيلة نجحوا في ترسيم هذا التقسيم بشكل قانوني فيما بينهم وذلك من خلال تشكيل برلمان ووزارات وميزانية منفصلة لكل فئة من تلك الفئات، ويمكن ملاحظة هذا التقسيم بشكل جلي اذا ما شاهدنا خارطة بلجيكا الجغرافية. واذا ما استبعدنا الجزء الجرماني اي المتحدث بالألمانية لقلة فعاليته هنا فستكون بلجيكا مقسمة بثقل فرنسي هولندي .
ولهذا يتحدث سكنة المناطق الفلامانيه اللغة الهولندية وسكنة المناطق الوالونية اللغة الفرنسية وعندما أقول يتحدث ليس على مستوى العامة فقط بل قانونياً يجب ان تكون لغة الدوائر والبلديات والمؤسسات الحكومية والمدارس ، اما بروكسل العاصمة لزم على كافة العاملين في مؤسساتها وأسواقها وجمعياتها التحدث باللغتين . وللمواطن بالطبع هنا حرية اختيار سكنه او مدرسة أولاده الا ان هذا لا يعني التزام العامة في الشارع بلغة محدده واحدة ، اي يمكن ان تجد الكثيرين من الذين يجيدون اللغتين . ومن اجل إرساء أسس الاندماج والتفاعل فيما بين الثقافتين واللغتين يتم تدريس اللغة الفرنسية وابتداء من الصف الخامس الابتدائي في المدارس الهولندية ونفس الحال ينطبق على المدارس الفرنسية. ولترسيم وتأكيد أسس الوحده هذه يوجد اضافة الى البرلمان الفلاماني والوالوني اي المتحدث بالهولندية والآخر المتحدث بالفرنسية برلمانا وطنيا موحدا يتألف من ١٥٠ مقعد يتم اختياره من البرلمانيين السابقين ويوجد أيضاً مجلس شيوخ وأعيان يتألف من ٧١ مقعد، ويعتبر هنا مجلس النواب السلطة الوحيدة القادره على سحب الثقة من الحكومة وهو الهيئة التشريعية الرئيسية في بلجيكا .
في بلجيكا نظام الحكم هنا ملكي ودستوري وبرلماني، رئيس الدولة هو الملك والذي يتمتع بصفة فخرية لاغير ورئيس الحكومة هو رئيس الوزراء، وتوجد أيضاً حكومة فدرالية متكونة من خمسة عشر وزير مقسمه مناصبهم بالتساوي فيما بين الوالون والفلامان من صلاحيتها الاهتمام بعلاقات بلجيكا الخارجية والدفاع والاقتصاد، وتبقى الأمور الداخلية من ثقافة وتعليم اختصاص الحكومة الجهوية او الإقليمية . بلجيكا التي تعيش هذا الانقسام الوضح في كل شئ تعيش في الوقت ذاته راحة واستقرار سياسي وديني وعلماني أيضاً، استطاعت بلجيكا الصغيرة العظيمة ان تخلق أيضاً وفي وقت قياسي علاقات محبة واحترام متبادل فيما بينها وبين الدول المجاورة لها لا يسمح لأي احدا التدخل في شؤونها لا الداخلية او الخارجية. ومما ساعد على نجاح العملية السياسية هذه قوة وحكمة وتنظيم الأحزاب المشاركة في الانتخاب والتي لا يتجاوز عددها كأحزاب فاعلة واساسية العشرة احزاب ابرزها الحزب الليبرالي الاشتراكي وحزب الخضر والحزب المسيحي الديمقراطي وحزب الجبهة الوطنية وأحزاب اخرى.
وعلى هذا الأساس سوف نتوجه في الخامس والعشرين من هذا الشهر لاختيار ممثلينا في البرلمان الفلاماني بالنسبة لي لأنني أعيش في مقاطعة فلامانية حيث تلقينا في الأسبوع الماضي وعن طريق البريد اليومي بطاقة دعوة رسمية للمشاركة في الانتخابات ، كتب فيها وبشكل واضح للعيان اليوم والتاريخ والساعة المخصصة للانتخاب اضافة الى عنوان المركز الانتخابي، أشير وبشكل واضح أيضاً معلومة إلزامية الانتخاب وفي حالة عدم
الحضور سترسل غرامة مالية . هذه الدعوة خصص إرسالها الى حاملين الجنسية البلجيكية من سكنة البلاد الأصليين وغير الأصليين ، اما ذوي الإقامة المحددة او الدائمية فليس لهم الحق في الانتخاب . وهنا يجب الإشارة الى ان حاملي الشهادة البلجيكية من ذوي أصول اجنبية او عربية يعاملون معاملة المواطن من الدرجة الاولى دون اي تمييز لا في الحقوق او الواجبات.
العمل والتنظيم لهذا اليوم بدأ وبهدوء على قدم وساق،، حيث نشر وفي صفحات الجريدة الشهريه الصادره عن البلدية التي نعيش فيها والتي تصل مجانيا الى جميع سكنة الحي معلومات هامة وموضحة بالصور عن كيفية الانتخاب هنا، ولان الانتخاب يجري بطريقة الكترونية وليست ببطاقة الكترونية فلا وجود للقلم والقوائم والحبر البنفسجي هنا، الانتخاب الالكتروني وعن طريق الكومبيوتر حديثاً هو الاخر هنا حيث تم العمل به في دورتين او الثلاثة الاخيرة. وأثبت العمل بنظام الانتخاب الالكتروني هذا نجاحا تاما ولم تسجل أية إشكاليات او تلبك او حتى عطل، حيث تتم العملية بسهولة وسلاسة، يستلم الموظفون الهوية الشخصيه للناخب وفوراً يقومون بأعطائة كارت اوشريحة الكترونية لايوجد عليها اي شي سوى سهم اسود يشير الى ضرورة ادخال هذه الشريحة في الحاسبة المخصصة لهذا الغرض، وعند إسلامها يدخل كل واحد الى غرفة فردية وبعد ادخال الشريحة يظهر شرح سريع للغاية عن كيفية إتمام باقي الخطوات بعدها تخرج قائمة الاختيارات للأحزاب المتنافسة ومن ثم قائمة المرشحين، وبعد ان تتم عملية الاختيار والضغط على زر “أوكي ” يقوم الجهاز بأعطاء الناخب وصل او بالأحرى قصاصة ورقية صغيرة ثبت فيها وبالحروف الالكترونية الاختيار يقوم الناخب بتمريرها على جهاز الإسكنر لتسجيل اختياره الاكترونياً أيضاً وبعدها يقوم بوضعها في الصندوق بعد طيها طبعا ، وأثناء الانتهاء من هذه العملية تكون الموظفة قد أنهت أيضاً تدوينها لمعلومات الناخب.
بصراحة اللسان يعجز عن وصف النظام والدقة والإتقان في هذا المجال، الانتخابات بقى عليها مايقارب الأسبوعين ولم نشهد أية زوبعة انتخابية او دعاية مبالغ فيها، راعى المرشحون الذوق العام واختاروا البساطة والقلة لعرض دعاياتهم وكانوا متقصدين في اختيار الأماكن والأندية الاجتماعية والرياضية وكذلك الشوارع والأزقة الفرعية بدلا من الشارع العام، اعتمدوا أيضاً على طريقة إرسال سيرهم الذاتية وصورهم الى سكن المواطن بشكل مباشر وهذا يتم أيضاً عن طريق البريد هم مؤمنون اذا ان نجاحهم يعتمد على ما قدموه من خدمات للمواطن وعلى سيرتهم الذاتية ، شعارهم هنا هو تطوير كل ماهو إيجابي وعلاج كل ماهو سلبي لهذا هم ناجحون في حياتهم لأنهم لايؤمنون بالعجز بتاتا ، وعندما نأتي ونفكر في تطبيقاتهم هذه سنجد انها بنيت على اعتبارات لااساس للماديات فيها، البساطة والدقة والعملية هي احدى شعاراتهم أيضاً هم منقسمون في كل شي الا انهم نجحوا في جعل هذا التقسيم أساسا للتنظيم في كل شئ واذا ما اعتمدوا التنظيم فسيكون ودون أدنى شك النجاح هدفهم وغايتهم التي يسعون اليها.
وقفة ختامية أستميحك بها عذراً يا بلدي وذلك لمقارنتك مع بلد عمرة حضارتة وتاريخة لا يتجاوز ال ١٥٠ عاماً ، عفوا أقولها لك لأنني كتبت اليوم لا لتصغير شأنك لان الجميع يعلم علم اليقين بعظمتك وشموخك وتاريخك وكبريائك حتى أطفالنا الذين ولدناهم هنا ولم يتربوا في حظنك الدافئ هم على علم بمجدك وشموخك،، اسمعوا مني هذه الحكاية البسيطة وستشعرون بعظمة العراق هذه ، دخلت علي ابنتي عند عودتها من المدرسة ذات يوم وهي فرحة مبتسمة وبيدها كتاب مادة التاريخ، تقلب في أوراقه وتقول ( ياماما عرفت الان جيدا لماذا كنت تبكين على بلدك ) عرفت اليوم من هو العراق لقد قرأنا عنه وعن حضارته السومرية والبابلية وعن حمو رابي أنتم اذا من بنيتم أولى الحضارات كيف لكم ان تسقطوا الان يا أمي ؟
أجبتهما بعد ان أغرقت عيناي بالدموع كوني مطمأنة يا ملاكي سوف ينهض العراق من جديد لان حضارتنا لم تكن بناء وتهدم وإنما هي أساس موجود في ترابة وفي دم وقلب كل عراقي شريف، سوف يعود من جديد وسترين هذا يا غاليتي .وستفتخرين اكثر عندما تتحدثين لهم عن صمود وصبر شعب ابى ان لا يعيش الا بكرامته.