27 ديسمبر، 2024 1:18 ص

مع القيادي الشيوعي عبد السلام الناصري في مذكراته

مع القيادي الشيوعي عبد السلام الناصري في مذكراته

صدر حديثاً مذكرات القيادي الشيوعي عبد السلام الناصري (1)المولود في البصرة عام 1923 ، والده السيد عبد العزيز مال الله الناصري ، وجاء اللقب “الناصري” من عشيرة البو ناصر (2). كان عبد السلام أصغر إخوته الستة وأخته الواحدة ، وقد ترعرعوا في جو أدبي وإسلامي ، إذ كان والده إماماً في جامع الكوّاز في البصرة التابع لعائلة باش أعيان ، يقول الناصري:

وجميل بالذكر ونحن نعيش اليوم روح الطائفية المقيتة (3) أن جامع الكوّاز كان يمتلىء بالناس من السنة والشيعة وخاصة أيام خطب الجمعة ورمضان والمناسبات الدينية الأخرى (4).

بدأ الناصري بكتابة مذكراته في عام 2013 وهو في الواحدة والتسعين من العُمر ، وقد كتبها بعيداً عن التوثيق معتمداً على ذاكرته بالدرجة الأولى بسبب سنه الكبير (5).

تم ترشيح الناصري الى الحزب الشيوعي على يد زميله ناصر الخرجي ، وتم قبول الترشيح في أوائل مايس 1941 ، يقول:

بدأت مرحلة جديدة في حياتي ، مرحلة النضال السري الطويلة التي دامت 40 عاماً (6).

شنت الحكومات العراقية في العهد الملكي هجوماً شرساً على الحزب الشيوعي العراقي ، كانت نتيجته وقوع سكرتير الحزب يوسف سلمان يوسف “فهد” في قبضة قوات الأمن ، ليتم إعدامه مع زميليه حسين الشبيبي وزكي بسيم في شباط 1949 (7). أُلقي القبض على الناصري عندما كان يتناول العشاء في غرفة بدار سرية:

كانت الساعة التاسعة مساءً حين فوجئنا بضجة كبيرة ووقع أقدام هائلة فوق سطح الدار ، ولم نفلح في الهرب ، إذ ما هي إلا ثوان حتى سمعنا باب السطح تُكسر ، وإذا برجال الأمن يقفون أمامنا شاهرين الأسلحة بوجوهنا وقيّدوا أيادينا بالسلاسل الحديدية وعصّبوا أعيننا وبدأ الضرب المُبرح على أجسامنا (8).

عندما حدث الانقسام داخل الحزب الشيوعي بقيادة بهاء الدين نوري آنذاك (9) انضم الناصري الى “راية الشغيلة” التي يقودها جمال الحيدري ، ويعطي الناصري رأيه بهذا الانشقاق:

لم يكن الانشقاق صحيحاً وكان يجب أن نُعجّل بمعالجة هذا الخطأ بصرف النظر عن صحة معارضة بعض الشعارات اليسارية بزمن قيادة باسم (10).

غادر الناصري سجون العراق الملكي بأمر من الزعيم عبد الكريم قاسم بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 ، وقد مكث الناصري في السجون الملكية اثني عشر عاماً ، عشرة منها في سجن نقرة السلمان الصحراوي الرهيب (11).

وعن حقبة الزعيم عبد الكريم قاسم ، يذهب الناصري الى أن الحزب الشيوعي العراقي قد اندفع كثيراً في الضغط على قاسم لتحقيق شعارات وفعاليات لم يكن قاسم مقتنعاً بها. ليستاء قاسم من هذا النشاط الشيوعي ومن بعض تصرفات “لجان المقاومة الشعبية” (12) التي اندفعت أحياناً أكثر مما يتحمله قاسم ، ليُسمّي قاسم الشيوعيين ب”الفوضويين” بعد أن كان يُسميهم ب”الأصدقاء” (13). ولكن هذا لا يعني أن قاسم لم يرتكب أخطاءً عند الناصري ، فبرأيه أن شعار “عفا الله عما سلف” من أخطاء قاسم المهمة التي شجعت القوى المعادية للثورة على استئناف نشاطها (14).

قام الحزب بتكليف الناصري بمهمة الى الموصل لِلَمّ شمل الحزب فيها بعد انقلاب العقيد عبد الوهاب الشوّاف ، وقد وصله أمر من الحزب بالعودة الى بغداد بعد تنفيذ المهمة (15). سافر الناصري الى موسكو مع عائلة سكرتير الحزب سلام عادل (16) في عام 1961 ، ليدرس فيها: التعاليم الماركسية اللينينية والاقتصاد السياسي الماركسي وتاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي واللغة الروسية (17). وعندما حدث انقلاب 8 شباط 1963 كان الناصري في موسكو (18).

يتحدث الناصري عن اجتماع بُراغ وكيف أنه اعتذر عن قبول منصب السكرتير الأول للحزب بعد أن رشحته الأكثرية الساحقة في هذا الاجتماع الموسّع ، يقول:

اعتذرت عن قبول المركز هذا حتى لا يُقال بأني أسعى وراء المراكز الحزبية ، ورشّحت بدوري الرفيق عزيز محمد (19) لهذا المركز ، وبدوره فإن الرفيق عزيز محمد كان من الداعين الى ترشيحي ، وبالفعل تم انتخابه سكرتيراً أول بناءً على ترشيحي له ، ومن يُنكر هذه الحقيقة انما يُزوّر صفحة من صفحات تاريخ الحزب (20).

أمّا عن خط آب ـ نسبة الى الاجتماع الكامل للجنة المركزية الذي عُقد في آب 1964 والذي تبنّى ما سُمي بطريق التطور اللارأسمالي (21) ـ فهو برأي الناصري لم يكن خطاً انتهازياً ولا يمينياً إلا في نظر الذين ينظرون الى الأمور السياسية بنظرة ذاتية انفعالية ومثالية خارج الواقع الملموس. إذ ينطلق الثوري برأي الناصري من حركة الواقع الملموس وليس التحليق في أجواء مثالية ، وقد خدم خط آب حركة الطبقة العاملة ومصالح حركة التحرر الوطني ، ويؤكّد الناصري على أن هذا الخط قد صدر عن اللجنة المركزية ولم يضعه الناصري ولم يكن مفروضاً من السوفيت (22).

ويرد الناصري على من “كذبة تافهة” أشاعها “الثورجية” ، وهي أنه قد أصدر بياناً داخلياً وُزّع على منظمات الحزب يدعو فيه الى حَلّ الحزب الشيوعي العراقي (23). ويرد على من قال في مذكراته ـ لم يذكر الناصري اسمه ـ بأن الناصري “شبه أُمي” ولا يستطيع تركيب جملة صحيحة ، فيقول:

كيف أكون شُبه أميّ وقيادة الحزب قد اختارتني لرئاسة المجلة النظرية للحزب “مجلة الثقافة الجديدة” لخمس سنوات 1974 الى 1979 (24).

بعد أن تم التقارب بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم بقيام “الجبهة الوطنية والقومية التقدمية” في سبعينيات القرن الماضي ، كان الناصري حاضراً في اجتماع القصر الجمهوري مع السكرتير عزيز محمد وعبد الرزاق الصافي ، ليبقى الناصري وحيداً تحت رحمة صدام حسين بعد انتهاء الجبهة وخروج أعضاء اللجنة المركزية الى الخارج ، ليقع في قبضة قوات الأمن ويتعرض لتعذيب وحشي (25).

كانت حياة الناصري نموذجاً للبروليتاري الحقيقي ، فقد اشتغل في ثمانينيات القرن الماضي عاملاً في معمل للجلود ، ثم بائعاً للبلكات الكهربائية في شارع الرشيد ، ليعيش في النهاية على راتب ابنته الدكتورة ميلاد ، ليرحل عن هذه الدنيا في يوم الاثنين 28 آذار 2016 (26).

أثبت الناصري الماركسي “حيويته الفكرية” ، فانحلال الاتحاد السوفيتي يرجع الى التحجّر الفكري لقياداته بدلاً من السعي لتطوير بعض المفاهيم الماركسية اللينينية ، ف”دكتاتورية البروليتاريا” برأيه مفهوم تخطاه الزمن ، ولو كان ماركس موجوداً لندّد بعقله الواسع بهذا الجمود والتحجّر الفكري (27).

الأمر الآخر المهم والذي نُعظّمه عند الناصري ، هو عدم ندمه على الولوج في طريق النضال الشيوعي. فقد سأله أحد الصحفيين هذا السؤال الذي آلمه واستفزّه ، فلم يُجبه الناصري وقتها ، وأجابه في هذه المذكرات:

أأندم على اعتناقي لنظرية أبو الفقراء كارل ماركس وأنا فقير؟! أأندم على انخراطي الى حزب ماركس الشيوعي في العراق ، هذا الحزب الذي قَدّم قرابين التضحيات من قادته وكوادره؟ (28).

قد يتساءل القارىء الكريم: لماذا هذا الموقف والتعظيم للناصريهنا؟ فنقول:

الموضة عند كثير من الشيوعيين والعلمانيين العراقيين هي “شجبهم” لهذه المرحلة من حياتهم ، فيقومون بجلد ذاتهم والرجوع الى محراب الجماعة في النهاية ، وكأن المسألة بهذه البساطة! شيخ يقوم بنفي الشاب الذي تَمَثّله سابقاً! والسبب معلوم بكل تأكيد “الخوف”. ويحضرني الآن المفكر السوري الكبير جورج طرابيشي ، الذي بدا للقارىء أنه مُهرطقٌ أكثر مما يعني في بعض مقالاته ، فقد أراد طرابيشي أن يُثبت بطلان القانون القائل بأن المرء يرتد لا محالة الى “الصراط المستقيم” طرداً مع تقدمه في العُمر واقتراب لحظة الغيب الكبير (29).

يُعقّب أحد الباحثين على موقف الناصري بما يلي:

موقف الناصري هنا منحاز بامتياز لانتمائه الطبقي ، ينأى فيه عن ترف الحياة ، يُعلن رفضه للإغراءات والهبات ، لأنه عاش عفيفاً رفيع المقام متيقناً من انتصار قضيته مؤمناً أشد الايمان بها. هذا الايمان الذي يكاد يقترب من الايمان الكهنوتي (30).

لا أعرف كيف حكم هذا الباحث المحترم بأن “ايمان” الناصري يقترب من “الايمان الكهنوتي”؟! فما علاقة النظرية الماركسية بالكهنوت؟! وهل يتضمن “ايمان” الناصري ما يتضمنه ايمان الكهنوت؟! وهل انحياز الناصري لانتمائه الطبقي يُعتبر انحيازاً معيباً؟؟

الحواشي:

1ـ عبد السلام الناصري: صدى السنين الحاكي ـ أربعون عاماً في النضال السري والجماهيري “سيرة ذاتية ونضالية” ، دار سطور للنشر والتوزيع بغداد ط1 2025

2ـ المصدر السابق ص18

3ـ إشارة لحقبة ما بعد سقوط صدام حسين

4ـ المصدر السابق ص18 و 19

5ـ المصدر السابق ص159 و 17

6ـ المصدر السابق ص27 و 29

7ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام ان يبقى على قيد الحياة؟ دار ومكتبة البيارق بغداد 2024 ص174

8ـ الناصري: المصدر السابق ص87

9ـ تسلّم بهاء الدين نوري قيادة الحزب في حزيران 1949 ، يقول د. طارق يوسف إسماعيل عنه: شاب كردي عديم الخبرة كان يستخدم اسماً مستعاراً “باسم” ويبلغ من العمر 22 عاماً ، لم يكمل دراسته الثانوية ، لقد صعد الى قمة قيادة الحزب في أقل من أربع سنوات على انضمامه للحزب ، وسرعان ما بدأ عملية إعادة تنظيم وهيكلة على كل المستويات. يُنظر:

طارق يوسف إسماعيل: صعود الحزب الشيوعي وانحداره ،ترجمة: عمار كاظم محمد ، تقديم: حسقيل قوجمان ، اشراف: ماجد علاوي وحسين علي حاجبي ، سطور للنشر والتوزيع بغداد ط1 2020 ص106

10ـ الناصري: المصدر السابق ص93 و 94

11ـ المصدر السابق ص97

12ـ عن المقاومة الشعبية يُنظر:

بشائر محمود مطرود المنصوري: قوات المقاومة الشعبية في العراق 1 آب 1958 ـ 29 تموز 1959 ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية التربية جامعة البصرة 2017 ، اشراف: د. فرات عبد الحسن كاظم الحجاج

13ـ الناصري: المصدر السابق ص100 و 101

14ـ المصدر السابق ص101 وقد ذهبنا في دراسة حديثة صدرت لنا الى فشل الشعار القاسمي “أنا فوق الميول والاتجاهات” ،يُنظر:

معاذ محمد رمضان: الزعيم عبد الكريم قاسم في كتابات السياسيين العراقيين المدنيين والعسكريين ، مراجعة وتقديم: د. معن فيصل القيسي ، دار ومكتبة البيارق بغداد 2024 ص202

15ـ الناصري: المصدر السابق ص104 و 105

16ـ عن حسين أحمد الرضي “سلام عادل” يُنظر:

ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد: سلام عادل سيرة مناضل ، دار المدى دمشق ط1 2001

17ـ الناصري: المصدر السابق ص106 الى 110

18ـ المصدر السابق ص112

19ـ عن عزيز محمد يُنظر: عزيز محمد يتحدث ـ صفحات من تاريخ العراق الحديث ، حوار وتعليق: د. سيف عدنان القيسي ، مكتبة النهضة العربية بيروت بغداد ط1 2019

20ـ الناصري: المصدر السابق ص121

21ـ جاسم الحلوائي: محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ـ قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي”عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي” ، دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر بغداد ص304

22ـ الناصري: المصدر السابق ص122 و 124 و 125

23ـ المصدر السابق ص125

24ـ المصدر السابق ص127 الى 129

25ـ المصدر السابق ص151 الى 154

26ـ المصدر السابق ص155 و 158 و 159 ويروي الباحث المُبَرّز في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي د. سيف عدنان القيسي أنه حاول أن يلتقي بالناصري ولم يُفلح ، فما أن عرفه الناصري حتى دخل الى البيت مسرعاً ، حدث ذلك في الفترة التي سيطر فيها تنظيم القاعدة على بعض مناطق بغداد ، وقد أراد أعضاء من التنظيم قتله ظناً منهم أنه من مدينة الناصرية ، ولكن تركوه بعد أن عرفوا أنه من تكريت. ذكر القيسي هذا في صفحات التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”.

27ـ الناصري: المصدر السابق ص139 و 140

28ـ المصدر السابق ص168 و 169

29ـ جورج طرابيشي: هرطقات 2 عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية ، دار الساقي بيروت ط2 2011 ص8

30ـ جمال العتّابي: عبد السلام الناصري .. الاختيار الصعب المحفوف بأشد المخاطر ، جريدة المدى بتاريخ 21 / 12 / 2024