تمثل المرجعية الدينية للطائفة الشيعية القيادة الدينية العليا وهي الممثلة عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي تؤمن به الطائفة الشيعية على انه هو المخلصّ للأمة من الظلم والاضطهاد وهو الإمام الثاني عشر حسب التسلل الديني للأئمة ألاثني عشر.
ومثلت المرجعية الدينية دوراً هاماً في حفظ الشريعة الإسلامية بعد زمن الغيبة الكبرى من خلال حفظ الأحاديث وكتابتها وتدوين التاريخ والمنتج الشيعي بكل أنواعه, ولم تغفل المرجعية الدينية أيضاً عن إعداد وصناعة البديل من الفقهاء والعلماء الربانيين لكي يقوموا بمهمة رعاية شؤون العباد والحفاظ على حراسة أصول الدين من الضياع أو الاندثار حتى قُسمت لنا طبقات الفقهاء والعلماء بما يسمى الأقدمين والمتأخرين ومتاخري المتأخرين وغيرها من التسميات التي أطلقت على الفقهاء.
وللفقهاء أيضاً شروط ومواصفات خاصة تُستفاد من الروايات والأحاديث الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وأيضاً لهم مكانة خاصة وكاريزمية متفوقة على كل القيادات الأخرى مما يشعر الفرد بأنه جالس في روضة قدسية عند جلوسه لدى العلماء والاستماع إلى كلامهم، وقد عملوا جاهدين على حفظ ذلك التراث العظيم، وأما عن الجانب الأخر من التصدي للعمل السياسي وغيره مما يسبب إزعاج وإرباك للسلطات الحاكمة فهم لم يقوموا به لعلمهم المسبق بما تقوم به السلطة من بطش وعدوان اتجاه كل تحرك سياسي والتاريخ شاهد على ذلك الظلم والعداء والمطاردة لأتباع هذا المذهب ومن التصدي الحازم لهم من قبل السلطة, فلأجل الحفاظ على أرواح المؤمنين لم يتدخل علماء الدين في الأمور السياسية ونأوا بأنفسهم عن الخوض في مجريات الدخول في أي مواجه مع السلطة وكتفوا في تدريس العلم والتعلم الديني، وببركة هذا التوجه لدى الفقهاء حصلنا اليوم على مدرسة فقهية متميزة عن اقرأنها من المدارس الفقهية لدى المذاهب الأخرى, ولكن يبقى أصحاب هذا المذهب في تغييب واضح وظلم مستمر من السلطات الحاكمة ما لم يكن لهم قرار سياسي وتأثير فاعل على اتخاذ المواقف السياسية ولم نلحظ هذا التحرك إلا في منتصف القرن العشرين في العراق لدى التيار الإسلامي حيث بدء الوعي السياسي يتصاعد لدى الناس بصورة عامة وفي أروقة الحوزة بصورة خاصة واخذ الفقهاء والعلماء في الحوزة يهتمون بالجانب السياسي والاجتماعي للأمة الإسلامية وبسبب هذا الوعي السياسي لدى بعض العلماء ولد لنا انقسام في الحوزة العلمية إلى خطين أو مدرستين الأولى المدرسة التقليدية وهي التي لا تؤمن بالتجديد والعمل السياسي وتنأ بنفسها عن الخوض في الشؤون السياسية أو إقامة سلطة أو دولة إسلامية وتفضل البقاء على السلك القديم والحفاظ على أصوله ومُنطلقاته من قبيل الدرس والتدريس وإدارة المدارس الدينية والإجابات الفقهية , والأخرى ترى وجوب التجديد في مناهج ومنطلقات الحوزة ووجوب العمل السياسي والسعي الجاد في إقامة دولة إسلامية عادلة تحفظ كرامة الفرد المسلم وتحافظ على هويته الإسلامية من الضياع أو الادلجة من قبل التيارات المعادية وتتصدى للدفاع عن الإسلام وتضمن أيضا العيش الكريم للأخر بكل إشكاله وألوانه على أراضيها ضمن الحدود المحفوظة في مناهجها، وهي التي تطلق على نفسها ولاية الفقيهة ومعناها تمثيل دور النائب عن الإمام المهدي عجل الله فرجه.
وظهور هذا التيار الواعي والصاعد في الحوزة العلمية ولد خوف لدى السلطات والاتجاهات المعادية للإسلام مما حدا بهم إلى القيام بعمل تكتيكي وتخطيط إستراتيجي من اجل توجيه ضربة قاصمة من الداخل لتفكيك وزعزعة الثقة ما بين الحوزة والمجتمع فقاموا بزرع قيادات دينية وهمية ومصطنعة تمثل البديل للقيادات الحقيقية لكي يوهموا البسطاء والعوام بها ومدوها بأموال وجاه ونفوذ في السلطة وبكل ما تحتاجه من اجل القيام بعمليات تسيء إلى سمعة الدين وينأ عن فعلها العوام من الناس فضلا عمن يدعي بأنه عالم أو مرجع, أو ان يدعي بعضهم الارتباط بالإمام المهدي أو انه ابنه أو سفيره وغيرها من الأكاذيب والأباطيل مما ولد تشويه للدين وزعزعة وابتعاد لدى بعض الناس عن القيادات الدينية, إلا إنها تبقى في مجال محصور وضيق جدا وتبقى الزعامة الدينية محفوظة.
ومن أهم نتائج هذا الانقسام الايجابي الذي بدأ في عقل الحوزة العلمية عموماً وفي النجف الاشرف خصوصاً ولد لنا ظهور قيادات إصلاحية وعبقرية عظيمة في مدرسة ولاية الفقيه قامت بتغير مسار دول ومجتمعات كاملة واستطاعت ان تبرز هويتها الإسلامية بكل ما تحمله الكلمة من معنى, ومن تلك القيادات السيد الخميني والسيد محمد باقر الصدر الذي يُعد الأخير المنظر الأول للفكر الشيعي وللتوجيه السياسي والتنظيم الحزبي في العراق بعد إن كانت الحركات والأحزاب والتنظيمات التي تعمل في الساحة العراقية هي الحركات القومية والشيوعية فقط.
وأما أصحاب المدرسة التقليدية فأصبحوا في زاوية منعزلة عن المجتمع وتطلعاته للمستقبل وبدأ الذعر يدب في تلك القيادات الدينية والخوف من سحب البساط من تهت أرجلهم والتفاف الجيل الواعي على القيادات الصالحة, وبعد ان شعرت بان البقاء بانعزال عن الوضع السياسي لا يجدي نفعاً لها قامت بحركات خجولة ومتعثرة للتصدي لبعض القضايا السياسية مما أدى بها إلى الخلط ما بين حركة الحوزة الإصلاحية والحركات المشبوهة الأخرى, وبدأ التخبط يظهر جلياً في مواقفها واتجاهاتها أمام المواقف السياسية التي تعصف بالأمة وما يتعلق بالمشهد العراقي اليوم من تحركات سياسية سريعة وخطيرة وتحتاج إلى رؤى ثاقبة وبصيرة معمقة مما تفقده المرجعية التقليدية فتراها تعلن عن موقف معين ولأكنها لا تصرح بذلك بنفسها بل عن طريق وكيل معين أو جهة أخرى خوفا من فشل ذلك الموقف أو التصريح المتخذ وهذه علامة إفلاس واضحة لديها تجعلها بحيرة تامة.
ومما دعاني إلى القول بان المرجعية الدينية تتجه نحو العلمانية هو ما شاهدته من مواقف وأراء لها والتي صرحت بها من إنها لا تريد إقامة دولة إسلامية في العراق وجاء التأكيد أيضا عن طريق احد الوكلاء مؤكدا بان المرجعية لا تريد إقامة دولة إسلامية في العراق وإنها لا تسعى إلى ذلك وأيضا من خلال موقفها اتجاه تشريع قانون الأحوال الشخصية الجعفري ورفضها تشريع ذلك القانون وأيضا من خلال
وقوفها على مسافة واحدة من جميع المرشحين لإدارة السلطة التشريعية أو التنفيذية في العراق مما يولد لدينا موقف واضح وصريح من اتجاه المرجعية الدينية واتحادها مع الموقف العلماني القائل بفصل الدين عن السياسة وان الدين لا دخل له بتنظيم القوانين أو إدارة مصالح البلاد وهذا الاتحاد مما لا يحتاج إلى تكلف وتفسير في وضوحه وبيانه وهذا مؤشر خطير نحو ابتعاد المرجعية التقليدية عن منهج الأنبياء والأئمة والمصلحين عبر التاريخ الذين حاولوا جهد إمكانياتهم وبذلوا نفوسهم من اجل تطبيق حكم الله في الأرض وإقامة العدل بين أبناء المجتمع, وأخيرا نحذر أبناء الخط الإسلامي والحركي الأصيل من مساندة هذا الخط بل يجب عليهم الوقوف بوجهه ومنعه من الاستمرار والاتجاه نحو القيادات الدينية الإصلاحية التي لا يقر لها قرار ولا يغمض لها جفن حتى ترى أبناء مجتمعها ينعمون بالخير والسلام والأمان في دنياهم وأخرتهم.