خاص: بقلم- محمد البسفي:
فجأة تواترت – وما زالت – الأحداث بالمشهد السوري بسرعة تفوق سرعة الفهم والاستيعاب.. لتُربك الجميع حتى صُناع القرار بالبيت الأبيض الأميركي – على حد زعمهم وتضليلاتهم -؛ فبدون أي سابق إنذار يحمله شريط الأخبار السيارة للرأي العام العالمي، والعربي منه بخاصة، يمَّهد أو حتى يلَّمح بحدوث خطبًا ما بمنطقة الشرق الأوسط خاصة وهي ما زالت تستوعب بنود اتفاق الهدنة أو وقف اطلاق النار المؤقت بين (حزب الله) اللبناني والاحتلال الإسرائيلي برعاية وإشراف أميركي/ فرنسي؛ وتسّترد أنفاسها المتقطعة وراء متابعة حرب المقاومة الفلسطينية واللبنانية بغزة ولبنان مع العدو الصهيوني الذي ما بات يستكمل حربه لإبادة الفلسطينيين بقطاع غزة والضفة الغربية.. وفجأة يتم استدعاء ملف “سورية” الذي تم طيّه منذ نحو عِقدٍ من الزمان بانتصار إرادة محور “روسيا-إيران” ضمن صراعه مع إمبريالية محور “أميركا-إسرائيل-تركيا-بعض بلدان الخليج”، بالبقاء على النظام السوري في مواجهة موجة (ناتو) عاتية لم يبخل فيها بأي حيلة أو وسيلة..
على أية حال تم استدعاء ذلك الملف “المؤجل” منذ أكثر من (10) سنوات كاملة وينتهي – حتى الآن – في غضون يام قلائل بسقوط العاصمة السورية دمشق بأيدي فصائل المعارضة المسلحة بزعامة تنظيم (هيئة تنظيم الشام) وفِرار رأس النظام بشار الأسد من الأراض السورية؛ وبالتالي انتصار المحور الأميركي وتوابعه في تلك الجولة من صراعه الكوني للهيمنة..
ولكن.. بعيدًا عن شخص “بشار الأسد” – الطبيب غير المؤهل سواء شخصيًا أو فكريًا لقيادة بلد بحجم “سورية” – لا يتجرأ عاقل على الآسف على ما آل إليه؛ وكذا بعيدًا عن نظام “بعثي” مهتريء ومفَّلس منذ عقود طويلة احترف المتاجرة بالشعارات الرنانة ويفتقر لأية مباديء تقدمية أو وطنية.. صار يوم الأحد الموافق 08 كانون أول/ديسمبر 2024، يومًا تاريخيًا في تاريخ الشعب السوري طوى فيه صفحة “حزب البعث” و”عائلة الأسد” في لحظة واحدة، ويبقى القلق والترقب على مستقبل الأراضي السورية كوطن يجمع تلوينات عرقية ودينية متعددة، تدفعهما “ريبة” تدفق الأحداث الأخيرة بكل هذه السرعة الصاروخية..
السقوط السريع.. تساؤلات معلقة !
قال الدكتور “محمد دوير”؛ متأملًا المشهد السوري الحالي: “بعيدًا عن تكلس حزب البعث السوري وطريقته في حكم سورية، فهذا أمر قراءة مستقلة، إلا أن مشهد السقوط يحتاج تأمل”.
مفنَّدًا أحداثه الجارية خلال أقل من أسبوعٍ واحد:
01 – سقوط حلب بلا مقاومة، ثم التحرك من حلب إلى دمشق في بضعة أيام قليلة، ودخول دمشق نفسها بدون قتال حقيقي يضع علامات استفهام أمام رغبة القوة العسكرية السورية على المقاومة.
02 – انسحاب روسيا التدريجي من مواقعها داخل سورية بشكلٍ تدريجي..
03 – إصدار (حزب الله) بيان بأنه ليس لديه قوات دخال سورية..
04 – سحب إيران لبعض عناصرها بشكلٍ سريع دون كلمة واحدة..
05 – ضرب الكيان لبضع مواقع يقول إنها مخازن للسلاح..
06 – إجراء حوار مع الجولاني في الـ (CNN) للسماح له بأن يُعبر عن وجهه الليبرالي للعالم، رُغم أنه على قوائم الشخصيات الإرهابية ومدرج على قوائم التوقيف..
07 – تخلي الدول العربية؛ وخاصة دول الطوق لسورية عن النظام..
08 – انشقاق (2000) جندي سوري عن النظام والهروب بمعداتهم إلى العراق..
كل هذا يطرح تساؤلات كثيرة جدًا.. ولكن السؤال الأهم.. لماذا سقط النظام بكل هذه السهولة.. ولماذا لم يخرج الشعب السوري للدفاع عن دولته ؟”.
تساؤلات وعلامات تعجب كثيرة ازدحم بها المشهد السوري الأخير؛ ربما محاولة الإجابة عليها من خلال متابعة دقائق الأحداث التي سبقت سقوط دمشق والمصاحبة له وما تبعته، تكشف لنا أكثر من الإجابات وتشَّف بعضًا من ملامح مستقبل سورية والمنطقة بالكامل..
ما قبل سقوط/ تسليم “دمشق”..
قبل سقوط العاصمة السورية بأيدي جماعات المعارضة المسلحة بساعاتٍ قليلة؛ وليلة السبت الماضي الموافق السابع من كانون أول/ديسمبر 2024، أبرزت الآلة الدعائية الأميركية/ الغربية وتوابعها من وسائل إعلام عربية؛ تصريحات للرئيس الأميركي المنتخب “دونالد ترمب”؛ يحثَّ فيها الولايات المتحدة على عدم التدخل في الأحداث المتسَّارعة التي تشهدها سورية، وسط تقدم فصائل المعارضة نحو العاصمة؛ دمشق.
وقال في تصريحات صحافية، إن: “سورية في حالة فوضى؛ وهي ليست صديقة للولايات المتحدة، والمعركة ليست معركة أميركا”، ناصحًا إدارة بايدن الحالية: بـ”تركها وعدم التدخل”.
ورأى الرئيس الأميركي المنتخب، أن: “روسيا غير قادرة على إيقاف تقدم المعارضة في سورية؛ بسبب انشغالها في أوكرانيا”، مردفًا: “يبدو أن المعارضة السورية تتحرك بشكلٍ كبير للإطاحة بالأسد”.
وتفسّيرًا لسر تقدم فصائل المعارضة السورية المسلحة وتساقط المدن الرئيسة أمامها في حركات دومينو ملَّفتة؛ يُقدم الكاتب الإيراني “صابر گل عنبري”؛ عبر تحليله المنشور على قناة (الكاتب) بتطبيق (تلغرام)، مجموعة أسباب داخلية رأى أنها تمَّثل أهمية كبرى؛ وتحديدًا انسحاب الجيش السوري، والانهيار السريع، وحركة دومينو الخطوط الدفاعية من ريف “حلب” حتى “حماة” في الأيام الأولى للهجوم، الأمر الذي أثار دهشة المهاجمين. محددًا سببين رئيسين؛ الأول: شراء وتعاون بعض ضباط الجيش مع المعارضة، والثاني: انعدام حافز باقي الجنود الذين فضلوا الفرار على البقاء.
وهذان العاملان نابعان عن سببٍ آخر بالغ الأهمية وهو الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمناطق التي تحت سيطرة النظام السوري. وحين يكون متوسط الرواتب الشهرية للقوات والموظفين السوريين حوالي: (20) دولارًا فقط، وهو مبلغ لا يكفي حتى تلبية احتياجاتهم من السجائر، ولا يُغطي مصاريف يومٍ واحد لهم ولعائلاتهم، يكون الانسحاب والتراجع طبيعيًا، فلم يبقى لهم حافز للقتال أو إيديولوجية بعثية كما في السابق مع انعدام الأموال في ظل فساد حكومي ممنهج. صحيح أن الرئيس السوري رفع الرواتب العسكرية بنحو: (07) دولارات، لكن هذا ليس مبلغًا.
موضحًا المحلل الإيراني أنه؛ في المقابل تمتلك الأطراف المضادة حوافز أكبر لأسبابٍ عدة. ولطالما كان العامل الاقتصادي مهمًا في تحفيز الفصائل المسلحة. والوضع الاقتصادي بشكلٍ عام في الشمال السوري والمناطق الكُردية ذات الحكم الذاتي، أفضل من المناطق تحت سيطرة النظام السوري.
ذلك أن اقتصاد المناطق تحت سيطرة المعارضة يتبع نوعًا ما الاقتصاد التركي؛ حيث تُسيّطر الليرة التركية، وتتكفل الحكومة التركية في الغالب بتوفير الأجور. ومع أن الوضع الاقتصادي في هذه المناطق ليس جيدًا كفاية نتيجة تراجع قيمة الليرة التركية باستمرار، لكنها أفضل بكثير من “دمشق” وغيرها من المناطق الأخرى تحت سيطرة النظام. على سبيل المثال يبلغ متوسط أجر العمال في المناطق تحت سيطرة المعارضة نحو مئة دولار أي خمسة أضعاف راتب الضابط بالجيش السوري.
كاشفًا “صابر گل عنبري” دور “تركيا” الاقتصادي داخل المناطق السورية الخاضعة لنفوذها؛ فقد ضخت تركيا وشركاتها، على مدار السنوات الماضية، استثمارات ضخمة في البُنية التحتية بالشمال السوري؛ لا سيّما المناطق تحت سيطرة (الجيش السوري الوطني) أو (الجيش السوري الحر) سابقًا، مثل قطاع الكهرباء، لذلك ينعم الشمال السوري بالكهرباء، بينما تفتقر المناطق تحت سيطرة النظام إلى الكهرباء وتعيش في الظلام.
وكانت بعض المدن مثل “حلب”؛ قبل سقوطها، تحظى بساعتين كهرباء فقط في اليوم، والآن تركيا تعتزم توفير الكهرباء لتلك المدينة الاستراتيجية.
ويخلص المحلل الإيراني مقالته إلى التأكيد على أن “الاقتصاد” كان؛ إلى جانب عوامل أخرى ساهمت في استمرار الأزمة السورية، دورًا رئيسًا في تقدم المعارضة مؤخرًا، ومن المستَّبعد (إذا كانت عناصر الجيش السوري تحصل شهريًا على مبلغ: (10-20) دولار لا تكفيه وأسرته)، أن تُحارب وتتقدم، وحتى لو حدث فسوف تنسحب بعد حين.
وعليه؛ لعب الاقتصاد دورًا محددًا في ملفات رئيسة أمنية وعسكرية، حيث الأزمة السورية مستمرة.
والسياسة الخارجية التركية القائمة على الاقتصاد في هكذا أزمة أمنية؛ لها ارتباط اقتصادي كبير، ومن ثم يرتبط اقتصاد الشمال السوري تمامًا بالاقتصاد التركي، بحيث لو أردنا لا يمكن فك هذا الارتباط، وبالتالي تحول الجيوسياسية في شمال “سورية” (المناطق تحت سيطرة المعارضة) لصالح “تركيا”.
أيضًا عن مشكلات الجيش السوري ليلة سقط “دمشق”، يرى “عبدالرضا فرجي راد”؛ المحلل السياسي والسفير الإيراني الأسبق في النرويج، أن من: “مشكلات الجيش السوري؛ الذي يبدو مشغولًا بالانسحاب والتراجع، انعدام التجهيزات المتطورة، وعدم وجود مصلحة من الحرب، كما يفتقرون إلى القوة على المواجهة مع المتمردين الذين يقاتلون بعقيدة إيديولوجية، ويتمتعون بجرأة مضاعفة مقارنة بأفراد يأسون من الجيش التقليدي”.
موضحًا أن (أحرار الشام) وغيرها من الفصائل الموالية؛ تمتلك تفوقًا استخباراتيًا ومعدات عسكرية متطورة، ويستطيعون؛ وفق الأخبار المتداولة، استهداف القيادات السورية عبر المُسيّرات الأوكرانية المتطورة، ومن ثم إرباك كتائب ووحدات الجيش السوري من حيث الإدارة والتنظيم، وتعبيّد مسّار تقدم هذه الفصائل.
وإنَّ اتفق “فرجي راد” مع “عنبري” حول انشغال “حلف دمشق” مثل: إيران وحزب الله بالحرب مع إسرائيل، وكذلك روسيا بالحرب ضد أوكرانيا، واصفًا دور موسكو بـ”المشبوه”، يرى عنبري صعوبة تبريره خلال الأسبوع المنصرم، وتفجيرات اليومين أو الأيام الثلاثة الماضية على ليلة سقوط دمشق.. إلا ويوضح المحلل والدبلوماسي الإيراني “عبدالرضا فرجي راد” بأن: “روسيا اكتفت بممتلكاتها القليلة في سورية، ولم تقم بأي إجراء هام حتى الآن سوى تغيّير بعض القيادات الروسية، وتعدم حاليًا القدرة على إرسال قوات وطائرات ومُسيّرات وصورايخ إلى سورية بسبب الحرب الأوكرانية؛ لا سيّما مع حرص الجيش الروسي على احتلال شرق أوكرانيا قبل تنصيب؛ دونالد ترمب، رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية”.
ليسَّرع الدبلوماسي الإيراني؛ في تحليله المنشور بموقع (جماران) قبل سقوط دمشق بليلتين، العودة لتفسير الدور الإيراني بالأزمة الدامية؛ مؤكدًا بذل طهران كل جهودها لتدعيم الجبهة السورية في مواجهة (أحرار الشام)، “لكن إسرائيل وضعت الحد الأقصى من العقبات سواءً عبر مسار لبنان أو العراق، وقصف المطارات، وكذلك تحذير الطائرات بعدم الهبوط”.
أما عن قوات (الحشد الشعبي) العراقية؛ والتي (بحسّب فرجي راد) قيل إنها نحو: ثلاثين ألفًا على استعداد لعبور الحدود إلى سورية، لم يحصلوا حتى الآن على تصريح الحكومة العراقية.
موضحًا: “وكانت الطائرات الأميركية قد قصفت منطقة (البوكمال) الحدودية؛ وكذلك (دير الزور)، ربما بهدف تعطيل وصول المساعدات؛ بل إن الأكراد استولوا بمساعدة الطائرات الأميركية على عدد من القرى؛ وبخاصة في الحسكة”.
وعليه يبدو أن إيران تسعى إلى اقناع حكومة؛ “محمد شيّاع السوداني”، في “العراق”، بالسماح لـ (الحشد الشعبي) بدخول سورية، وربما كان هذا محور مفاوضات وزير الخارجية في “بغداد”.
كما يرى التحليل الإيراني؛ أن الحكومة العراقية تتخوف من انتقال هذه الحرب للداخل العراقي، لكن من المستَّبعد حال سيطرة الجماعات الأصولية في “سورية”، أن تترك الحكومة الشيعية في “العراق”، وعدم تحفيز أهل السَّنة في هذا البلد للتحرك ضد الحكومة. من ثم فإن الحكومة الشيعية العراقية لا يمكن أن تبقى بمأمن مع احتمال سيطرة المتطرفين في سورية، وعليها قتال هؤلاء المتطرفين قبل السيطرة على سورية.
ويختتم “فرجي راد” تحليله: “بشكلٍ عام تُصارع سورية؛ اليوم، فوضى جيوسياسية مشوشة؛ وللدول المحيطة مخاوف ومكاسب أيضًا من هذا الوضع؛ إذ من مصلحة هذه الدول؛ (بداية من إسرائيل وحتى أميركيا وروسيا، وتركيا، وبعض الدول العربية وربما العراق أحدها)، انقطاع خط المساعدات عن المقاومة، واستمرار هذا الانقطاع. وتتركز مخاوفهم حول سّريان الفوضى والاضطرابات إلى هذه البلدان حال انتصار المتمردين الأصوليين. وربما تتضح المسّارات العسكرية والسياسية في سورية؛ خلال الأسبوع المقبل”.
ولكن.. سَّرعان ما سقطت “دمشق” صبيحة الثامن من كانون أول/ديسمبر 2024، وتأتي بالطبع قبيل هذا التوقيت مؤشرات عدة تُشيّر إلى سيّر كافة الأمور في هذا الاتجاه..