18 ديسمبر، 2024 9:52 ص

المقامة المتشائمة ( الموت )

المقامة المتشائمة ( الموت )

أن يختطفك الموت اللعين بغتة أو بعد معاناة طويلة فذلك أمر طبيعي , أما غير الطبيعي فهو أن تسكت إلى الأبد , والخوف كل الخوف أن يضاف إلى السكوت النسيان , ليس هناك من أشياء يجب ذكرها , جروحك النازفات انت من تتحملها وحدك , رغم حرارة الحزن وقلة الحيلة , فما عليك الا الصبر ووحشة الطريق , قال أبو العتاهية :

(( لِدوا للموت وابنوا للـخـراب فكلكم يصير إلـى تـبـاب 

لمن نبني ونحن إلـى تـرابٍ نصير كما خلقنا للـتـراب

ألا يا موت لم تقـبـل فـداءً أتيت فما تحيف ولا تحابـي

كأنك قد هجمت على مشيبي كما هجم المشيب على شبابي )) .

كنت قد قرأت النص المسرحي الآتي :

(( غرفة مظلمة , تتركز الإضاءة حول رجل عجوز جالس في كرسي هزاز, ثم تلاحق الموت الذي يدخل مرتديًا عباءة برتقالية , وهو يحمل صاروخاً ومنجلاً ,
العجوز (بصوت متهدج) : آه , أنت مجدداً , ألم تمل من زياراتك المتكررة؟
الموت (يهز كتفيه) : الملل مفهوم بشري خاص بكم , أنا فقط أقوم بعملي .
العجوز: ومتى ستنهي عملك معي؟ لقد مللت فعلاً من زياراتك المرعبة.
الموت (يخرج ساعة رملية من جيبه) : عندما تنتهي حبات الرمل.
العجوز (بسخرية) : وكم مرة قلبت تلك الساعة خلال المائتي عام الماضية من حياتي ؟
الموت (بنبرة حزينة) : قلبتها عدد المرات التي فكرتَ فيها بالانتقام مني , وتساءلتَ عن مصيري بعد أن أنتهي من آخر روح  .
العجوز : فما هو مصيرك فعلاً ؟
الموت (بصوت خافت): أخشى فقدان المعنى , بدونكم , ما يتبقى لي؟
العجوز (ينهض بصعوبة) : إذن , دعنا نلعب لعبة الشطرنج النهائية , الفائز هو من يقرر المصيرين معاً , مصيره الذاتي ومصير الآخر.
الموت (يجلس مقابله): موافق , لكن تذكر, في النهاية , كلانا خاسران في اللعبة الكبرى للوجود )) .

يحكون عن شيخ المرسلين نوح عليه السلام : أنه جاءه ملَك الموت ليتوفاه بعد أكثر من ألف سنة عاشها قبل الطوفان وبعده , فسأله: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا , فقال : كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر, يجب أن لا نبكي على أصدقائنا , إنها رحمة أن نفقدهم بالموت , ولا نفقدهم وهم أحياء , ومن لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِه , تنوعتِ الأسبابُ والداءُ واحدُ , شيئان لا تستطيع التحديق بهما : الشمس والموت الذي لا يأتي متأخرًا أبدًا , يشبه الموت جمل أسود يركع أمام جميع الأبواب ,يجعلنا  نتساوى في القبر وليس في الأبدية , وينتهي الإنسان ويبقى اسمه , والموتُ خيرٌ من رُكوبِ العارِ, وفي موت الذئب حياة للغنم , فإذا ذكرت الموتى فعد نفسك أحدهم , الموت أكبر من جبل وأصغر من شعره.

رافق التفكير في الموت الإنسان عبر تاريخه الطويل , بل هناك من يذهب إلى أن الحضارة الإنسانية نفسها وليدة هذا التفكير, الذي أرق الإنسان منذ طفولته البدائية الأولى , واستمر هذا الأرق مرافقا له في كل مراحل حياته , وقد تجلى هذا الانشغال بالموت بداية في الأساطير الأولى التي وصلتنا من الحقبة الموغلة في القدم , أقصد أساطير البابليين , وتحديدا أسطورة جلجامش , التي تتميز بكثير من العمق والنضج في تناولها لظاهرة الموت والرهاب الذي يسببه التفكير فيها , وقد أجاد مبدعها أو مبدعوها المفترضون في رصد التحولات النفسية والوجودية العميقة التي أصابت بطلها جلجامش حين اختطف الموت صديقه أنكيدو ورفيقه في صراعه ضد الوحوش الضارية وفي الحروب ضد البشر, لقد وجد جلجامش نفسه فجأة وجها لوجه أمام الموت , هذا المصير المأسوي الذي يتربص بكل الكائنات , ولا يمكنها تجنبه مهما اجتهدت في ذلك , بيد أن جلجامش الطموح والقوي والمختلف شاء غير ذلك , وسعى إلى الانفلات من هذا المصير بالعثور على نبتة الحياة , بعد أن أخبرته العرافة بأنه سيعثر عليها في دياجير الأعماق المظلمة , خاض جلجامش مغامرة الحصول عليها رغم الصعاب والأهوال التي لا يتحملها بشر, واستطاع في نهاية المطاف  الحصول عليها , لكنه في طريق العودة من العالم السفلى خاتلته الأفعى وسرقت منه النبتة الأسطورية العجيبة , تحسر جلجامش بسبب ذلك حسرة كبيرة , أثقلت على نفسه وأصابته بالغم , لكنه بالمقابل فهم الدرس جيدا , ومفاده أن الخلود الجسدي مستحيل , وأن الإنسان يمكنه تحقيق هذا الخلود بشكل مختلف , أي الخلود المعنوي , من خلال ترك أثره القوي في هذه الحياة , وهذا ما تحقق له بالفعل , فأصبح جلجامش خالدا في الذاكرة الإنسانية , خاصة من خلال هذه الأسطورة الرائعة.


تقول زكية المرموق : (( الْموْتُ تجْربةٌ وجْدانيةٌ مُرّةٌ تجْعلُ الْمعاناةَ الْمزْمنةَ الّتِي تعيشُ ديْمومةً في أجنْدةِ الشّاعرةِ/ أيِّ شاعرةٍ
موْتاً رمْزياً يتحقّقُ ذاتياً وكأنّهَا تتخلّصُ منْ وجعٍ أدْمنَهَا حتَّى طرحَتْ سؤالاً مصيرياً: كمْ مرّةً أموتُ لكنَّكِ لَا تموتينَ إلَّا شعْراً  , والشّعْرُ منْقذُنَا منْ قساوةِ الْحياةِ وبشاعةِ واقعٍ يُلْقمُنَا الْمرارةَ , إنَّهُ الْمُسكّنُ ضدْ الْألمِ ,فلْتكونِي أنْتِ الْموْتَ لمَا يسبّبُ لكِ الْموْتَ , أيّتُهَا الْفراشةُ الْمزرْكشةُ بِألْوانِ الْحبِّ والشّعْرِ إنَّكِ الْحياةُ ((  .

بيْنَ الْموْتِ والْحياةِ طفْرةٌ هيَ هاويةُ الْقلقِ الْحادِّ الّذِي يجْعلُ الشّعْرَ يفْقدُ نوافذَهُ لِيطلَّ ّعلَى عالمٍ سفْلِيٍّ حيْثُ الْأعْماقُ تحْترقُ بيْنَ الْبياضِ والسّوادِ , رأْبٌ لَايلْتقطُ سوَى أنْفاسِ الْإنْتظارِ الْموغلِ فِي الضّجرِ, لِأنَّهُ لَايعْرفُ كيْفَ يصْعدُ أوْ يهْبطُ , تلْكَ هيَ الْحياةُ واللّاحياةُ لَانعْرفُ كيْفَ نواجهُهَا , أوْ كيْفَ نتجاوزُ حُفرَهَا فنعيشُ داخلَنَا اكْتئاباً , هوَ نفْسُهُ انْتحارُ الْبياضِ والسّوادِ فِي ترْتيلةِ الشّكِّ ضدَّ الْموْتِ , فلْتحلّقِ خارجَ الْألمِ بِكاملِ إرادتِك لحْظةَ ضعْفِك اللاّ إرادِي .