تمهيد
العدالة الانتقالية هي مجمل الآليات والعمليات القضائية وغير القضائية لمرحلة ما بعد الصراع، سواءًالانتقال من حكم ديكتاتوري إلى حكم يتوجّه نحو الديمقراطية أو إثر انهيار سلطة القانون أو بعد حروبونزاعات أهلية أو عقب الاحتلال، بما يوفّر أرضية للانتقال الديمقراطي وتحقيق المصالحة الوطنية.
والهدف هو معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مسلسل تسوية بعد مراحل القمع السياسي، سواء من طرف النظام السياسي، مثل جرائم الاغتيال السياسي والتعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وغيرها. وتشمل كذلك فترات النزاعات الأهلية التي عرفت جرائم ضدّ الإنسانية بحق المدنيين أو الرهائن ومصادرة الممتلكات أو إتلافها بصورة منهجية غير مبررة بضرورات الحرب.
الهدف من العدالة الانتقالية كذلك كشف الحقيقة وتحديد المساءلة لأجهزة الدولة التي عليها تقديم الاعتذار العلني عن دورها في عمليات الانتهاك الجسيمة دون إثارة المسؤوليات الفردية تمهيدًا لإنجاز المصالحة عبر محطات أساسية، منها جبر الضرر المادي والمعنوي، وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون لكي لا يتكرر ما حصل، وكذلك حفظ الذاكرة الجماعية وتأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا لطي صفحة الماضي.
ويرتبط تقدّم عمليات وآليات العدالة الانتقالية بالتدرّج الزمني، ولاسيّما بعد تحديد المسؤوليات للتخلّص من كوابيس الماضي، والقيام بآليات الصفح في الحاضر، فضلًا عن المستقبل، بتقديم ضمانات بعدم العودة لانتهاكات الماضي عبر قطيعة معه من خلال إصلاحات مؤسسية تشريعية وسياسية.
اختصاصان رئيسان
وتتأسس العدالة الانتقالية على اختصاصين رئيسين هما:
الاختصاص النوعي – ويشمل الانتهاكات الجسيمة التي يتم التصدّي لها؛
والاختصاص الزمني – وهو موضوع ولايتها بخصوص المرحلة المحدّدة بما حصل في الماضي الأليم. وتباشر عملها واختصاصاتها ضمن الأوصاف التي تندرج في القوانين الخاصة بلجان الحقيقة، لاسيّما في إطار حوار عام في الفضاء العمومي المجتمعي السياسي والمدني والديني، حتى يُصار إلى تتويج الاختصاصين النوعي والزمني بخلاصات وتوصيات تتضمّن النتائج التي تمّ التوصّل إليها,
تلك باختصار جوهر فقه العدالة الانتقاليةوفلسفتها التي جرى تطبيقها في نحو 40 بلدًا وفي بيئات مختلفة، ابتداءً من بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص المرتكبين الألمان النازيين، مرورًا بتجارب الدول الاشتراكية السابقة، التي شهدت تطبيقات متنوّعة تراوحت بين فقه التواصل وفقه القطيعة، وصولًا إلى تجارب دول أمريكا اللاتينية، ولاسيّما الأرجنتين وتشيلي وبعض دول أفريقيا وآسيا، وبضمنها تجربتي جنوب أفريقيا وتجربة المملكة المغربية، وجميعها عكست مراحل الانتقال من النزاع المسلّح إلى السلم المدني ومن نظام القمع إلى التوجّه الديمقراطي، حيث تتنوّع التجارب وتكتسب خصائص محلية مع المشتركات ذات البُعد الكوني.
المفهوم لم يتوطّن عربيًا
ويُعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم الجديدة بالنسبة للغالبية الساحقة من البلدان العربية، ناهيك عن أن ثقافة العدالة الانتقالية لم تكن معروفة في عالمنا العربي حتى لدى الجهات العاملة في ميدان حقوق الإنسان، إلى أواخر الثمانينيات، إلّا أن الحديث عنها اتّسع بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، ولاسيّما بعد تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة في الأرجنتين 1983 وتشيلي 1990 وجنوب أفريقيا 1995 والمغرب 2004، وجرى الحديث عن تجارب ناقصة ومبتورة وقاصرة في العالم العربي، بعد موجة ما سمّي بالربيع العربي (2011)، وتبقى العدالة الانتقالية مؤقتة وظرفية ومرهونة بالظروف غير الطبيعية التي عاشها البلد، كما أنها ليست بديلًا عن العدالة القضائية الطبيعية، وإن تضمّنت تدابير قضائية، إلّا أن ثمة تدابير وإجراءات أخرى مكمّلة ومتممة ذات أبعاد سياسية واجتماعية ودينية، هدفها جميعها هو الوصول إلى معالجة الصراع، والتوصّل إلى العدالة المطلوبة لإنصاف الضحايا.
وبهذا المعنى فهي عدالة ذات طابع خصوصي ترتبط بفترات الانتقال الديمقراطي، ولذلك تختلف عن العدالة التقليدية، التي لا بدّ من تكييفها لتشمل الوضع الذي يلائم مجتمعات ما بعد الصراع وينسجم مع التوجّه للانتقال إلى الديمقراطية.
وإذا كان المفهوم الأول قد ورد في محاكمات نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين في ألمانيا، فإن هذا المفهوم اتّسع وتوطّد عبر سلسلة تجارب، ساهمت برامج العدالة الانتقالية فيها باعتماد آليات جديدة. وإذا كانت المرحلة الأولى تقوم على التجريم، لاسيّما عبر ميكانزمات تتعلّق بوضع اتفاقية منع الإبادة الجماعية وإرساء سوابق لم يعد من الممكن تجاوزها، فإن المرحلة الثانية شملت كتلة الدول الاشتراكية التي تجاوزت المحاكم إلى آليات مثل لجان الحقيقة والتعويضات والحوار الوطني.
ويمكن القول أن المرحلة الثالثة تمثّلت بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافياالسابقة (1993)، وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية بروندا (1994)، وأخيرًا إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بتوقيع نظام روما الأساسي (1998)، الذي دخل حيّز التنفيذ (2002).
وتنتمي دراسات العدالة الانتقالية معرفيًا وأكاديميًا إلى خريطة العلوم القانونية والسياسية، بما فيها حقل القانون الدولي لحقوق الإنسان، فضلًا عن علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والنفس والمجال الديني والإعلامي، وبالطبع فهي تستند إلى الفكر الليبرالي بشكل عام وميراث جون لوك وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل، لاسيّما الدعوة إلى قيم الحريّة والمساواة والعدالة. ووفقًا للفكر القانوني، فإنها تسعى لتحقيق المعاقبة على ارتكاب الجرائم من جهة وإنصاف الضحايا وتأهيلهم من جهة ثانية، إضافة إلى ردع أية محاولة لإعادة الماضي، فضلًا عن العمل على إصلاح النظام الاجتماعي بصفة عامة، خصوصًا ببناء السلام.
صلة وصل: فلسفة ومنهجية للتفكير
العدالة الانتقالية تمثّل حلقة وصل بين مفهومين العدالة والانتقال، وحسب تعريفات الأمم المتحدة، فإن العدالة هي المثل العليا للمساءلة والإنصاف في حماية الحقوق ومنع التجاوزات والمعاقبة عليها، وهي تنطوي على احترام حقوق المتهمين كذلك، فضلًا عن مصالح الضحايا.
إن العدالة الانتقالية، فضلًا عن كونها فلسفة خاصة للعدالة في مجتمعات ما بعد النزاعات، فهي منهجية للتفكير والعمل على إرساء الآليات والإجراءات الملائمة الخاصة التي تخصّ كلّ مجتمع، ناهيك عن خصوصياته وهويّاته العامة والفرعية.
ولا شكّ أن بعض التحدّيات تواجه نظام العدالة الانتقالية، لاسيّما عند التطبيق، منها بعض التوترات والنزاعات الدينية والطائفية والعشائرية التي قد ترافق تطبيق نظام العدالة الانتقالية فترة ما بعد النزاع ومرحلة التحوّل المدني السياسي، وكذلك عدم كفاية الموارد البشرية والمادية، ناهيك عن فساد المؤسسات الرسمية ذاتها ممّا يشكّل تحديًا جديدًا، يُضاف إلى جوهر المشكلات القائمة، فضلًا عن البطء في تنفيذ الإجراءات المطلوبة وطول فترة التحقيق والتدقيق، وجمع المعلومات والأدلّة والإثباتات وسماع الشهود، الأمر الذي يُشعر الضحايا بعدم الجدية أو بالغبن أو اللّاجدوى، ويوسّع من هوّة الثقة بينهم وبين النظام الجديد وتوجّهاته، بل يولد لديهم الرغبة في أخذ الثأر والانتقام بأيديهم، خصوصًا في ظلّ شحّ ثقافة حقوق الإنسان.
التجربة المغربية
ولا بدّ في ختام هذه الدراسة التوقّف عند إحدىالتجارب العربية الناجحة في ميدان العدالة الانتقالية، ونعني بها التجربة المغربية، وقد تسنّى لي شخصيًا متابعتها وملاحظة تطوّرها ميدانيًا من خلال علاقة مباشرة.
فلم تحصل في المغرب ثورةٌ أو انقلابٌ عسكريٌ، ولم تتحقّق التجربة بعد نزاع مسلّح أو حرب أهلية أو انتقال من نظام دكتاتوري إلى نظام ديمقراطي، أو بلد انتقل من الاستعمار إلى الاستقلال، بل إن التجربة تمّت في إطار النظام القائم بعد حراك شعبي ومدني طويل الأمد، وأنشطة حزبية وسياسية واسعة وإرادة ملكية واعية قرأت التحوّل العالمي في هذا الميدان، فأقدمت على خطوة شجاعة وجريئة ذات بُعد استراتيجي، فاختارت اللحظة المناسبة للتغيير، وطي ملف الماضي في مقاربة للمصالحة بين الدولة والضحايا بإقرار المسؤولية المباشرةلمجموعة الأجهزة التي تسبّبت بشكل أو بآخر بارتكاب جرائم الاختفاء القسري والاعتقال التعسّفي والتعذيب والقتل، يما يشكّل إدانة بحق مرتكبي جرائم حقوق الإنسان، بغضّ النظر عن مواقعهم في أجهزة الدولة.
لقد حذت التجربة المغربية حذو التجربتين الأسبانية والبرتغالية في معالجة الانتهاكات الجسيمة، لاسيّما بعد دكتاتورية فرانكو والجنرال سالزار، والتي تشكّل نموذجًا ناجحًا في التفاوض للانتقال الديمقراطي وتجاوز التاريخ الأليم، باختيار العدالة الانتقالية طريقًا بدلًا من العدالة الجنائية، في إطار سياسة تنموية سداها ولحمتها المواطن وفكرة المواطنة في إطار وعي جديد بأهمية احترام حقوق الإنسان، ونشر وتعميم ثقافتها لتحقيق التقدّم والإصلاحالمنشود دستوريًا وقضائيًا وعبر أجهزة إنفاذ القانون لمنع تكرار التجارب المأسوية.
وقد تدرّجت التجربة المغربية من خلال الإرادة السياسة للدولة لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ففي العام 1999 تأسست هيئة التحكيم المستقلّة للتعويض عن الضرر المادي والمعنوي للضحايا، وفقًا لضوابط فنية خاصة لهم ولعوائلهم، وذلك كان بمثابة الاعتراف الرسمي الأول والصريح بارتكاب جرائم خلال ما عُرف في المغرب “سنوات الرصاص والجمر”.
وكان من أهم المبادرات على هذا الصعيد هو تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة (2004) لتقويم فترة نصف قرن من الانتهاكات الجسيمة في فترة زمنية أمدها عام واحد، وتمديدها لاحقًا إلى 6 أشهر أخرى، وهكذا اعترفت الدولة مباشرة ورسميًا من خلال مرسوم ملكي بمسؤوليتها لما حصل في الماضي أمام الشعب وأمام العالم، وهو ما يُحسب لها كخطوة غير مسبوقة لتأكييد المصالحة وحفظ الذاكرة الجماعية.
وكان مثل هذا الاعتراف هو المفتاح وكلمة السر الذي ظلّ الضحايا، عوائلهم والرأي العام، يبحثون عنه، ولاسيّما لحظة المكاشفة والشفافية، وكان الصديق إدريس بن زكري، والمسجون سابقًا لنحو 17 عامًا، الذي أهديت إليه كتابي “الشعب يريد – تأملات فكرية فيالربيع العربي”، على رأس الهيئات الفاعلة على هذا الصعيد، وبالطبع تحت قيادة الصديق عبد الرحمن اليوسفي زميلنا في اتحاد الحقوقيين العرب وفي المنظمة العربية لحقوق الإنسان، الذي أدار عملية الانتقال الديمقراطي بصفته الوزير الأول (رئيس الوزراء).
وكنت قد أجريت حوارات مطوّلة معه (منشورة في كتابي – سعد صالح: الوسطية والفرصة الضائعة)، وبجدارة كان وزير حقوق الإنسان الصديق محمد أوجار قد نفّذ برامج طويلة الأمد في إطار ليس العدالة الانتقالية فحسب، بل على صعيد الانضمام للمعاهدات والاتفاقيات الدولية.
وقد اقتربت الرؤية الحقوقية من الرؤية السياسية للفعاليات والأنشطة الحزبية والمدنية مع الإرادة الملكية في تقديم تجربة ناجحة، ظلّت تتطوّر وتتقدّم بتراكم طويل الأمد، وهو ما يمكن الاستفادة منه للدول والأنظمة التيتريد السير في طريق العدالة الانتقالية.