وجد الشرق الاوسط كمبتدأ واول تبلور مجتمعي خضع لاحقا للمروية “الحضارية”، مرهونا لطبيعته النهرية الثنائية: الاحادية النيلية، والثنائية الرافدينيه، الامر الذي لم يكن على الاطلاق من باب الصدفه، فالعلاقة الزراعية/ الانتاجية بالانهر، وبنوع من الانهار والمناخ، تحضر هنا كعامل مسرع للتبلورية المجتمعية الابتدائية على مدى التشكل المجتمعي اليدوي عبر الاف السنين من التفاعلية البشرية البيئية، الاهم فيها ليس مجرد وضع الاسس والمرتكزات التي عليها تقوم الحياة وتنظيمها، من دون منطويات فعالية كونية متعدية للمرحلية، بل بالاساس ماتنطوي عليه كينونة كظاهرة تبلور ذاهبة في اخر المطاف الى مايتعدى الارضوية الجسدية، الى العقلية، وهو مالاتتوفر اسبابه ومرتكزات تحققه في غير هذا الجزء من المعمورة، بغض النظر عن الادوار التفاعلية الضرورية التي تضطلع بها مجتمعات اخرى غير نهرية .
ونحن نقف هنا بالذات امام مسالة جوهر تتعلق بالادراكية البشرية للظاهرة المجتمعية بصيغتها البيئية البشرية اللاحقة على طور الصيد واللقاط، فما حدث عند التبلورات الاولى الافتتاحية النهرية المشار اليها ليس مجرد ( تجمع + انتاج الغذاء) كما تكرس القصورية العقلية الصادرة عن مجتمعات ادنى كينونة، ومنها الاوربية الحديثة الالية مابعد اليدوية، فالمجتمعات المتبلورة ابتداء،هي بالاحرى( تجمع + انتاج الغذاء ) ضمن اشتراطات التحولية الى مابعدها، واذ تكون الفعالية النهرية مقررة لشكل المجتمعية وكيانيتها النيلية الكيانوية الوطنية المحمية طبيعيا من الغزوالبراني من الجهات الاربعه، والمتوافقه انتاجيا مع العمود الفقري الانتاجي النهري، النيل الموافق للدورة الزراعية، والذي يفيض موافقا للايقاعية الانتاجية، فانها تنتج نمطية هي مجتمعية دولة احادية، المجتمع فيها يتجلى في الدولة والفرعون الاله، والكيانيه “الوطنية” المحصورة دينامياتها في ذاتها، مقابل ارض مابين النهرين المولودة انتاجيا ضمن اشتراطات مجافية كليا على الصعيدين، فلا حمائية طبيعية صحراوية او غيرها، بل على العكس بمواجهة مصب مفتوح لايتوقف للسلالات البشرية باتجاه ارض الخصب من الشرق والشمال والغرب، من الصحارى والجبال الجرداء، مع مجافاة كلية للنهرين المدمرين العاتيين الذين يفيضان عكس الدورة الزراعيه، مايجعل من العملية الانتاجية اصطراعية على حافة الفناء، الطور الاول منها يفضي الى قيام مجتمعية فوق ارضوية، نوع مواجهتها البيئية تحول دون تعرفها على اشكال التمايزيه الارضية المادية والسلطوية، نازعه الى التحقق السماوي كعنصر مساعد على مواجهة الظروف المجافية، تكتمل خواصها وكينونتها بما يجعل من الحرية النمطية مساوية للوجود ابتداء، ليبدا الشكل الثاني من الاصطراعية الافنائية، مع نزول الارضويات الهابطة من الجهات الثلاث وتوجهها لبسط سلطتها وهيمنتها على المجتمعية اللاارضوية، مايؤجج من حينه اصطراعية لاتوقف لها، يتعذر معها تحقق مطمح الارضوية من اعلى، بسبب الطبيعة الراسخه اللاارضوية، ورفضها القاطع لماهو بالاحرى فناء لها تريد الارضوية الادنى منها كينونه فرضه بلا نجاح، ماينتهي لغلبة القانون المقرر للبقاء بوسائل، وعن طريق اجراءت تعزز الثنائية والازدواج، باقامة “دول مدن امبراطورية” على الحواف العليا لموضع اللاارضوية، منفصله عمليا عن المجتمع اسفلها، ومحصنه أعلى تحصين ممكن، الى ان يتولد الانكفاء الى الخلف “امبراطوريا” تعويضا عما هو غير متاح بالعلاقة بالاسفل وقوة حكم الديناميات،الاصطراعية الثنائية المسرعه للاليات المجتمعية لاقصى حد بين الكيانيتين، في كيانيه موحده ليست واحده، السفلى اللاارضوية غير المعلنه، وتلك الاعلى الارضوية بماهي عليه من مواصفات حيازية سلطوية كيانيوية ضمن نمطية مافوق كيانيه / كونيه.
وليس هذا الحال او الواقع البدئي الاستثنائي، على رغم العجز دون ادراكه والاحاطة به، بالظاهرة العرضية او العادية، بقدر ماهي تشكلية اساس من صلب الكينونه المجتمعية وماتنطوي عليه، وما هي موجوده لكي تصله وتبلغ مشارفه لاارضويا، فالمجتمعات منذ ان تتبلور تكون مقدر لها ان تنتقل الى مايتعدى الارضوية ويغادرها، علما بان مثل هذا المآل المستقبلي يظل مطويا وغير ملاحظ، فضلا عن الادراك، بسبب قصورية العقل البشري ازاء الظاهرة المجتمعية، بحكم انه مايزال تحت وطاة وحدود وثبته الاولى مابعد الحيوانيه، عندما حضر العقل الذي كان منطويا خلال ملايين السنين، تحت طائلة الغلبه الجسدية الحيوانيه الكاسحه، ابان الوقوف على قائمتين واستعمال اليدين والنطق، وهي لحظة فاصلة ضمن الانتقال العقلي، ليست مكتمله ولا هي بالنهائية كما يجري تصويرها لنفس السبب الاول، اي اجمالي القصورية العقلية، في وقت يظل العقل في حال من التفاعل ضمن المجتمعية لحين تحقق وثبته الثانيه، والقفزة التي بموجبها يتمكن من اكتشاف الحقيقة المجتمعية الازدواجية، وبالاساس اللاارضوية وماتشير وتدل عليه من انتقالية، من الارضوية الجسدية الحاجاتيه الى العقلية، اي الى زوال المجتمعية بصيغتها الارضية الحالية، وبدء العقلية الانتقالية الى خارج الكوكب الارضي، بما يجعل الظاهرة المجتمعية المعاشة تعريفا، ظاهرة عقلية مؤجلة.
خلال هذا الطور من تاريخ المجتمعية ومساراته وتعرجاته، لاتكون اللاارضوية غائبة، ومع ان الاشتراطات البدئية تكون بصالح الارضوية وغلبتها وهيمنتها النموذجية لعدم توفر اسباب تحقق اللاارضويه، الا ان هذه وعلى رغم صغر المساحة التي تتبلور ضمنها، لاتعدم الوسائل الضرورية للانتشار الكوني، والحضور الاختراقي داخل المجتمعية الارضوية، وهو مايتحقق بالتعبيرية اللاارضوية الحدسية النبوية الابراهيمه، المنطلقة من ارض سومر لتعم غالبية الكرة الارضية بصفتها اختراق للارضوية، يستمر وجودا مجتمعيا داخل المجتمعية الارضية، بصيغته الاولى الموافقه لاشتراطات التغلب الارضوي، الموافق لمامتاح من حدود الادراكية العقلية، الباقية غالبه وقتها، وهو ماتتكفل به الاصطراعية الافنائية الازدواجية اللاكيانيه الرافدينيه في دورتها الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، في الزمن حيث تعذر التحقق المرهون من جهه الى الوسيلة الانتاجية العقلية مافوق اليدوية، مضافا لها الوثبه العقلية الكبرى الثانيه، وهو ماينتظر الانقلاب الالي غير القابل للتحقق في ارض الاصطراع الازدواجي المجتمعي لاسباب بنيوية، من ابرزها كون الاصطراع هنا بين الطرفين ينتهي عادة، ومع بلوغه الذروة الى الانهيار الشامل، وغلبه “الانقطاعية”( مابعد سقوط بابل الى بدء التبلور الثاني العباسي، ومابعد سقوط بغداد الى القرن السادس عشر مع بد الانبعاثية الثالثة الحالية) الامر الذي لن يحصل مع الاصطراعية الطبقية في المجتمعية الارضوية الاعلى دينامية، لانه اصطراع جزئي لاجزاء داخل المجتمعية الواحده، عكس الاول الحاصل بين نوعين مجتمعيين، مايستوجب في الحال الطبقية، وفي الذروة الاصطراعية، ظهور عنصر وعامل ثالث من خارج العملية الاصطراعية، وطرفيها، تنقلب معه الاليات المجتمعية والنوع المجتمعي نفسه، بعدما تتوقف التفاعلية ( البيئة/ الكائن البشري) القائمه من الاساس وبداية تبلور المجتمعات اليدوية، لتحل محلها التفاعلية الثلاثية ( البيئة/ الكائن البشري / الالة ) ونغدو امام مجتمعية اخرى، تبدا من ساعتها بالظهور على انقاض المجتمعية الارضوية اليدوية المعروفه حتى الساعه.
هذا الوضع من التراوح التاريخي للمجتمعية الازدواجية الاصطراعية، حكمها بقانون هو الاخر غير مكشوف عنه النقاب، هو قانون الدورات والانقطاعات، تعززه الاحتداميه الاصطراعية ومايواكبها من ارتفاع وتيرة الاليات المجتمعية، تلك التي تقف وراء نوع ومدى عمق وشمول المنجز الوجودي المسمى “حضاري” الابتدائي في هذه النقطة من الكوكب الارضي، وهنا تكمن واحدة من الخاصيات الهامه غير المتعارف عليها بما خص علاقة المنجز المجتمعي البدئي عمقا وشمولا، باشتراطات الوجود البيئية، وهو ماقد لعبت فيه بنية الازدواج الاحتدامية الاصطراعية دورا محفزا ومؤججا، موقظا لحاسة الادراكيه والاكتشاف الشامل الذي حقق هنا، وفي الارض المحدودة المساحة، كل اوليات الممارسة الحياتية والافق التصوري باعلى ماممكن من الصيغ المتاحة ضمن اشتراطات اليدوية والغلبة الارضوية، بما فيها اعلاها ديناميه ضمن صنفها، تلك الطبقية منها.
ـ يتبع ـ