10 يناير، 2025 12:22 ص

قصة الحضارة (183):  اتصف الآخيين بالكذب والخداع والنهب

قصة الحضارة (183):  اتصف الآخيين بالكذب والخداع والنهب

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن الأخلاق في حضارة الآخيين، وكيف أن أخلاقهم نبعت من شعورهم بعدم الأمان، لذلك تفشي الكذب والخداع والسرقة والنهب. وذلك في الحلقة الثالثة بعد المائة وثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الأخلاق..

استأنف الكتاب الحكي عن الحضارة الآخية والأخلاق فيها: “أما الجانب الآخر من الصورة فكان أقل من هذا مدعاة للسرور. فنحن نرى أكليز يقدم “امرأة تحذق الأشغال اليدوية الجميلة” جائزة للفائز في سباق العربات. ونرى الخيل، والكلاب، والثيران، والضأن، والآدميين يضحى بها على كومة إحراق بتركلوس حتى يكون له بعد موته ما يبتغيه من حسن الخدمة ومن الطعام. ويحسن أكليز معاملة بريام، ولكنه لا يفعل ذلك إلا بعد أن يجر جسم هكتور المشوه جرا مهينا حول كومة الحريق.

وكانت الحياة في نظر الرجل الآخي قليلة القيمة، لا يعد سلبها من الأمور الخطيرة، وكانت لحظة من السرور كفيلة بردها إلى من قضي عليه بفقدها. وإذا ما غلبت مدينة على أمرها قتل رجالها أو بيعوا بيع الرقيق، واتخذت النساء خليلات إن كن حسانا، أو رقيقات إن لم تكن كذلك. وكانت القرصنة لا تزال من المهن المحترمة، وكان الملوك أنفسهم ينظمون حملات مغيرة، تنهب المدن والقرى وتتخذ أهلها عبيدا.

ويقول ثوسيديدس في هذا: “والحق أن هذا العمل أصبح أهم مورد من موارد الرزق لليونان الأولين، ولم تكن هذه المهنة حتى ذلك الوقت مما يجلل صاحبها العار”، بل كانت تكسبه المجد. وكان في مقدور الأمم العظيمة أن تهاجم الشعوب الضعيفة المحرومة من وسائل الدفاع وتخضعها لسلطانها دون أن يعد ذلك منها مخالفا للعدل أو الكرامة، شأنها في هذا شأن الأمم القوية في هذه الأيام. وحين يسأل أديسيوس هل هو تاجر يهتم بالمكاسب التي يسد بها مطامعه، يرى في هذا القول إهانة له؛ ولكنه يتحدث في زهو وخيلاء عما فعله وهو عائد من طروادة إذ قل ما كان لديه من المؤن، فنهب مدينة إسمروس وملأ منها سفينة بالطعام؛ وكيف صعد في نهر إيجبتس يقصد نيل مصر لينهب الحقول النضرة ويسوق أمامه النساء والأطفال الصغار، ويقتل الرجال”.  وملاك القول أنه لم تكن ثمة مدينة من المدن آمنة من هجوم القراصنة المفاجئ عليها، دون أن تعمل من جانبها ما يستفزهم أو يبرر هجومهم”.

الكذب والخداع..

وعن صفات الكذب والخداع في هذه الحضارة يواصل الكتاب: “وويتصف الآخيون فضلا عن حبهم للنهب والقتل دون أن يخشوا في ذلك تأنيب الضمير، يتصفون فضلاً عن هذا بالكذب والخداع دون حياء، فأديسيوس لا يكاد ينطق بقول دون أن يكذب فيه، أو يعمل عملا دون أن يشوبه الغدر. من ذلك أنه لما قبض على دولون الجاسوس الطروادي وعده هو وديوميد أن يبقيا على حياته إذا أدلى إليهما بما يطلبانه من المعلومات، فلما فعل قتلاه. ولسنا ننكر أن غير أديسيوس من الآخيين لا يضارعونه في الغدر والخيانة، ولكنهم لا يمتنعون عن ذلك لأنهم لا يريدون أن يغدروا أو يخونوا، بل هم يحسدون أديسيوس ويعجبون به، ويرونه أنموذجاً للخلق الطيب.

والشاعر الذي يصوره يعده بطلا من كل الوجوه، وحتى الإلهة أثينة نفسها تثني عليه لكذبه، وتضيف هذه الصفة إلى محاسنه الخاصة التي تحببه إليها، وتقول له وهي تبتسم وتربت عليه بيدها: “إن الذي يفوقك في حيلك المختلفة الأنواع لا بد أن يكون ماكرا خبيثا، ولو كان الذي يلقاك إلها من الآلهة. إنك رجل ماكر فيما تسديه من نصح، لا يقف خداعك وغدرك عند حد؛ ويلوح أنك لا تمتنع في بلدك نفسه عن الاحتيال وعن القصص الكاذبة الخادعة التي تحبها من أعماق قلبك”.

والحق أننا نحن أنفسنا نشعر بميل نحو هذا البطل الذي يشبه في التاريخ القديم البطل منشهوزن الخرافي ، فنحن نتبين فيه وفي الشعب المجد المحتال الذي ينتمي إليه من الصفات ما يستثير الحب؛ فهو أب لطيف رقيق القلب، وهو في بلده حاكم عادل “لم يسيء لأحد في أرضه لا بالقول ولا بالفعل”. ويقول فيه راعي خنازيره : “إنني لن أجد بعد اليوم سيدا يضارعه في شفقته مهما بعدت البلاد التي أذهب إليها، حتى لو عدت إلى بيت أبي وأمي!””.

أديسيوس..

ويضيف الكتاب عن “أديسيوس”: “ونحن نغبط أديسيوس على “شكله الشبيه بأشكال الآلهة المخلدين” وعلى جسمه الرياضي، الذي يمكنه وهو في نحو الخمسين من عمره أن يقذف القرص أبعد مما يقذفه أي شاب من شبان الفيشيان؛ ونعجب “بثبات جنانه” و “بحكمته الشبيهة بحكمة جوف”. ولا ينقطع عطفنا عليه وهو يتمنى الموت بعد أن يئس من قدرته على أن يرى مرة أخرى “الدخان ينبعث من أرض وطنه”، أو حين يقوي قلبه وسط ما يحيط به من أخطار وآلام بالألفاظ التي كان سقراط يحب أن يرددها: “اصبري الآن يا نفسي، لقد قاسيت من قبل ما هو شر من هذا”. وهو في جسمه وعقله رجل من حديد، ولكن كل قطعة فيه مهما صغرت قطعة من إنسان، ولهذا فإنا نعفو عنه ونتجاوز عن سيئاته.

والحق أن المعايير الخلقية عند الآخيين تختلف عن معاييرنا اختلاف فضائل الحرب عن فضائل السلم. فالرجل الآخي يعيش في عالم مضطرب، كَدِر، جوعان، على كل إنسان فيه أن يعني بحراسة نفسه، وأن يكون على الدوام ممسكا بقوسه ورمحه قادرا على أن ينظر في هدوء إلى الدم المراق.

وفي ذلك يقول أديسيوس: “إن المعدة الجائعة لا يستطيع أحد أن يخفيها. ومن أجلها صنعت السفن المعوجة وأعدت لتحمل الويل إلى الأعداء فوق البحر الهائج المضطرب”.

افتقاد الأمان..

وعن افتقاد الأمان في تلك الحضارة يكمل الكتاب: “وإذا كان الآخي لا يجد إلا القليل من الأمن والسلامة في بلاده، فإنه لا يرعى شيئا منهما في خارجها؛ ويرى أن من حقه أن يفترس كل ضعيف. وأسمى الفضائل في رأيه فضيلة الذكاء المقرون بالشجاعة والقسوة، ولفظ الفضيلة في لغته مشتق من لفظ الرجولة ومن صفة أو المريخ . وليس الرجل الصالح عنده هو الرجل اللطيف المتسامح، الأمين الرزين، المجد الشريف؛ بل هو الرجل الذي يحارب ببسالة وكفاية. وليس الرجل الطالح هو الذي يدمن الشراب، ويكذب، ويقتل ويغدر، بل هو الجبان الغبي أو الضعيف. لقد كان ثمة نِتْشيون قبل نتشه، وقبل ثرازمكس بزمن طويل، في فجاجة العالم الأوربي وصلابته”.

الرجال والنساء..

ويتابع الكتاب عن وضخ الجنسين في تلك الحضارة: “كان المجتمع الآخي مجتمعا أبويا استبداديا، يمتزج به جمال المرأة وغضبها بحنان الأبوة وحبها القويين . وكان الأب من الوجهة النظرية صاحب السلطان الأعلى، وكان له أن يتخذ من السراري ما يشاء، وأن يقدمهن لضيوفه، وأن يضع أطفاله على قمم الجبال ليموتوا أو يذبحهم قرباناً للآلهة الغضاب. وهذه السلطة الأبوية المطلقة لا تستلزم حتماً أن يكون المجتمع الذي تسوده مجتمعا وحشيا، بل كان ما تعنيه أن هذا المجتمع لم يبلغ نظام الدولة فيه مبلغا يكفي لحفظ النظام الاجتماعي، وأن الأسرة فيه تحتاج في خلق هذا النظام الاجتماعي إلى القوى التي آلت فيما بعد إلى الدولة حين أممت حق القتل.

وكلما تقدم التنظيم الاجتماعي وارتقى نقص سلطان الأب، وتفككت وحدة الأسرة، ونمت الحرية والفردية. ولقد كان الرجل الآخي في الحياة العملية رجلا معقولا في أغلب الأحوال، يصغي في صبر وأناة إلى فصاحة أهل منزله ويخلص إلى أبنائه”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة