18 ديسمبر، 2024 2:12 م

سليم دولة
عنايتي بالفلسفة حديثة جداً، ولا أذكر لها أي ذكرى في الطفولة والشباب. بل إنّ ذاكرتي تسجّل نفوراً من هذا الحقل المعرفي الذي كان يبدو لي مهارة خارقة إمّا أنها تولدُ مع ولادة الفيلسوف أو أنّها لا تتأتّى إلا للمجانين. وإذا لم أكن مخطئً فإنّ تكويني المدرسي قد أسدل ستار الضباب على رؤيتي حتى حدجت الفلسفة والفلاسفة بهذه النظرة القاتمة والمحدودة. في أول حصة فلسفية سألنا المدرس عن معنى كلمة الفلسفة. هناك من اعتمد دفاتر السابقين، هناك من بحث عنها في محرك البحث قبل الحصة، وكانت معنا في الفصل تلميذة هي التي أعطت أكبر قدر من التعاريف والشروحات للفلسفة لغة واصطلاحا وعند أفلاطون وعند أرسطو… الخ. وكانت تبدو حامية الفكر متقدّة الحس الفلسفي. أما أنا فلم أنبس بكلمة. وبقيت أستمع لهذه التعاريف التي لم تقنعني. وعلى سبيل الحقيقة، فقد كنت متوجساً خائفاً من مادة الفلسفة كما يخاف الطفل من الوحوش، وكما تخاف النساء من الصراصير.. أو ذلك الرعب الذي يتملكك حين تقتحم بأقدامك المرتجفة سراديب الظلام ! ببساطة لأنني لم أكن قادماً للحصة بسروال وقميص جديدين ومحفظة تحوي كتاباً ودفترين فحسب؛ بل كنتُ قادماً برأس ممتلئ بتصورات مسبقة من قبيل: أساتذة الفلاسفة يجعلون من التلاميذ ملحدين. إنّ فكرة مثل هذه كانت تجعلني أتفحص الأستاذ من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، وأن أتلقى كل كلمة يقولها كأنها إثبات إما أنه أستاذ مؤمن أو أستاذ ملحد. في السنة الأولى لم نكن ندرس إلا بعض المفاهيم الفلسفية الأولى(الميتوس، اللوغوس، التهكم، المحاورة، الفحص، السفسطة…) في السنة الثانية- أي الأولى باك- كان يدرّسنا أستاذ حازم وصارم جداً، ولم نكن نستطيع حتى تعديل وضعية جلوسنا في حضرته. نقرأ النص، يشرح بعض الأفكار، ثمّ يطلب منّا أطروحة للنص. في البداية كنت أستمع فقط. لم أكن أحب ولا أفهم تلك الأفكار فكيف سألخصها في أطروحة من خمس أسطر؟ وبدأتُ أحاول أن أقرأ مجهودي في فهم النصوص. كان الأستاذ يعلّق دوماً على تلك المجهودات بأنها ناقصة، وكنتُ أقرأ على صفحة وجهه تعبيرات مُحبطة. بينما كانت تلك التلميذة التي تحدثت عنها سابقاً تثير إعجابه بأفكارها وغالباً ما ينتقي أطروحاتها لتُكتبَ على السبورة ووجهه الجامد من التعابير يرخي ستارة استحسان ورضا. فبدأتُ أتساءل أولا عن السرّ وراء فهم بعض الناس للفلسفة واستعصاءها على آخر؟ أهي موهبة عقلية خارقة لدى البعض، بينما البعض لا يستطيع لها سبيلا مهما تسلق جدارها الصلد؟ وبدأتُ أشكّ في أنني لا أمتلك ذلك العقل الفلسفي الإبداعي، ثمّ كرهتُ الفلسفة. في السنة الموالية، بدأتُ أفهم الفلسفة وكانت تثيرني تلك المواضيع (الهوية، السياسة، العنف، شرعية الدولة، الأخلاق…)ولكنني لم أستطع أن أنسج معها الحبّ الذي يجب نسجه مع الأشياء. ظلت أشياء مدرسية لا تسمن ولا تغني من جوع.
بعد أن حصلتُ على شهادة الباكالوريا، انتقلتُ للدراسة في الجامعة. كانت الفلسفة تندرج ضمن مقرر الدراسات العربية إلى جانب المنطق. كان الأستاذ ظريفاً ومتمكناً، حيث يقدم لنا الأفكار الفلسفية على شكل سكيتشات لم أكن منع نفسي من الضحك حين يبدأ في سردها. كانت سكيتشات غنية بالأمثلة حيث اقتبستُ بعض الأفكار حول تأويل معنى الوجود عند هيدجر، المنطق عند أرسطو، مطرقة نيتشه، وغيرها. وأحياناً كنت أتذكر أمثلته فأشرع في الضحك. هناك أحببتُ الفلسفة، حين اكتشفتُ أنها ليست كلاماً يمرّ من فوق كطائر مهاجر، بل هي سليلة الحياة اليومية التي نعيشها وكلّ لحظة فهي لحظة فلسفية. وكذلك الأستاذ الذي درّسني منطق القضايا. فعندما استطعتُ حلّ قضية معقدة لأول مرة بعد عدة محاولات فاشلة، شعرتُ أنني أرغب في الطيران. اكتشفتُ حينها أنّه ليس هناك فلسفة حية أو جامدة؛ تحيا الفلسفة حين يحييها الأستاذ وتجمد حين يُميتها.
كان أول كتاب قرأته هو ” مبادئ أولية في الفلسفة” لجورج بولتيزر، تحدث فيه عن المثالية والمادية الجدلية والفلسفة الماركسية. وبسبب فترة عسيرة اضطررتُ لبيع الكتاب مع بعض الكتب الأخرى قبل أن أنهيه. بعد ذلك قرأتُ إلكترونيا ” الفلاسفة والحب” يبقى هذا الكتاب من ألذّ ما قرأت في الفلسفة، إذ يتحدث عن تصورات الفلاسفة للحب وقصصهم ارتباطاً بمذاهبهم . وأقحمني في الفلسفة دون أن أشعر. لقد بدأتُ أفهم أنّ الفلسفة ليست هي ما نقرؤه أو ما نتلقاه من معارف نعيد صياغتها في النقاشات والمحافل، بل يجب على تلك المقروءات أن تدربنا على التفكير والنقد والفحص، الفلسفة هي أن نتفلسف. لم تُخلق الفلسفة لكي توضع في رفّ على مشارف عقولنا، بل يجب أن تكون هندامنا ومساحيقنا: نظارة نرتديها فتتلون الحياة بلون معنى من المعاني، يجب أن نتفلسف حتى نشعر كأنّنا ننتعلُ الفلسفة، هل يوجد من لا ينتعل كي لا تجرح أقدامه الأشواك ؟ هل يوجد من لا يتدفّأ من قسوة الحياة؟ وهل فينا إلا من يرى الحياة وردية من شدة جمالها، أو سوداء من شدة عبثها، أو حمراء ما دام الحبّ إكسيرها؟
الأن، لن أجزم في أنّ الفلسفة تؤدي إلى الإيمان أو لا. كل ما أعرفه هو أنّ الفلسفة علمتني التفكير الحر، والفحص الدقيق للحياة وهي تمرّ أمامي كالقطار السريع، وأن أرى في كل جزيئة تافهة من هذا اليومي المعاش ما يستحق النظر والوقفة. لم تقدني الفلسفة إلى الإيمان، لأنّي من جهة كنتُ مؤمناً دوماً، ومن جهة أخرى، فإنّ الفلسفة لم تخلق للاستدلال على صحة الإيمان ووجود الله، وليست خادمة طيعة للشريعة. فلكلّ منهما طريقه الخاصة والفريدة.
وهذا الكتابُ الذي اخترتُ الحديث عنه، أراه من أمتع الكتب، وأكثرها قدرة على تكثيف الكثير من المذاهب والفلسفات في صفحات لا تبلغ المائة صفحة. هذا الكتاب هو (ما الفلسفة) لسليم دولة. حاول فيه أن يعرّف الفلسفة تعريفاً فريداً يراعي فيه أن تقترب هذه الفلسفة من المواطن العادي حتى يتمثلها في حياته ويضرب صفحاً عن تلك النظرة التهويلية للفلسفة والتي ساهم فيها الفلاسفة أنفسهم فضلا عن المجتمعات.
هناك صورة شائعة حول المتفلسف، وهي أنّه يقيم في برج عاجي بعيدا عن مشاغل الناس، ويصوغ أفكاراً غير مفهومة أعلى من مستوى وعي عامة الناس كأنه يمرّر خطابه إلى النخبة وخاصة الخاصة. وذلك ما يجعل المواطن العادي ينفر من الفلسفة ويقوم بردود فعل سلبية. وهذه الصورة السلبية لا يمكن أن نردّها للمتلقي فقط، بل إنّ الكثير من الأسباب تشكّلها منها ما يعود للفلسفة نفسها التي تحمل وزر تاريخها الحافل بفلاسفة تنكّروا للفلسفة وصاغوا فكرا مضادا لها، أو من مواقف فلاسفة آخرين نأوا بأنفسهم عن مشاغل العامة ورسموا في مخيلتهم واقعا طوباويا من مدن فاضلة وجمهوريات وإمارات ليستقبلوا فئات معينة وينفون أخرى، أو يقيمون ميثاقا أخلاقيا معينا ويهملون آخر ويقرّون نظاما وينبذون آخر. كما عرف تاريخ الفلسفة صراعا غير متكافئ القوى بين قوة الحجة وحجة القوة؛ حيث كانت الغلبة دائما لحجة القوة لأنّ ” الحجة العاجزة عن أن تكون قوة لن تكون” ومهما كانت تلك الأفكار براقة فلن تسود حتى تستميل فئة من فئة أو طبقة تطابق مصالحهم المادية وبالتالي يتحولون لمنافحين ومدافعين عنها، مجندين لنصرتها.

1.ما الفلسفة؟
يرى المؤلّف أنّ السؤال عن ماهية الفلسفة سؤال سيئ الطرح، لأنّ اللفظة التي نتساءل عن ماهيتها جاءت معرّفة بألف ولام التعريف؛ كأننا نعرف مسبقا ما نتساءل عنه، ونسعى لتحديد ماهيتها وخصائصها ومميزاتها و”ما يجعل منها هي هي” كما يقول الجرجاني في تعريف الماهية. هذه الصيغة تجعلنا أمام مقاربة خارجية للفلسفة، أي إلقاء نظرة لا تنفذ إلى عمق فعل التفلسف كالإلمام ببعض المفاهيم الفلسفية والأفكار العامة للفلاسفة. هذه النظرة شبيهة بالنظرة التي نلقيها على الغابة من بعيد، فنحصل على تصور عام للغابة في شموليتها ولكن نعجز عن معرفة الشجرة الواحدة. هذا المجاز قدمه هيجل في كتابه «دروس في تاريخ الفلسفة» وينطبق على طريقة تناولنا للفلسفة؛ فالغابة تتكون من عدد كبير من الأشجار المتشابهة، ولكن حين نتوغّل في هذه الغابة نكتشف أنّ لكل شجرة خصائصها، ورغم هذا الاختلاف، إلا أنّ الأشجار جميعا تكوّن الغابة. يجب إذن أن نتسلّح بالحذر والحس الإشكالي إزاء الموضوع المطروح، فمن غير الممكن مقاربة ماهية الفلسفة دون الارتفاع عن المعنى الشائع عند العامة، والذي قد يأتي من الإطار الفلسفي نفسه، وخير مثال على ذلك الفيلسوف الوضعي كارناب الذي يقول : ” الفلاسفة شعراء ضلوا السبيل”. علاوة على ضرورة الانتباه لهيكلة السؤال المطروح وصيغته. ويجب أن نتمثّل إجابات متعددة عن السؤال المطروح بتجميع مختلف تلك الإجابات رغم تباينها وتفكيكها ثمّ تركيبها.
إنّ هذا السؤال أكثر تعقيدا من أن نقدّم إجابة واحدة عنه. فالفلسفة تتقاطع مع خطابات أخرى (الدين، العلم، الفن،التاريخ،الأسطورة…) وتجمع بينهما علاقة تأثير وتأثّر. فضلا عن إشكالية أخرى؛ وهي ارتباط الفلسفة بتقاطعات الفكر البشري خلال التاريخ” فلا يمكن فهم فلسفة فيلسوف إلا إذا استحضرنا مخاطَبي الفيلسوف والبعد الزمكاني، مثلا فلسفة أفلاطون في القرن الخامس ق.م في مدينة أثينا.” يجب إذن أن ننظر للخطاب التاريخي في تاريخيته، فالفلسفات القديمة كالأفلاطونية والأبيقورية… لا يمكن أن تقدّم أجوبة عن أسئلة الحاضر وإشكالاته. ويقول هيجل بأنّ الفيلسوف لا يستطيع أن يخرج عن عصره، وأنّ فيلسوفا من الفلاسفة القدامى لا يستطيع أن يفكّر لنا وعوضا عنا. فكلّ زمن له أسئلته وأجوبته الخاصة. كما أنّ رأي فيلسوف من الفلاسفة لا يلزم آخرين. لأنّ كلّ فيلسوف ينهل من إطاره النظري وله مرجعياته ومشاربه الخاصة. لنقدم مثالا بأفلاطون؛ يعرّف الفلسفة قائلا: ” أن نتفلسف هو أن نتدرّب على الموت” . لتحليل هذا التعريف يجب أن نجرد معاني الموت في المعجم الفلسفي الأفلاطوني؛ فالموت هو تحلل وفقدان ونقص ينصبّ علىى الجسد (المادة)، فالمادة إذن عرضية وليست جوهرية، وما يجعل من الإنسان إنسانا هو الجوهر أي الروح وليس المادة (الجسد). فالجسد إذن حسب أفلاطون عائق أمام التفلسف، والتفلسف يقتضي مغالبة المادة التي تشدّ الإنسان لعالم الفساد والانحلال، ومن ثمّ الاقتراب من عالم المُثُل. ويرتبط عالم المُثُل بالإطار النظري عند أفلاطون ” نظرية المُثل”. «وبهذا المعنى ربما نفهم تعريف أفلاطون للفلسفة عندما يقول التفلسف هو التشبّه بالألهة قدر الإمكان. فكأنّ قدر الفيلسوف الانسلاخ عن سائر البشر، عن العامة وتخطي الحس الدهمائي، فلا يمكن للفيلسوف أن يقبل الأراء السائدة، وإنّما عليه أن يتخذ مسافة نقدية بينه وبينها حتى يضمن لنفسه إمكانية التفلسف.» ومن خلال نظرية المثل يُلحّ أفلاطون على ضرورة الترفع عن العادات والتقاليد والأراء المسبقة التي ترتبط بعالم المحاكاة لأنّها تعوق الفكر، فلا يمكن التفلسف داخل زجاجة التقاليد بتعبير الغزالي. ومن هنا يتطلّب الفعل الفلسفي كسر زجاجة التقاليد، وبتعبير آخر شق الطريق نحو التحرر. ولكنّ مفهوم الحرية يختلف عبر العصور حسب ابستمية كلّ عصر.

الابستمية هي الطريقة التي يتمثّل بها شعب من الشعوب، في عصر من العصور، للمفاهيم مثلا الفلسفة في الابستمية الإسلامية. تكتسي الحرية في الابستمية اليونانية تعريفا خاصا، حيث يطلق لفظ “حر” على كلّ من يستطيع التفرغ كلّية لممارسة التفلسف وهذه الفئة هي المواطنين الأحرار. غير أنّ النظرة السوسيولوجية للمجتمع اليوناني تكشف أنّ نسبة المواطنين الأحرار لا تتجاوز %5 من نسبة السكان، بينما كانت فئة أخرى وظيفتها تتمثل في ضمان شروط وظروف التفلسف للمواطنين. فالمواطنون الأحرار إذن يمثّلون نخبة .
ساهم أفلاطون بشكل كبير في تكريس النخبوية حين استثنى النساء والعبيد والغرباء من المشاركة في الحكم والاقتراع، لأنّه لم يكن راضيا عن الحكم السياسي الديموقراطي في أثينا، خاصة وأنّ دعاة هذا الحكم هم خصومه السوفسطائيون. وكان يحنّ إلى زمن الأرستقراطية ويسعى لاستعادة ماضي أثينا تحت ظل هذا النظام. ولذلك نقول عن خطاب أفلاطون بأنه كان خطابا ماضويا؛ أي متعلّق تعلّقا مرضيا بالماضي. ناهيك عن رفضه للأطروحات السوفسطائية التي تشكّل ثوابت المجتمع الأثيني.
من بين هذه الأطروحات نجد : الإنسان؛ حيث كانت نظرة السوفسطائيين للإنسان إيجابية باعتباره مقياس كل شيء ومحور البحث الفلسفي وليس الألوهية التي جعلوا منها مسألة ثانوية خارج اهتمامهم. يقول بروتاغوراس: ” أنا لا أستطيع ان أجزم إن كانت الألهة موجودة أم غير موجودة، فإنّ عدة مسائل تحول دوني ودون هذا العلم أهمّها صعوبة المسألة وقصر العمر. العالم؛ تتلخص نظرة السوفسطائيين للعالم في نقطتين:
-مبدأ التغيّر: حيث أنّ العالم في تغيّر مستمر ويقول هيراقليتس(لا تستطيع أن تنزل النهر الواحد مرتين).
-فكرة الصراع: حيث أنّ الصراع هو جوهر الأشياء.
انتقد أفلاطون أغلب المفاهيم السوفسطائية، حيث يرى أنّ المعرفة التي تقدّمها الكوسمولوجية(علم الكون) والأنتروبولوجية السوفسطائيتين لا يمكن أن ترتفع إلى مستوى المعرفة الفلسفية وأنّ الخطاب السوفسطائي لا يقدم معرفة وإنما شبه معرفة، باستخدام البلاغة التي تقوم على مخاطبة العاطفة وقوة الكلمة. ارتفع السوفسطائيون بالكلمة إلى مستوى السلاح السياسي الخطير، إذ يتمتعون بالثقة في امتلاك الحقيقة، لذلك عمد سقراط إلى استبدال البلاغة بتقنية التوليد باستخدام سلاح السخرية والتهكّم ” فإذا كان السفسطائي واثقا من علمه أو هكذا يبدو في بداية حواره مع سقراط إلا أنّ استدراج سقراط للسفسطائي إلى هذا الحوار عن طريق لعبة السؤال والجواب يجعله يعرف أنّه لا يعرف وهو الشرط الأولي للتفلسف.إنّ وهم امتلاك الحقيقة ينزاح أمام التهكّم السقراطي”.

2.الفلسفة والعلم:
دافع لويس ألتوسير في كتابه(لينين والفلسفة)عن أطروحة مفادها أنّ ولادة وبعث الفلسفة يستلزم ظهور بعض العلوم للوجود. ولهذا يعتبر أنّ الولادة الحقيقية للفلسفة كانت مع أفلاطون الذي ورث العلم الرياضي، وهكذا في العصر الحديث مع الخطاب الفلسفي الديكارتي والفيزياء الكاليلية، ثمّ فلسفة كانط والعلم النيوتني…إلخ. فالفلسفة لا تتطور إلا بضغوطات علمية. ويستند ألتوسير على المجاز الهيجلي عندما يقول أنّ الفلسفة لا تظهر إلا آخر العشي بعد مضي يوم كامل على ظهور العلم. وقد جعل أفلاطون من العلم موضوعا للدراسةالفلسفية، وهذا التدخل الفلسفي يبين مدى محدودية العلم بالمقارنة مع شمولية الخطاب الفلسفي . كما يَعدّ العلم مدخلا للفلسفة وليس فلسفة عندما يقول(من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا) أي أنّ التسلّح بالعلم ضروري لدخول المكان الخاص بالفلسفة(الأكاديمية). لا شكّ أنّ أفلاطون حين تدخّل فلسفيا في العلم وانتقى من علوم عصره ما يفيده وأهمل علوم الفلاسفة السابقين له قد أنتج ابستمولوجيا فلسفية ليبين أنّ حدود العلم تأتي من الممارسة الفلسفية.

الفلسفة والسياسة:
التحمت الفلسفة والسياسة في شخص سقراط الحكيم لدرجة أنّ موته كان حدثاً سياسياً وهو الذي قاد أفلاطون إلى الفلسفة. ولو لم يكن تأثيره السياسي كبيرا لما كان إعدامه مسألة عاجلة لا يمكن تأجيلها- رغم أنّ سقراط كان كبير العمر- ولكن لأنه كان معارضاً للنظام وتأثيره على المجتمع الأثيني يهدد السلطة الحاكمة وبالتالي يجب إخماد صوته في أقرب وقت. كان بإمكان سقراط أن يلتجئ إلى البلاغة لدغدغة عواطف القضاة وتملقهم كما يفعل غيره: لأنّه كان مقتنعا بأنّه عاش ما يكفي ليكون عمره فداء للحقيقة. ولذلك كان مبتهجا للموت الذي يعتقد الجميع أنّه شر ونهاية ويعتقد الحكام أنّه سلاح ضدّ المعارضين، كان يرى أنّ الموت لا يزيد المعارضة إلا توهّجاً وقوة ويصبح نقطة قوة للمحكوم الذي يرى السياسي يستخدم الموت كأخطر سلاح عنده للبقاء على رأس السلطة (والأن سأخرج من هنا محكوما عليّ بالموت وأنتم محكوم عليكم باسم الحقيقة كأشرار ومجرمين) وإذا كان قاضي المدينة شريراً فإنّ الشرّ سيعمّ كلّ المدينة، فهذه الأخيرة إذن تحتاج مشرعا جديداً، الذي هو الفيلسوف. (يجب على الفلاسفة أن يكونوا ملوكاً أو على الملوك أن يكون فلاسفة).
لقد قدّم سقراط درساً مفاده أنّ الإعدام لا يخمد المعارضة، ولكن القضاة لم يكونوا في مستوى استيعاب الدرس. لكن الفلاسفة الذين جاؤوا من بعده استوعبوا الدرس بطريقة معكوسة، فأصبحوا يبخلون بحياتهم حسب لغة دومينيك غريوني. «فعوض أن يتفلسف الفلاسفة على الطريقة السقراطية في الساحات العامة ويحاورون سائر البشر، خصص أفلاطون للفلسفة أكاديمية،رمزاً لسجن الفيلسوف».

الفلسفة القروسطية:
اتسمت هذه المرحلة بهيمنة الخطاب الديني، سواء في العالم الإسلامي أو أوروبا، وأصبح النقل أو النص الديني هو المرجع الأساس. فأثيرت الكثير من الإشكالات لدى المشتغلين بالفلسفة. وكانت هذه الإشكالات هي محرك الفعل الفلسفي في القرون الوسطى؛ وهي التساؤل عن حقيقة العلاقة بين الشريعة والفلسفة التي ترجمت إلى صراع متعدد الأوجه والتسميات بين رواد الفكر: (الإبداع≠الاتباع/العقل≠النقل/الدراية≠الرواية)
ولكن عموماً فهي تسميات مختلفة لصراع واحد بين القديسين والفقهاء الذين يرجعون إلى النص والرواية الدينيين، وبين الفلاسفة الذين ينزعون إلى التفكير العقلاني وإبداع المفاهيم. وتولدت عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية حول إباحة أو تحريم الاشتغال بالفلسفة؟ هل المنطق يؤدي إلى الزندقة؟ وغيرها. وكان لرأي ابن رشد في المسألة أهمية كبرى باعتباره المعبّر الأصيل عن هذه الإشكالية من خلال كتابه(فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال) فهو لا يقول فقط بحرية التفلسف بل يراه ضرورة شرعية لخدمة الشريعة، فبالفلسفة يتأمل الإنسان في الموجودات التي تحيل على إبداع الخلق وإتقانه للوجود. ورغم أهمية رأي ابن رشد وحسمه لقضية كبيرة، غير أنّ حجة القوة تغلب دائماً قوة الحجة، إذ لم تسلم الأفكار الفلسفية من المصادرة الفكرية ومن أشكالها وتجلياتها ما ذكره المقرّي في كتابه (نفح الطيب) من أنّ كلّ من عُثر عليه يشتغل بالفلسفة والتنجيم إلا ورمي بالزندقة وربما طولب في دمه. ويُذكر أن ابن رشد سُجن في آخر أيام حياته، وهجاه احد الشعراء قائلا : حاد عن رشده. فضلا عن منشور أبو يوسف المنصور في منع الفلسفة بالمغرب والأندلس.
كان المقابل الغربي لابن رشد هو توما الأكويني، إذ كان يقول بأنّ الفلسفة يجب أن تكون خادمة طيعة للشريعة. أن تكون الفلسفة كذلك في معنى من معانيه: أنّها تساعد على فهم الشريعة وشرح ما استغلق على الأفهام . طُرحت مسألة التأويل في العالم العربي والذي خاضت فيه كل الفرق الكلامية؛ يهمنا من هذه الفرق فرقة المعتزلة: كانت المعتزلة ترفع شعار ” العقل قبل ورود السمع” و ” العقل قبل النقل” ويحتكمون في فهم الآي القرآني إلى مرجعية عقلانية توحيدية ، حيث ركزوا على فكرة التوحيد وأنّ أية التنزيه (ليس كمثله شيء)هي الأصل وبقية الأيات التي تتضمن التجسيم (السمع،البصر،الاستواء…)فيجب تأويلها في ضوء الأولى الأصل. إلى جانب التوحيد، كانت فكرة العدل الإلهي من أبرز اهتماماتهم الفكرية،حيث ناقشوا مسألة الجبر والاختيار، منتصرين للاختيار،أي أنّ الإنسان حرّ في اختياراته ومسؤول عنها، والله يعاقب الشرير ويجازي الخيّر. وللدفاع عن تصوراتهم استنجدوا بالمنطق الأرسطي واعتمدوا على البرهان لتحصين الشريعة الإسلامية من الثقافة الفارسية الوافدة.
3.ابتسمية الفلسفة في العصر الحديث:

إذا أردنا أن نصف القرن 17 فسنقول عنه بأنّه عصر العقلانية والتحولات العلمية والثورات السياسية التي رسمت صورة الإنسان المعاصر، هذا الإنسان الذي جعل منه كل من ديكارت وبيكن مالكاً للطبيعة وسيداً لها . وعُرف هذا العصر بعصر القطيعة الابستمولوجية، حيث تخلى الفلاسفة عن المرجعيات الأساسية للفكر الأوروبي وهي الفلسفة الأرسطية التي كانت تمثّل فلسفة كلاسيكية وتقليدية لن يحتاج إليها المحدثون. لأنّ تلك الأفكار بمثابة معيقات إبستمولوجية، بلغة باشلار، يعني به الفكر الما قبل-علمي الذي يعيق العلم كالرأي والأفكار الشائعة والموروثة، ويعده باشلار ” فكر ضدّ الفكر” . ولذلك يحتاج تاريخ الفكر في كل شوط من أشواطه لقطيعة ابستمولوجية ويقصد بها اللحظة التي يولد فيها علم جديد بالانقطاع عن ماضيه، وهي نقطة اللارجوع. لكي تزدهر الفيزياء الكاليلية انقطعت عن الفيزياء الأرسطية، وهكذا .
بنى ديكارت فلسفته على مبدأ الشك، يعرّف ديكارت الشك بأنّه ” تعليق الحكم” ويعرّفه الجرجاني بأنّه : ” تجويز أمرين لا يمكن دفع أحدهما بدليل” ولكن أيّ نوع من الشك ؟ لم يعتمد ديكارت على الشك المطلق أو المذهبي أو اللاأدرية الذي لا يفضي إلى نتيجة (شك عقيم) وإنّما الشك المؤقّت، التصاعدي، المنتج الذي ينزع نحو البحث عن الحقيقة. ولذلك لم يسَلّم ديكارت بسلطة الموروث ما لم يُخضعه للنقد والتمحيص لينتهي إلى الرأي الصحيح.
أما على المستوى السياسي، فقد ظهر خطاب سياسي يختلف عن بقية الخطابات التقليدية فإذا كانت الخطابات التقليدية تعنى بالوصول للحكم فإنّ ميكيافيلي لا يهتم بما سيكون بل بما هو كائن، أي كيفية المحافظة على الحكم، وتساءل (هل من الأفضل أن تكون محبوباً من أن تكون مرهوباً أم مرهوب الجانب من أن تكون محبوباً؟) يجيب بأنّه من الأفضل أن يجمع بين الاثنين ويجعل من نفسه مرهوب الجانب . استند خطاب ميكافيلي على مقولة الطبيعة الإنسانية، فالإنسان حسب هوبز يخوض حرباً كونية (حرب الكل ضد الكل) ولكي يرتقي من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية يجب أن يتنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية وحرياتهم المطلقة للحاكم أو ممثل الأفراد، في إطار ما يسمى بالعقد الاجتماعي.أما فرويد فيرى أنّ الإنسان عدواني بطبعه، والقوانين هي التي تكبح عدوانيته. يقول: ” هل تتصورون تلك النواهي وقد رُفعت. في هذه الحال سيكون بوسعكم أن تستولوا على كل امرأة تروق لكم دون تردد وأن تقتلوا منافسكم أو كل من يقف في طريقكم أو أن تختلسوا من الآخر ما شئتم من أملاكه”. لقد قدّم ميكيافيلي واقعية سياسية بمنأى عن النزعة الطوباوية المتمثلة في الجمهوريات والمدن الفاضلة التي ليس لها وجود إلا في ذاكرة الفيلسوف.

إذا كانت القرون الوسطى قد شهدت هيمنة الخطاب الديني على الفلسفة، فإنّ العصر الحديث قد شهد تراجع الفلسفة أمام العلم، وهذا الموقف اتخذه أوغست كونت عندما قسّم التاريخ البشري إلى تلاثة مراحل :
1.المرحلة الميتافيزيقية: والتي تُعرف بمرحلة الطفولة حيث تفسَّر كل الظواهر بأسباب ماورائية مختلفة.
2.المرحلة اللاهوتية: تعتبر مرحلة متقدّمة نسبياً، حيث يتم إرجاع الظواهر الطبيعية إلى سبب واحد.
3.المرحلة الوضعية العلمية: هي مرحلة نضج الفكر البشري والابتعاد عن التفسير الميتافيزيقي لظواهر الطبيعة وقد أسست هذه المرحلة لظهور النزعة العلموية وتعني الإيمان الوثوقي بالعلم وحده. وقد قادت هذه المرحلة الفلسفية إلى أزمة احتكار العلم للمسائل الفلسفية وتهميش المسائل الميتافيزيقية وبالتالي فقدت الفلسفة مبرر وجودها.

4.العلاقات الممكنة بين الفلسفة والعلم:
لاحظ كانط بأنّ الفلسفة تراجعت بعد التقدّم العلمي الهائل، يعبّر عن ذلك بقوله أنّ الفلسفة كانت “ملِكة” في العصر الإغريقي، بينما الأن أصبحت حلبة صراع، تتصارع عليها كلّ المذاهب مدعية امتلاك الحقيقة. لكن فكرة امتلاك الحقيقة بشكل مطلق لم تكن تروق لكانط. ولذلك طرح فكرة النقد الذاتي للعقل من أجل التوصل لحدوده، فماذا يمكنني أن أعرف؟ فالعقل الإنساني يعيش،حسب كانط، حالة من التمزّق بسبب ما يريد معرفته وما يستطيع معرفته فعلا، أي أنّ هناك معارف لا يستطيع العقل إدراكها(المسائل الميتافيزيقية) يقول كانط:” إنّ العقل الإنساني له هذا القدر الفريد من نوعه المتمثل في أنه يطرح في جانب من جوانب معارفه أسئلة ليس في وسعه أن يجيب عنها البتة”. كان كانط يسعى إلى تأسيس فلسفة جديدة مبنية على النقد الداخلي والذاتي للعقل، لأنّه لاحظ التقدم الذي أحرزته مختلف العلوم كالرياضيات والمنطق في مقابل انتكاس الفلسفة. ومهمة الفيلسوف هي انتشال الفلسفة من هذا الوضع لتحقيق ثورتها الخاصة عن طريق النقد(يجب أن يكون النقد نقداً داخليا يتجه نحو العقل وليس نقد نتاجات العقل)وتختلف فلسفة كانط عن فلسفة ديكارت في أنّ الأول لم يشكّ في نتاجات العقل البشري وليس الشك في الوجود فالعلم موجود ومتطوّر وقد دشّن قارته وأحدث ثورته التي دخل بموجبها الطريق الواثقة للعلم بينما يعيش العقل الفلسفي تمزّقاً. لم يشك كانط في العلم وإنّما في ادعاء العلم ما يتجاوز حدود التجربة.
“ما من قراءة بريئة للعلم” وكذلك كانت قراءة كانط للعلم؛ استثمارية، استغلالية،مصلحية. فاعترافه بفشل الفلسفةوتسجيله لنجاحات العلم تنبع من رغبته في اختراق العلم للبحث فيه عمّا يصلح لرد اعتبار الفلسفة. أي أنّه استثمر العلم في إعادة تأسيس الفلسفة، ولذلك كانت قراءته للعلم مصلحية: تأمّل العلم ليس لغاية علمية وإنّما لغاية فلسفية(ابستمولوجيا فلسفية).
تؤثّر الثورات العلمية على الفلسفة، وبقدر ما تحمل تقدّماً وتطوّراً فهي تحمل معها أيضاً أعراض إفلاس الأنساق والمواقف الفلسفيةالجاهزة. فهذه الثورات ليست مجرد إضافات كمية وإنما تستطيع التأثير على نظام مرجعي ما. ويرى فرويد في كتابه (مدخل إلى التحليل النفسي) أنّ البشرية تعرضت لتلاثة انجراحات/ إهانات من طرف العلم وهي:
1.الإهانة الكوسمولوجية: ترتبط هذه الإهانة باسم كوبرنيك حيث كان الإنسان يعتقد أنّه مركز الكون فبيّن له أنّه ليس إلا جزيئة صغيرة في نظام كوني شاسع.
2.الإهانة البيولوجية: لقد كان الإنسان قبل الاكتشاف الدارويني يعتقد أنّه أجمل وأسمى الكائنات، ويحفر هوة عميقة بينه وبين بقية تلك الكائنات. ولكن داروين بيّن له أنّ هناك علاقة تربطه بالقردة، حيث ينحدران من نفس الأصل. قوبل هذا الاكتشاف بالرفض لأنّه مخالف للنزعة الإنسية والتعاليم الإنجيلية.
3.الإهانة التحليل-نفسية: ترتبط هذه الإهانة بفرويد، حيث كان يعتقد الإنسان بأنّه يملك جوهراً ثابتاً يجعله يسلك سلوكاً واعياً ولكن مع نظرية اللاشعور اكتشف الإنسان أنّه ليس سيداً في بيته ولا يستطيع التحكم في أفعاله.
5.تمفصل الخطاب الفلسفي مع الوضع الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي:
لا يمكن أن نفصل الفيلسوف عن المجتمع الذي يعيش فيه، مهما الفيلسوف بعيداً وانطوائياً، إلا أنّ الصراعات الاجتماعية تنعكس في الخطاب الفيلسوف لكل فيلسوف من الفلاسفة. علاوة على أنّ الخطاب الفلسفي يتغيّر بتغيّر المناخ الاجتماعي، وبالتالي فالأفكار الفلسفية تعود للمجتمع إذ أنّ الفيلسوف يدافع عن طبقة أو فئة اجتماعية ما . وتعرف هذه الإشكالية بالانحياز في الفلسفة أو حزبية الفلاسفة. (الخطاب الفلسفي الماركسي نموذجا) والفلسفة كما يحددها لويس ألتوسير سلاح نظري وموقف نقدي، استعمله أفلاطون لتقويض النظام السياسي الديموقراطي واستبداله بالنظام الأرستقراطي الذي ليس له وجود فعلي. أنتج أفلاطون هذا الخطاب الماضوي، المغلق كما وصفه كارل بوبر، تحت تأثير السياسة والتحيّز الإيديولوجي، ” حيث تعمل الإيديولوجيا على تجنيد مخاطبيها فلا تجعل منهم عقلانيين أصحاب إرادة خاصة، وإنّما تريد أن تخلق منهم مريدين تابعين”.
6.الفلسفة وعودة المكبوت:
استخدم الفلاسفة الخطاب الفلسفي للتعبير عن المكبوت الذي قمعته الرقابة العامة والتقاليد الثقافية، مثل نيتشه الذي أعلن “مرض الحضارة” وأنّه طبيبها. الطبيب الذي كان مريضا حيث انتابه في آخر حياته بعد أن أدرك أنّ العالم لم يعد له معنى وأنّه في الطريق نحو الانهيار. وكان يرى أنّ كل شيء في الطريق نحو الانحلال: الدين الذي ترك وراءه الصراع والعدوانية والفقر العاطفي، لذلك أعلن نيتشه عن موت الله وموت كلّ القيام معه ومنه بدأت تلوح في الأفق مسألة موت الإنسان. إنّ موت الإنسانية أنتج إنساناً مريضاً يدعو إلى الشفقة على مسرح اللامعنى. اعتمد خطاب نيتشه الفلسفي على النقد الجذري للقيم الأخلاقية والجمالية والعلمية والسياسية من خلال ممارسة الحفر الجينالوجي.
إنّ هذه الحضارة تحتضر والوجود أصبح أكثر عنفاً، خاصة عندما نضع الإنسان المعاصرفي الوسط بين مركزين قويين يتصارعان سياسيا واقتصاديا فيتفجّر لنا أكثر من مكبوت ثقافي حين ما يتساءل هذا الإنسان عن موقعه في العالم الشاسع. وخاصة الإنسان الثالثي الذي لا يفسَح له مجال الكلام إلا ليرغَم على الصمت من جديد.
أما ميشال فوكو فقد دحض الأطروحة التقليدية التي تنفي العلاقة بين المعرفة والسلطة واعتبر أنّهما متمفصلان، فالسلطة أصبحت منتجة للمعرفة، وكما يقول ميشال سار (إنّ السلطة تريد النظام والمعرفة توفرها لها) كما أنّه لا توجد معرفة مقبولة اجتماعيا دون أن تكون مؤيّدة بسلطة. اعتمد فوكو على الإنصات لصوت الهامشيين والمسجونين والمغضوب عليهم واعتبر أنّ الفيلسوف المعاصر هو الذي ينطلق من ثقافة مضادة لسلطة النظام السائد.
إنّ استقراء كلّ هذه ” الفلسفات” يعني أنه لا توجد فلسفة بالمطلق، وإنما نتحدث عن ممارسات فلسفية مرتبطة بطبقة معينة في فترة تاريخية محددة. ولعل الماركسية خير دليل على ذلك. لاحظ ماركس أنّ الفلسفة منذ فجر تاريخها لم تتجاوز تفسير العالم كغاية لفعل التفلسف وما يختلف هو طريقة التفسير حسب كل فيلسوف وكلّ مذهب. تحمل هذه الأطروحة نقداً للفلسفة التقليدية ودعوة لفلسفة تتدخّل في تغيير العالم. والتغيير الذي يقصده ماركس هو الثورة أي قلب نظام الأشياء رأساً على عقب وليس مجرد الإصلاح الطفيف. وبالتالي لم تعد الفلسفة مجرد” نظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع” وإنّما تتدخل في السياسة من أجل التغيير. هذا لا يقلل من الوجه التغييري الذي حمله الخطاب الرشدي باعتباره بياناً سياسياً يهدف إلى إعادة فتح باب الاجتهاد.
استفاد كل من لويس ألتوسير وبول نيزان من الخطاب الماركسي. فألتوسير يرى بأنّ ” الفلسفة يجب أن تكون سلاحاً للثورة” بينما بول نيزان صاحب (كلاب الحراسة)فيتحدّث عن وجود فلسفات مستقيلة تعنى بمسائل بعيدة عن الواقع المعيش للناس، ينتجها الفلاسفة البورجوازيون والمحافظون والفلاسفة المثاليون. هذه الفلسفات المستقيلة تندرج تحت صنف الفلسفة الرجعية التي تسعى للحفاظ على نظام الأشياء كما هي. مقابل صنف الفلسفة التقدمية الذي يعمل على تغيير العالم. هذه الفلسفة هي فلسفة الممارسة أو البراكسيس التي تحكم على الفيلسوف من خلال موقفه من قضايا العصر والمسائل الاجتماعية، باعتبار أنّ الفلسفة موقف؛ فإذا كان الفيلسوف صامتاً أو مقيماً في برجه العاجي فهو خائن لأنه يغيب حين يتطلب حضوره، ويصمت حين يتوجّب عليه الكلام، وأبعد من ذلك فالفيلسوف البعيد عن مشاغل الناس، يكرّس لدى العامة صورة قاتمة عن الفلسفة بأنّها نشاط فكري يحتكره الفلاسفة والعلماء. بينما في الحقيقة: كل البشر فلاسفة. ولكن غياب الوعي النقدي لدى الأفراد هو الذي يجعلهم لا يدركون فلسفتهم. يسمي غرامشي هذه الفلسفة بالفلسفة العفوية ويدرج داخلها: اللغة، الأمثال والحكم، الديانات، الأساطير… الخ.

 

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة