دراسة نقدية: بقلم- د. محمد عبدالله الخولي:
تدور أحداث الرواية في فلك إحدى قرى محافظة الشرقية، وهي: (حجر الزعفران)، هذا الاسم الذي اكتفى منه الروائي محمود عبده سالم بمفردة (حجر) والتي تصدرت عنوان الرواية: “حجر نفيسة بنت عبدالولي” لتنفتح هذه المفردة على التأويل؛ لوقوعها في العنوان بوصفه من المتعاليات النصية، التي من شأنها أن تجعل المتن الروائي – بداية من العنوان – يشتبك بفضاءات وسياقات متعددة ومختلفة، وهذا التعالق يفتح العنوان على التأويل – نظرًا – لوقوعه في فضاء مغاير (حُر) يختلف عن فضاءات المتن السردي الذي تهيمن عليه حدود مكانية وزمانية لا تسمح له بهذا التداخل، إلا وفق مستويات التلقي التي تستدعي منظومة من المؤولات/ القوانين تسمح للنص الروائي بعملية الخروج من الداخلي (المحايث) إلى الخارجي (الحُر).
تحتمل مفردة (حجر) دلالات متعددة تشتبك مع المتن حينًا، ومع الموسوعة الثقافية (الإنسانية) أحيانًا أخرى، إذ تُحيل تلك المفردة إلى المكان/ حجر الزعفران، ليس هذا وحسّب، ولكنها تحمل في ذاتها دلالة الصلابة والقوة – نظرًا – لطبيعة المكان. لكن وجود مفردة (نفيسة) وما يحمله هذا الاسم من دلالات صوفية وتاريخًا تَعَشُّقِيٍّا لآل البيت ومكانتهم الخاصة عند المصريين، تتبدل دلالة مفردة (حجر) وتحتمل معنى مقدسًا في طياتها؛ لاشتباكها التركيبي مع (نفيسة)، وتتزايد هذه القداسة باكتمال التركيب العنواني/ التعريفي لـ (نفيسة) إذ يختتم الروائي العنوان بلفظة (الولي) التي تمنح العنوان في كليته بُعدًا صوفيًا.
إنّ المتن الروائي يشتبك مع الخطاب الصوفي بشكلٍ محايد، حيث لا تتجلى رؤية الكاتب، بشكلٍ واضح نتبيّن من خلاله موقفه من التصوف، فالروائي يتناص مع الخطاب الصوفي مع جملة من الخطابات الأخرى، فالخطاب الصوفي ليس مقصودًا لذاته في الرواية، وربما تناص الكاتب معه بغية الكشف عن نسق مضمر للشخصية القروية المصرية، وهذا يتنافى مع تأويلنا السابق للعنوان. وهذا يفتح العنوان على مساراتٍ أخرى من التأويل، تُخرج العنوان بكليته من دائرة البُعد الصوفي، إذ تتحول (نفيسة بنت عبدالولي) إلى شخصية جوهرية في المتن الحكائي تنتسب – وفق منطوق الحكاية – إلى أحد أولياء الله الصالحين، وهو (عيسى بن عِليمة) الذي استوطن (حجر الزعفران) وبدأ تاريخها منذ استيطانه فيها، فينتقل العنوان بحمولته الدلالية إلى المكان بوصفه مرتكزًا أساسيًا للرواية، وهنا يتوزّع العنوان على المكان تارة والمكين تارة أخرى، ويظل العنوان هكذا متأرجحًا على سُلَّم التأويل، وتظل مفردة (الحجر) تحتمل بُعدًا صوفيًا روحيًا، كما تحتمل بُعدًا مكانيًا متشبّعًا بفضاءاته الجمالية في بُنية السرد الروائية، وهكذا (نفيسة) يتناوشها البُعد الديني/ الصوفي، ويُفترض – كذلك – كونها شخصية جوهرية واصفة للمكان.
في رواية “حجر نفيسة بنت عبدالولي” يهيَّمن المكان على ظلال الرواية بصورة مكثفة وواضحة، ولكنه ليس فاعلًا في الأحداث بل مفعولًا، حيث منح الروائي الفاعلية للزمان، حيث يتعالى الأخير بسلطته على المكان، وتحدث جدلية بين الثابت (المكان) والمتحول (الزمن)، ولكن وقوع المكان في حيز المفعولية، لا يلغي دوره في الرواية بوصفه مسرحًا للأحداث ومستودعًا لشخوصها الفاعلين في بُنية الحكاية، “فالمكان هو الجغرافية الخلاقة في العمل الفني. وإذا كانت الرؤية السابقة له محدَّدة باحتوائه على الأحداث الجارية، فهو الآن جزء من الحدث وخاضع خضوعا كليًا له، فهو وسيلة لا غاية، ولكنها وسيلة فاعلة في الحدث، وسيلة محتوية على تاريخية الحدث.” ولكنه ليس الغاية الوحيدة التي يرجوها الروائي لنمنحه دور البطولة المطلقة، كما نفعل في بعض الروايات التي يتحول المكان فيها إلى سلطة من خلالها تتشكل بُنية الحكاية، ويتمظهر في فضاءات السرد.
يسَّلط الروائي محمود عبده سالم الضوء على مجموعة من الأحداث تتناسل منها حكاية ليست مقصودة لذاتها، حيث يقوم الروائي بسرد بعض الوقائع والأحداث مشَّكلًا نسقًا حكائيًا يحوي مضامين بعينها تتموسق مع مقصودية السارد، وتتجلى من خلال هذه المضامين الحكائية بُنية سردية تنكشف من خلالها الأنساق الثقافية المضمرة في بُنية المجتمع القروي البسيط المنعزل عن العالم، مع وقوعه تحت تأثير المتغيرات العالمية، ولكنه غير منشغل بالعالم من حوله وتقلباته السياسية والاقتصادية، فكل ما يعنيه انشغاله بالحياة وشظف العيش، وتلك المعوقات التي تحول بينه وبين الحياة في أبسط صورها الممكنة.
تتكشف الأنساق الاجتماعية المضمرة في بُنية الرواية، ولعلّ انكشاف هذه الأنساق مقصود من قبل المؤلف، حيث الحكاية لا تمنحنا في كليتها موضوعًا معينًا، غير أنها تكاشفنا بالواقع القروي وتحولاته عبر حقب التاريخ التي توالت على المكان (حجر الزعفران) وحدت به إلى تحول ملحوظ في نمطية الحياة والمعيشة وغيرت شخوصه من حال إلى حال، فليست الوقائع/ الأحداث هي ما يشغل الروائي حيث “وقائع الحياة والحقائق المختلفة المتعددة والظروف الموضوعية حين تتحول جميعها إلى أبعاد اجتماعية ويتصل بها الإنسان وتتصل به ويتأثر بها وتتأثر بعلاقتها به.. تتحول حقائق الحياة لدى الإنسان إلى قضايا يحاورها وتحاوره بحرارة ويعلق بها ويكوّن لنفسه موقفًا منها.. ولعلّ الكاتب الروائي أن يكون أشد الناس اهتمامًا بقضايا الحياة وبقضاياه الخاصة وبامتداد هذه القضايا الخاصة إلى مجال القضايا العامة.” ولكنه لا يكتفي من الحكاية بأحداثها ووقائعها حيث ينفذ من خلال رؤيته للعالم إلى إلى مضامين الحكاية وأبعادها النفسية والاجتماعية” فالروائي.. حتى يكون فنه متوهجًا.. يحتاج إلى بصر جديد ينفذ به إلى أعماق واقعه الاجتماعي وإلى أعماق مادته اللغوية وإلى أعماق نفسه الذاتية.. يحتاج إلى وعي متيقظ كحد السكين يمكنه من النفاذ إلى حركة السّير التاريخية بكل انطلاقها وعوامل دفعها أو شدها أو تعويقها ورؤية مواقعها المتصارعة ومحصلة هذا السّير وتركيب المجتمعات.
إنّ مقصود الرواية هو خلق حالة من التواصل بين الذوات الفاعلة في إنتاج النص تلقيًا وإبداعًا “فالرواية تقرّب بين القاريء والراوي والشخصية وتُحاول التوفيق بينهم وصهرهم في شعور مشترك، مما حمل [بول اندريه لوسور] على تقديم هذا التعريف، وهو أن (الفن الروائي فن اتصال وليس فن معرفة). ونجد أنّ [هنري ميلر] يسّير في نفس الاتجاه عندما يطرح السؤال التالي: ما هي فائدة الكتب إن لم تعدّنا إلى الحياة وإن لم نتواصل من خلالها ؟ وبالفعل استطاع الروائي محمود عبده سالم خلق أفق اتصال بينه وبين القاريء والشخوص الذين تحتشد بهم الرواية، بداية من (نفيسة بنت عبدالولي) والتي تقوم بدور السارد (الصامت) في هذه الرواية، حيث احتل محمود عبده سالم دور الراوي العليم، ولذا لم تكن هناك حوارية فعالة تتنامى معها الدراما الحكائية للنص، حيث احتل الروائي حياكة بُنية النص ودراميته عن طريق آلية الحكي والأحداث التي جرت بين شخوص الرواية، كاشفًا بذلك عن الأنساق المضمرة في بُنية الحكاية، وهذا مقصوده الأسمى من الرواية.
كشفت الرواية عن طبيعة القرية المصرية في حقب زمنية متنوعة، حيث تناوبت عليها فترات تاريخية كثيرة، ولذا تناص محمود عبده سالم مع الخطاب التاريخي، واستدخل التاريخ بحرفية وتمكن بالغين، حيث ارتبطت جميع الأحداث عنده في الرواية بتاريخ معين، وكأنّ التاريخ هو المشَّكل/ الفاعل لهذه الأحداث، فلم يسلط الضوء على حدث بعينه دون الإشارة ؟ إلى حقبته التاريخية التي ينتمي إليها، فالرواية تتناص بشكل كبير وملفت مع التاريخ بوصفه الفاعل/ المحرك لهذه القرية وتحولاتها، فلم يكن دخول التاريخ دخولًا عشوائيًا ولكنه كان مقصودًا لذاته، لتتسع الرواية وتتعدد فضاءاتها، وكأنّ هذا الاستدخال تقنية كتابية اتبعها محمود عبده سالم ليفتح روايته بالكلية على الخطاب التاريخي متماهيًا معه بغية الوصول إلى مقصوديته المنشودة من هذا الاستدخال الذي جعل المكان (حجر الزعفران) واقعًا بكليته تحت سلطة التاريخ إذ “التاريخ بالنسبة للرواية على مستوى التلقي يعني: دفع الظروف التاريخية إلى خلق وضع وجودي جديد لشخوصها، يمكّن من فهم التاريخ في حد ذاته وتحليله بوصفه وضعًا إنسانيًا ذا مدلول وجودي.” وفي هذه الحالة تحدث جدلية تأويلية بين المكان والتاريخ حيت يتأول كلاهما بالآخر، ويقومان بدور المؤول (السيميائي) حيث يتأول المكان بحيثيات التاريخ، ويتأول التاريخ بملابسات المكان” فنحن لا نريد من التاريخ – حال استدخاله في الرواية – الإخبار أو سردية الأحداث في ذاتها، ولكن الذي نبتغيه، المدلولات التاريخية، وتأثير الأحداث باختلاف مستوياتها على البُنية المجتمعية والإنسان على حدٍ سواء. ولذا تتحول الرواية إلى فن تصويري مجسد عبر عوالم اللغة يستند على المكان والزمان باعتبارهما نسيجًا فنيًا على أساسه تتحول الرواية إلى ما يُشبه التصوير/ التجسيد السينمائي” فالرواية كالسينما، تُعيّد خلق المكان من خلال فعل الصورة المجسدة بالكلمات، وهي كالمسرح تحاول تنظيم المسافة تنظيمًا جماليًا (…) الرواية فن مكاني وفن زماني، وكلا الفنين معبأين بالكلمة. ولذا من الضروري أن تحتوي كل كلمة في الرواية هذه الجدلية الفاعلة (…) فالرواية فن الجغرافية الخلاقة. فن الكلمة الصورة. فن الزمن المتخثر في تلك البقاع المختارة بقصدية.
1 – تداخل الخطابات وتشكل النسق الروائي:
تتخذ رواية “حجر نفيسة بنت عبدالولي” طابعًا خاصًا من حيث تداخل الخطابات المتعددة على نسق البُنية السردية للرواية، فقد ارتكزت الرواية على الخطاب الصوفي والخطاب التاريخي والتيار السلفي بأبعاده وإيديولوجيته في الدعوة كما استدخلت الخطاب الكولونيالي بمستوياته المتعددة التي تتماس بشكل واضح مع مضمون الرواية ذاته. فقد هيمن منذ البداية الخطاب الصوفي على الرواية لكشف طبيعة الشخصية القروية وميولها الفطري للتصوف – الذي وفق تصورهم – تجد فيه الشخصية القروية براحًا ومتسعًا لما تُلاقيه من تعنَّت وظلم وقهر في مسّيرتها الحياتية، وقد استسلمت القرية المصرية للتصوف (الصوري) – الذي يبتعد عن جوهر التصوف الحقيقي – وممارسة طقوسه المتوارثة والمتلائمة مع طبيعة القرية المصرية، ويكشف هذا التماس بين الرواية والتصوف عن اعتقاد القروي في الكرامات وإيمانه المطلق بها، حتى تحول التصوف إلى سلطة حاكمة تشكل هذه الشخصية، فقد وجد الأخير في التصوف خروجًا وهروبًا من الضغوطات الممارسة عليه من قبل السادة والإقطاعيين والمحتل الذي امتهن هذه الشخصية واستنزف خيرها، واستحوذ على أرضها، وبشكل غير متعمد لجأت الشخصية القروية إلى جنوحها (المبرر) سيكولوجيا إلى الحضرات الصوفية والاعتقاد الجازم بمكانة الولي الصالح وما يجري على يديه من خوارق العادات.
احتل الخطاب الصوفي مساحة كبيرة من حيز الرواية متشظيًا فيها من بدايتها حتى نهايتها، مهيمنًا بصورة مباشرة وغير مباشرة على أهل القرية، ولم يفت الروائي محمود عبده سالم إن يفصّل بإطناب هذه الممارسات، ويضع مجهره على طقوس المتصوفة ومعتقداتهم المهيمنة على الذوات الفاعلين في الرواية، فها هي “نفيسة بنت عبدالولي” تقول: “إن أباها كان من أهل الخطوة والكرامات.. قد يؤم الناس ظهرًا في الجامع الكبير بالقرية، ويُصلي عصر اليوم نفسه بالمسجد الأحمدي بطنطا.. وربما رؤي عشاء في مسجد سيدي العارف بالله في سوهاج.” كما هيمنت فكرة (المنامات) على أهل القرية، واعتبروا هذه المنامات إشارات سماوية يهتدون بها في حياتهم ويؤمنون بها دون تردد أو ريبة، حتى وصل الأمر إلى تلقي العلاجات والأدوية في الرؤى (المنامات)، بل تتم الزيجات بأوامر عُليا يتلقاها الشيخ يوسف العزازي شيخ إحدى العزب التابعة لقرية “شبرا النخلة” حيث “في ليلة من الليالي زاره الشيخ عيسى بن عليمة في منامه، يخبره أن ابنه عبدالولي سيقصده ليشتري منه “جحشته البيضاء” وأمره أن ييسَّر له البيعة.. وبعد أيام قصد عبدالولي الشيخ العزازي خاطبًا إليه فاطمة ابنته، وكانوا ينادونها “أم يوسف” ففهم الشيخ العزازي الرؤيا وعمل بأمر الشيخ عيسى فتمت الزيجة بيسر وبسرعة.”
وبصورة فنية رائقة يجعلك الروائي في حالة من التردد في الحكم عليه، هل هو مؤمن بهذه الطقوس الصوفية ؟ أم معترض عليها ؟ أم يرجع هذه الخوارق لعالم الجن والشياطين ؟ فقد ورد ذكر كتاب “شمس المعارف الكبرى” في الرواية مع كتاب “إحياء علوم الدين” لـ”الإمام الغزالي” وشتان بينهما، فالروائي يعرض لك الأمر تاركًا لك مساحة بيضاء لتكتب نصك ومعتقدك بفعل القراءة بنفسك عند اشتباكك مع الرواية.
لم تستطع الطقوس الصوفية أن تهيمن على الناس ردحًا طويلًا من الزمن، بعد أن تقاطع معها الخطاب السلفي، الذي بدأ ينتشر في القرية على يد (محمد عبدالراضي السباعي) بعد أن أطلق لحيته وقصر ثوبه، واستطاع بأسلوبه – الذي كاد “محمود عبده سالم” أن يصفه بالخبيث – أن يصل إلى بيوت كثيرة في القرية، وظهر النقاب في بداية الأمر على استحياء، ثم انتشر ولكن على مساحة ضيقة في القرية.
محمد عبدالراضي السباعي (السلفي) بدا متناقضًا بين ما يفعل وما يقول، فمع أسلوبه الدعوي الذي استحوذ به على عقول الناس، واهتمامه بجمع التبرعات والصدقات للإنفاق على اليتامي والمساكين، كان عاقًّا لوالديه، بل يدفع أخاه الأصغر أن يحذو حذوه في عقوق والديه، ومن هنا، يكشف “محمود عبده سالم” عن التناقضات التي تحتشد في الخطاب السلفي، وهو بهذا يهشم بُنية الخطاب السلفي بتسليط الضوء على نموذج دعوي من نماذجه، ولكن وجود هذا التيار جعل الناس ينسلخون من معتقدهم الصوفي شيئًا ما، فاتجهوا للرقية الشرعية، وأهملوا مسجد الشيخ “عيسى بن عليمة” وصليت صلاة العيدين في الخلاء بوصف هذا الأمر سنَّة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فتقاطع التيارين: الصوفي والسلفي غيرا من طبيعة الممارسات الدينية التي كان يحتفي بها أهل القرية، وإن كانت هذه الطقوس ارتدت مرة أخرى، وأقيم مولد الشيخ بعد توقفه لفترة، وظلت الشخصية القروية تختبر نفسها على ميزان العقيدة مترددة بين القبول والرفض، ولكن أستطيع الجزم بأنّ الروائي “محمود عبده سالم” يُحارب فكرة الكهنوت الديني بشتى تياراته وطرائقه.
وكما تقاطع التيار السلفي مع الخطاب الديني، تقاطعت خطابات أخرى: سياسية/ اقتصادية/ كولونيالية/ وأعادت تشكيل المكان (حجر الزعفران) حتى تغيرت ملامح المكان، وبهذا التغيير الحتمي تغيّر الشخوص وتبدلت مساراتهم وحيواتهم في الرواية، ومن هذه التقاطعات استطاع الروائي أن يستقريء المكان بالمؤول التاريخي، كما استجلى الدلالات التاريخية من تغيرات المكان باعتبارها مؤولات سيميائية، تسمح بمرور الممثل/ الرواية إلى موضوعها الدينامي.
2 – الممارسات الاجتماعية وانكشاف الأنساق المضمرة:
ربما يُعاب على “محمود عبده سالم” – من قبل ناقدٍ آخر – إطنابه في ذكر التفاصيل للممارسات الاجتماعية لأهل القرية، ولكن، ومن وجهة نظري الخاصة، أنّ ذكر هذه التفاصيل بهذا الإسهاب الممتع، كان مقصودًا من قبل المؤلف، لأنّ هذه الممارسات في عموميتها كاشفة عن الأنساق المضمرة في الطبيعة القروية، فكان من الضروري أن يوسِّع الروائي في شرح هذه الممارسات، ويفصل في ذكرها من أجل انكشاف المضمرات الثقافية، إذ انكشافها أمام المتلقي يصنع أفقًا تواصليًا يمنح القاريء متعة التلقي، فيسّتغرق الأخير في هذه المشهدية المصورة بعناية، فيشتبك مع الشخصيات ويتواصل معها حتى تنجلي جوانبها النفسية والاجتماعية على حدٍ سواء.
ومن هذه الممارسات (الطقوس) التي توقف عندها الروائي محمود عبده سالم، طقوس الزواج في القرية، وما يصحبها من ممارسات، فيقول: “وغالبًا ما يكون الزفاف قبيل المغرب.. تحمل العروس في الشبرية (الهودج) على ظهر جمل، حتى تصل دار زوجها فينيخون الجمل، ويحملها العريس إلى داخل الدار، وسط الزغاريد.. وبعد قليل تخرج أم العروس وحماتها بـ”منديل العِرض” وهي قماشة بيضاء تحمل دم بكارة العروس التي افتضها العريس بأصابعه، بمعاونة أم العروس أو إحدى قريباتها، وتطوف النسوة بالمنديل في شوارع القرية، وهن يرددن أغنيات تشهد للعروسة بالعفة والطهارة ورفع رؤوس أهلها (…) وكما هو الحال في أغلبي قرى مصر، اتسمت أغاني الأفراح في الحجر بالإباحيّة في ألفاظها:
ياللي ع الترعة حود على المالح
خدي بيوجعني
من أيه ؟
من بوس امبارح..
شعري بيوجعني
من أيه ؟
من شد امبارح..
ياللي ع الترعة حود على المالح..
وعلى لسان العروس يفضحون الحماة التي تتظاهر بالتقوى والإيمان وهي “شيخة منسّر”:
أمك عاملة مصلية وهي شيخة الحرامية
حاطة الحمام في النملية ما حد كله إلا هيّا
أمك عامله مصلية وهي شيخة الحرامية
حاطة الريحة ع التسريحه ما حد خدها إلا هيّا.”
الحياة الريفية تأسست على المباهاة والتفاخر، وهذا دأب الحياة في الريف المصري القديم، وكل يباهي بما عنده، وفي خضم هذه الحياة الصعبة والفقر والعوز والحاجة، فالرجل لا يمتلك شيئًا يباهي به سوى (فحولته)، والمرأة لا تملك شيئًا سوى (العِرض) فهما لا يمتلكان شيئًا غيرهما، وبما أنّ الحياة قائمة على قاعدة المباهاة، فكلاهما يباهي بما عنده. تلك الإباحيّة المتشظية في أغاني القرويين ما هي إلا دلالات قاطعة على المكبوتات النفسية والحرمان الذي يعانيه القروي قديمًا، ومع اكتمال الفحولة عند هؤلاء مع طغيان الحرمان الذي ظل حائلًا بينهم وبين تحقيق حلم الزواج، تخرج هذه المكبوتات في شكل إيحاءات شبه جنسية وأهازيج تنم عن الفرحة المشبوبة بشيء من الفحولة الذكورية التي تريد فرض هيمنتها على الطبيعة الأنثوية التي تعودت القهر بوصفها في المرتبة التحتيّة للرجل بوصفه حامي عرضها والقائم على شؤونها، وباستدعاء (منام) الشيخ العزازي وقد تجسدت الأنثى في الحلم جحشة بيضاء، وهذا يدل على المرتبة التحتية لها في المجتمع القروي. ولم تكن الأغاني (إباحيّة) إلا بخروجها على النسق القروي المحافظ، ففي هذه الآونة كانت تضج القاهرة بأغانٍ أكثر إباحيّة من أغاني القريّة المصرية، ولكن خروج الأخيرة عن النسق المحافظ للقرية هو ما جعلها تصنّف هذا التصنيف. ويتجلّى لنا من خلال ما سبق أن التفصيل في العرض مقصود للكشف عن الأنساق المضمرة في الطبيعة القروية.
3 – تشظي النسق التاريخي وتمدده على جسد السرد:
ظلّ الخطاب التاريخي مهيمنًا بصورة واضحة على جسد السردية الروائية عن طريق (التمطيط) حتى تمكّن من التمدد والتوغل والتمفصل في البناء السردي للرواية، ومن خلال التناصات التاريخية استعرض الروائي محمود عبده سالم حقبًا تاريخية تتماس مع الشخصية المصرية القروية، وبشكل شبه متسلسل أحيانًا، استطاع الروائي أن يبني نسقًا تاريخيًا يشكل بُنية زمنية تتموسق في طبيعتها مع نسقية المكان وتحولاته، وكأنّ محمود عبده سالم كان يخلق المكان (حجر الزعفران) خلقًا جديدًا مع كل حقبة تاريخية تتداخل بشكل أو بآخر مع المكان، ومن هذه الأحداث التاريخية التي ذكرها الروائي: [حفر قناة السويس/ انسحاب العدوان الثلاثي/ 1919/ 1952/ الضباط الأحرار/الحرب العالمية الأولى/ الحرب العالمية الثانية/ عصر الإقطاع/ عصر الإصلاح الاجتماعي/ حرب فلسطين/ حرب اليمن/ استقلال الهند عن بريطانيا/ الحملة الفرنسية/ جلاء الإنجليز عن مصر/ وباء الكوليرا] كل هذه الأحداث وغيرها اندغمت مع بُنية الرواية حتى تمكنت من مفاصلها، حيث أصبح كل حدث من هذه الأحداث التاريخية عامل تغيير للمكان وقاطنيه، فلم يكن استدخال هذه الأحداث إلا وفق رؤية تمتح من معين القصدية الباطنية للروائي محمود عبده سالم.
ولم يغفل الروائي في خضم هذه الأحداث أن يتناسى القضية الفلسطينية وخطابها القومي، فاستدخل في روايته شخوصا فلسطينيين – عن طريق النسب والمصاهرة – في بنية الحكاية، ومنهم: “سعاد الابنة الكبرى لــ (أم الفرح) والتي عادت بأربع بنات جميلات وصبي أسمر ممتلئ اسمه خالد كان الحجايرة وأهالي القرى المجاورة يضحكون من لهجته الفلسطينية، ولأنه كثيرا ما كان يردد تلك الجملة: “خيرك يا زلمة؟” أطلقوا عليه اسم “زلمة” وصار علما عليه وعلى أبنائه من بعده (…) أما عبدالباري ذلك الشاب الوسيم النحيف القصير القامة، فقد جاء مع أمه وأخيه وأخته من قرية (حِتيا) المجاروة لقرية (كرتيا) كان في البداية منطويا منعزلا، يأمل في العودة سريعا إلى موطنه في قطاع غزة، مثل مئات من اللاجئين الفلسطينيين، لكن أمه، التي ظلت تحتفظ في صدرها بمفتاح دارها في القطاع، كانت ترى بغريزتها أنّ الوضع سيطول، وأنّ اليهود جاءوا فلسطين ليبقوا فيها.” وبشيء من الحرفية انكشفت طبيعة العلاقات المصرية الفلسطينية والتداخل الحتمي والإنساني بينهما، والذي يصل إلى حد التماهي أحيانا، وأنّ القضية الفلسطينية مترسخة في أعماق الشخصية المصرية، بداية من الفلاح حتى المثقف النوعي، وهذا التداخل مع الخطاب الكولونيالي يحسد عليه الروائي محمود عبده سالم، حيث استدخله في البنية السردية بحرفية متعالية، وكأنه جزء من قماشة النسق الحكائي للرواية.
4 – جدل المتن والهامش في البُنية السردية للرواية:
المتأمل في البُنية السردية لرواية “حجر نفيسة بنت عبدالولي” يجدها متشكّلة من هامش ومتن، فالهامش يبتديء به محمود سالم كلّ فصل من فصول الرواية، فالفصل الأول، يبتدره بـ:
“عيني عليك يا حمام يا طالع الميدان..
بوشتلك يا حمام الشهد في الفنجان
علشان تلوف ياحمام
عجلت بالطيران..
عيني عليك يا حمام يا طالع القلعة..
بوشتلك ياحمام الشهد في الزلعة
علشان تلوف يا حمام
عجلت بالطلعة…”
(من أغاني نفيسة بنت عبدالولي)
كلّ فصول الرواية يتصدرها هامش مرويٌّ عن (نفيسة بنت عبدالولي)، وبعد الهامش يبتدر الروائي متنه، ومن المتلاحظ لدينا، أنّ هذه الهوامش وكأنها مُعمَّدةٌ بماء واحد، كما يتلاحظ أنها في حالة ثبوت وسكون، نسقها واحد لا يتغير، ومعظمها مرويٌّ عن (نفيسة بنت عبدالولي)، أما المتن فمتغير دينامي لا سكون فيه، فهو مسرح الأحداث، وكأنّ هناك جدلية بين المتن والهامش، فالأخير يحمل طبيعة المكان/ الحضارة/ سمات الشخصية القروية/ الأصل/ العادات/ التقاليد الثابتة والتي تريد لها (نفيسة بنت عبدالولي) ألا تتغير، وكأنّ (نفيسة) تمثل جوهر الشخصية المصرية التي تتأبّى على التغيير. أما المتن فيتحرك بشكل ديناميٍّ متغير غير ثابت ومستقر، وعن طريق معمارية البناء السردي استطاع الروائي أن يبني هذه الجدلية بين المتن والهامش، ولعل نهاية الرواية أكبر دليل على تأويلنا هذا، حيث اختتم الروائي روايته بنفس المقطع السابق، وكأنّ الهامش المروي معظمه عن نفيسة بنت عبدالولي ظلّ ثابتا في وجه هذه القوى التي حاولت تهشيم مركزيته، ولكنها لم تستطع أن تغير شيئا في بنية هذا الهامش، وربما نستطيع تأويل الشخصية المركزية في الرواية (نفيسة بنت عبدالولي) بجوهر الشخصية المصرية الذي يرفض التماهي مع المتغيرات الداخلة عليه، ويظل جوهر الشخصية معتصما بأسرار هويته الوجودية التي تمنحه خصوصية في هذا العالم، وبهذا المشهد البديع يختتم الروائي روايته، فيقول:
“بعد وفاة عبدالحفيظ، ظلت نفيسة تستحم بدخان الكافور كل ليلة قبيل أن تنام.. تشعل (وابور الجاز) الصغير وتضع قوالح الذرة على لهبه، وتتركها حتى تحمر، في تلك الدقائق تكون قد لبست جلبابا على اللحم خصصته لهذا الأمر، تنقل القوالح المتوهجة على لوح من الصاج، وتضعه على الأرض.. تضع الكافور فوق الجمرات، وتقف فوق الصاج وتفتح رجليها تستقبل الدخان بكل جسدها حتى يصل وجهها.. لم يكن أحد يدري سر تلك العادة التي كانت تواظب عليها، ولم يجرؤ أحد من أبنائها ولا أحفادها ولا أبناء أحفادها على سؤالها عن السر..
“عيني عليك يا حمام يا طالع الميدان..
بوشتلك يا حمام الشهد في الفنجان
علشان تلوف ياحمام
عجلت بالطيران..
عيني عليك يا حمام يا طالع القلعة..
بوشتلك يحمام الشهد في الزلعة
علشان تلوف يا حمام
عجلت بالطلعة…”
(من أغاني نفيسة بنت عبدالولي)
المصادر والمراجع:
– رولان بورنوف وريال اوئليه، عالم الرواية، ت: نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية، ط 1، بغداد، 1991.
– عبدالرحمن ياغي، البحث عن إيقاع جديد في الرواية العربية، دار الفارابي، ط 1، بيروت، 1999.
– محمد القاضي، الرواية والتاريخ، دار المعرفة للنشر، ط 1، تونس، 2008.
– محمود عبده سالم، حجر نفيسة بنت عبدالولي، دار الدليل الثقافي، ط 1، القاهرة، 2023.
– ياسين النصير، الرواية والمكان، دار الشؤون الثقافية، د. ط، بغداد، د. ت.