قصة الحضارة (182): رجعت الثقافة الآخية خطوة إلى الوراء

قصة الحضارة (182): رجعت الثقافة الآخية خطوة إلى الوراء

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن  الثقافة في حضارة الآخيين، وعن الأسرة والتعامل الأخلاقي بين الناس، وذلك في الحلقة الثانية بعد المائة وثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الأسرة في الحضارة الآخية..

يواصل الكتاب الحكي عن الحضارة الآخية: “وكانت الأسرة نفسها تقوم بصنع أكثر حاجياتها، فكان كل فرد يعمل بيديه، وكان رب الأسرة، بل كان الملك المحلى نفسه مثل أديسيوس، يصنع ما يحتاجه بيته من سرر وكراسي، وما يلزمه هو من أحذية وسروج، وكان  على عكس اليونان المتأخرين  يفخر بمهارته في الأشغال اليدوية. ولقد كانت بنبي، وهلين، وأندروماك وخادماتهن لا ينقطعن عن الاشتغال بالغزل والنسج والتطريز، والأعمال المنزلية. وتبدو هلين وهي تعرض تطريزها على تلماك، أجمل منها وهي تتبختر فوق أسوار طروادة.

وكان الصناع من الأحرار، ولم يكونوا قط من الرقيق كما كانوا عند اليونان الأقدمين؛ وكان من المستطاع عند الحاجة تجنيد الفلاحين للعمل في خدمة الملك، ولكننا لا نسمع قط بالأقنان اللاصقين بالأرض المرتبطين بها؛ ولم يكن الأرقاء كثيرين، ولم تكن منزلتهم منحطة، وكان معظم الرقيق من الجواري خادمات المنازل، وكانت منزلتهن في الواقع لا تقل عن منزلة خادمات المنازل في هذه الأيام، إذا استثنينا أنهن كن يُشترين أو يبعن لآجال طوال، لا للقيام بأعمال قصيرة غير ثابتة كحالهن في هذه الأيام.

وكن في بعض الأحيان يعاملن بقسوة وحشية؛ لكنهم في العادة كن كأعضاء في الأسرة التي يعملن لها، يعنى بهن في مرضهن أو عجزهن أو شيخوختهن؛ وكن يرتبطن في بعض الأحيان بعلائق الود والمحبة مع رب الأسرة أو ربتها. فقد كانت نوسكا تساعد جواريها في غسل الملابس في النهر، وتلعب الكرة معهن، وتعاملهن في جميع الأحوال معاملة الرفيقات. وإذا ولدت الجارية ولدا من سيدها كان هذا الولد في العادة من الأحرار، غير أنه كان ككل إنسان معرضا لأن يكون رقيقا إذا وقع أسيرا في الحرب أو في غارة القراصنة. وكان هذا أسوأ ما في الحياة الآخية”.

المجتمع الهومري..

ويضيف عن المجتمع الهومري: “والمجتمع الهومري مجتمع ريفي، وحتى “مدنه” لا تعدو أن تكون قرى تشرف عليها قلاع قائمة فوق التلال المجاورة لها. وكانت الرسائل تنقل على أيدي السعاة أو الرسل، وإذا كانت المسافة طويلة نقلت الرسالة بإشارات النار تبعث من إحدى قلل الجبال إلى قلة أخرى. وكان النقل البري تعوقه الجبال الخالية من الطرق، كما تعوقه المستنقعات، والمجاري الخالية من القناطر.

وكان النجارون يصنعون عربات ذات أربع عجلات لها تروس وأطر من الخشب، ولكن معظم البضائع كانت رغم وجود هذه العربات تنقل على ظهور البغال أو الرجال؛ وكانت التجارة البحرية أقل مشقة من التجارة البرية رغم القراصنة والعواصف، فقد كانت الموانئ الطبيعية كثيرة، ولم تكن السفن تنقطع عن رؤية الأرض إلا في أثناء الرحلة الخطرة التي تدوم أربعة أيام من كريت إلى مصر.

وكانت السفن عادة ترسو إلى البر في الليل، وينام البحارة والمسافرون في مكان أمين على الأرض. وكان الفينيقيون في العصر الذي نتحدث عنه لا يزالون أفضل من اليونان في التجارة والملاحة، وكان اليونان يثأرون لأنفسهم من هذا النقص باحتقار التجارة وإيثار القرصنة.”

النقود..

وعن النقود يكمل الكتاب: “ولم يكن عند اليونان الهومريين نقود، فكانوا يستخدمون بدل النقود المضروبة سبائك من الحديد، والبرنز، والذهب؛ وكان الثور والبقرة يتخذان واسطة للتبادل. وكانت السبيكة الذهبية التي تزن سبعة وخمسين رطلاً تسمى تالنت من تالنتون أي وزنه. وكانت المقايضة كثيرة رغم ما كان عندهم من وسائط متعددة للتبادل، وكانت ثروة الشخص تقدر بما عنده من بضائع وخاصة بما عنده من ماشية، لا بما يملك من قطع من المعدن أو الورق، قد تفقد قيمتها أو يعتريها التغيير والتبديل في أي وقت من الأوقات، إذا ما بدل الناس عقائدهم الاقتصادية. وفي أشعار هومر كما في الحياة الواقعية أغنياء وفقراء؛ ذلك بأن المجتمع أشبه ما يكون بعربة تجعجع في طريق لا مستو ولا معبد، ومهما أتقن صنع العربة وتركيبها فإن بعض ما تحمله من متاع سوف يرسب في قاعها ويطفو بعضه الآخر إلى أعلى سطحها”.

حرب الطبقات..

وعن حرب الطبقات يتابع الكتاب: “ولم يصنع الفخراني آنيته كلها من طينة واحدة، كما لم يصنعها كلها بنفس القوة والهشاشة؛ ومن أجل هذا لا يكاد يستهل عصر الكتاب الثاني من كتب الإلياذة حتى تستمع إلى حرب الطبقات، وحين يستشيط ثرسيتس غضبا ويطبق لسانه في أجممنون، ندرك من فورنا أن هذا عرض قديم من أعراض ذلك الداء المزمن الوبيل.

إنا ليخيل إلينا ونحن نقرأ أشعار هومر أننا نعيش في مجتمع أكثر بدائية وأقل خضوعاً للقوانين من المجتمع الذي شهدناه في نوسس أو ميسيني. فلقد رجعت الثقافة الآخية خطوة إلى الوراء، وكانت مرحلة انتقال بين الحضارة الإيجية الزاهرة والعصر المظلم الذي سوف يعقب الفتح الدوري. فالحياة الهومرية فقيرة في الفنون، غنية في النشاط والعمل؛ وهي ثقافة ينقصها التفكير والتأمل، خفية سطحية، سريعة. وهي أصغر سنا وأصلب عودا من أن تهتم بالأخلاق أو الفلسفة. أو لعلنا نخطئ في حكمنا عليها لأننا نراها في الأزمنة الحادة أو الفوضى التي أعقبت الحرب.”

الرقة..

وعن اللطف والرقة في أخلاق تلك الحضارة: “ولسنا ننكر أننا نشهد في هذه الثقافة كثيرا من الصفات والمناظر الرقيقة الرحيمة، وإنك لترى المحاربين أنفسهم كرماء، يعطف بعضهم على بعض، كما ترى بين الأب والابن حبا به من العمق قدر ما به من السكون والصمت. فهاهو ذا أديسيوس يقبل رؤوس أفراد أسرته وأكتافهم حينما يعرفونه بعد غيابه الطويل، وهاهم أولاء يقبلونه كما يقبلهم. وحين يعلم منلوس وتعلم هلن أن تلمكس الطفل النبيل ابن أديسيوس المفقود الذي حارب من أجلهم حرب الأبطال يبكيان ويتحسران. وحتى أجممنون نفسه لا يستعصي عليه البكاء فيذرف من الدموع ما يذكر هومر بمجرى ماء يتدفق فوق الصخور.

والصداقة بين الأبطال قوية متينة، وإن كنا نظن أنه قد يكون في العلاقة القوية أو قل العلاقة الغرامية التي بين أكليز وبتركلوس، وخاصة بتركلوس الميت شيء من الصلات الجنسية الشاذة. وهم شديدو السخاء على الأضياف لأن “الغرباء والمتسولين أبناء زيوس، والعذارى يغسلن قدمي الضيف أو جسمه ويدهنه بالأدهان، وربما قدمن له ثيابا غير ثيابه؛ وهو يجد الطعام والمأوى إذا كان في حاجة إليهما، وقد يتلقى الهدايا أيضاً.

ومن أقوال هلن ذات الخد الأسيل، وهي تضع بين يدي تلمكس ثوبا غالي الثمن: “هاأنذا أقدم لك أيها الطفل العزيز هذه الهدية، لتذكر بها يدي هلن في يوم زواجك المرتقب من زمن بعيد ولتلبسها زوجتك”. تلك صورة تكشف لنا عن الحنو الإنساني والشعور الرقيق اللذين يختفيان حتما في الإلياذة بين نقع الحرب وقعقعة السلاح.

والحرب نفسها لا تحول بين اليونان وبين حبهم القوي للألعاب. فالصغار والكبار على السواء يتبارون مباريات على جانب عظيم من الخطورة والمهارة، تسودها العدالة والفكاهة. ويلعب خطاب بنلبي الداما ويتقاذفون الأقراص والحراب، ويلعب ضيوف أديسيوس الفاكهون لعبة القرص وألعابا غريبة هي مزيج من ألعاب الكرة والرقص .

ولما أحرقت جثة بتركلوس بعد وفاته أقيمت بهذه المناسبة حسب العادات الآخية ألعاب كانت هي المثل الذي اُحتذي في الألعاب الأولمبية، وكانت تشمل العَدْو، وقذف القرص والحربة، والرمي بالسهام، والمصارعة، وسباق المركبات، والمبارزة بالسلاح؛ وكانت كلها تسودها الروح الرياضية الطيبة، إذا استثنينا أنها كانت محرمة إلا على الطبقات الحاكمة، وأن الآلهة وحدها هي التي كان يسمح لها بالغش والخداع”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة