18 ديسمبر، 2024 2:11 م

قصة الحضارة (175): حضارة إيجة قامت في أرض اليونان الأصلية

قصة الحضارة (175): حضارة إيجة قامت في أرض اليونان الأصلية

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن حضارة إيجة التي قامت في أرض اليونان الأصلية، والتي ظن بعض المستكشفين أن أثارها أثار لبداية الحضارة اليونانية وذلك في الحلقة الخامسة والسبعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

قبل آجممنون..

يستأنف الكتاب الحكي عن بدايات الحضارة اليونانية: “في عام 1822 ولد في ألمانيا صبي قدر له أن يكتب صفحة من أروع الصفحات على الآثار في القرن التاسع عشر. وكان والده مولعاً بالتاريخ القديم، وقد نشأه على حب قصص هومر عن حصان طروادة، وتجوال أوديسيوس، “ولشد ما كان يحزنني أن أسمع منه أن طروادة قد دمرت عن آخرها تدميرا تاما، وأنها محيت من الوجود دون أن تخلف وراءها أثرا يدل عليها”. ولما بلغ هنريخ شليمان الثامنة من عمره وفكر في الأمر، أعلن أنه سيهب حياته للكشف عن المدينة المفقودة؛ وفي العاشرة من عمره عرض على أبيه قصة لاتينية عن حرب طروادة.

وفي عام 1836 غادر المدرسة بعد أن حصل فيها علما أرقى، واشتغل صبياً عند بدال، وفي عام 1841 خرج من همبرج خادماً على ظهر سفينة تجارية مسافرة إلى أمريكا الجنوبية، وبعد اثني عشر يوماً من مغادرة السفينة الميناء غرقت، وظل بحارتها تسع ساعات في قارب صغير تتقاذفهم الأمواج حتى ألقت بهم على سواحل هولندة. واشتغل هنريخ كاتبا، وكان يكسب من عمله مائة وخمسين ريالا أمريكيا في العام، ينفق نصفها في شراء الكتب ويعيش على نصفها الآخر وعلى أحلامه.

وأثمر ذكاؤه وجده ثمرتهما الطبيعية؛ فلما أن بلغ الخامسة والعشرين كان تاجراً له مصالح مالية في ثلاث قارات؛ ولما بلغ السادسة والثلاثين أحس بأنه قد حصل من المال كفايته فاعتزل التجارة ووهب وقته كله لعلم الآثار. “لقد كنت وأنا في غمرة الأعمال التجارية دائم التفكير في طروادة أو فيما قطعته لوالدي من عهد على أن أكشف عن آثارها” .

وقد اعتاد في أثناء اشتغاله بالتجارة أن يتعلم لغة كل بلد يتجر معه، وأن يكتب بهذه اللغة ما يتصل بأعماله في مفكرته اليومية. وبهذه الطريقة تعلم اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والهولندية، والأسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، والروسية، والسويدية، والبولندية، والعربية. ثم ذهب إلى بلاد اليونان ودرس فيها لغة الكلام الحية، وسرعان ما أصبح في مقدوره أن يقرأ اليونانية القديمة والحديثة بنفس السهولة التي يقرأ بها الألمانية.

فلما تم له ذلك أعلن: “إني لا أستطيع أن أعيش بعد الآن في غير أرض اليونان القديمة”. ولما أبت زوجته الروسية أن تغادر روسيا أعلن في الصحف رغبته في الزواج بيونانية، ووصف بغاية الدقة كل ما يطلبه في هذه الزوجة، ثم اختار في السابعة والأربعين من عمره عروساً في التاسعة عشرة من بين الصور الشمسية التي أرسلت إليه.

ولم يكد يرى صاحبة الصورة حتى تزوجها من فوره، وتزوجها بطريقة الشراء القديمة دون أن يعني بمعرفة حقيقة أمرها، وطلب إليه أبواها ثمناً يتناسب مع ما يعرفان من ثرائه. ولما ولدت له زوجته طفلين، لم يرض بأن يعمدهما إلا مكرهاً، ولكنه كان في أثناء الاحتفال يضع نسخة من الإلياذة فوق رأسيهما ويقرأ منها مائة بيت بصوت عال. وسمى هؤلاء الأبناء أندروماك، وأجممنون. وسمي خادميه تلامون، وبلوبس، وأطلق على بيته في أثينة اسم بلروفون. لقد كان شليمان شيخاً افتتن بهومر إلى حد الجنون”.

طراودة..

ويكمل الكتاب: “وفي عام 1870 ذهب إلى الأرض المحيطة بطروادة – وهي الطرف الشمالي الغربي من آسيا الصغرى – وأصر رغم جميع العلماء في ذلك الوقت على أن طروادة بريام مدفونة تحت التل المسمى حصار لك. واستطاع بعد مفاوضات دامت عاما كاملا أن يحصل من الحكومة العثمانية على إذن بالحفر في هذا الموقع، واستأجر ثمانين عاملاً وبدأ العمل. وكانت زوجته، التي تحبه لما يتصف به من شذوذ ونزوات، تشترك معه في كدحه في الأرض من مطلع الشمس إلى مغيبها. وظلت العواصف الثلجية تهب من الشمال طوال الشتاء وتقذف الثرى في وجهيهما، وكانت الرياح تندفع بقوة من ثغرات كوخهما الضعيف فلا يستطيعان أن يحتفظا فيه بمصباح مضيء أثناء الليل. “ولم يكن لدينا ما يدفئنا إلا تحمسنا لعملنا العظيم ألا وهو كشف طروادة”.

ومر عام دون أن تثمر جهودهما ثمرة ما. ثم أخذت فأس أحد العمال تكشف ضربة في إثر ضربة عن وعاء نحاسي كبير، ولما فتح هذا الوعاء تكشف عن كنز مدهش ثمين مكون من تسعة آلاف تحفة مختلفة من الفضة والذهب. وكان شليمان ماكرا فأخفى الكنز في لفاعة زوجته، وصرف العمال على غير انتظار منهم لكي يستريحوا، وأسرع إلى كوخه، وأغلق عليه الباب، وبسط الكنز الثمين أمامه على المنضدة، ووصل ما بين كل قطعة منه وبين فقرة في شعر هومر، وحلى رأس زوجته بجوهرة قديمة، وأرسل إلى أصدقائه في أوربا يبلغهم أنه كشف عن “كنز بريام”. لكن أحداً منهم لم يصدقه، واتهمه بعض النقاد بأنه وضع بنفسه الأشياء التي كشفها في المكان الذي استخرجها منه، ورفع الباب العالي في الوقت نفسه قضية عليه يتهمه بالاستيلاء على الذهب من أرض تركية.

لكن بعض العلماء أمثال فرشاو، ودوربفلد وبرنوف هرعوا إلى موضع الحفر، وحققوا أقوال شليمان، وواصلوا العمل معه حتى كشفوا عن طروادة مدفونة بعد طروادة؛ ولم تبق المشكلة القائمة بعدئذ هل كانت هناك طروادة أو لم تكن، بل أصبحت محصورة في أي الطروادات التسع التي كشفت هي التي تطلق عليها الإلياذة اسم إليوس”.

حقيقة أجممنون..

وعن البحث عن أجممنون يواصل الكتاب: “وفي عام 1876 اعتزم شليمان أن يحقق ملحمة هومر من ناحية أخرى – وهي أن يثبت أن أجممنون كان هو أيضا شخصا حقيقيا. واسترشد في عمله بوصف بوسيناس القديم لبلاد اليونان ، فاحتفر أربعاً وثلاثين فجوة في ميسيني الواقعة في شرقي البلوبونيز. وقطع عليه الموظفون الأتراك عمله بأن طالبوه بنصف الكنوز التي كشفها في طروادة؛ ولم يشأ هو أن يترك “كنز بريام” في تركيا مختفياً عن الأنظار، فأرسله سرا إلى متحف الدولة في برلين، وأدى للباب العالي خمسة أمثال ما طلبه إليه من تعويض، وواصل أعمال الحفر في ميسيني. وكان النجاح في هذه المرة أيضا حليفه، ولما أن أبصر عماله يحملون إليه هياكل بشرية، وفخارا، وجواهر، وأقنعة ذهبية، أبرق إلى ملك اليونان يقول إنه كشف قبري أتريوس وأجمنون.

وفي عام 1884 انتقل إلى تيرينز Tiryns واسترشد في عمله هنالك أيضاً ببوسنياس، وكشف عن القصر العظيم وعن الأسوار الضخمة التي وصفها هومر.

ولسنا مبالغين إذا قلنا إنه قلما خدم أحد علم الآثار كما خدمه شليمان. لقد كان هذا الرجل متصفا بعيوب فضائله، ذلك أن حماسته كانت تدفعه إلى العجلة والتهور في عمله، فأدى ذلك به إلى إتلاف كثير من الأشياء التي عثر عليها أو خلطها بعضها ببعض لكي يحقق بسرعة الهدف الذي كان يعمل لتحقيقه. يضاف إلى هذا أن الملحمتين اللتين كانتا تهديانه في عمله قد أضلتاه، فحسب أنه كشف عن كنز بريام في طروادة، وعن قبر أجممنون في ميسيني.

وارتاب العلماء في أنحاء العالم في تقاريره وظلت متاحف إنجلترا، وروسيا، وفرنسا زمناً طويلاً لا تصدق أن ما كشفه آثار قديمة بحق. وكان في هذه الأثناء يعزي نفسه بما ناله من مكانة عظمى في عينه هو، ويواصل الحفر بشجاعة حتى أقعده المرض. وتحير في آخر أيامه هل يصلي إلى إله المسيحيين أو إلى زيوس إله اليونان الأقدمين؛ وكتب إلى ابنه يقول: “إلى أجممنون شليمان أحب الأبناء أرسل تحياتي، وإني ليسرني أنك ستدرس بلوتارخ، وأنك فرغت من زنوفون. وإني لأدعو أبانا زيوس وبلاس أثينة أن يجزياك من الصحة والسعادة ما يعادل جهودك مائة مرة” وتوفي عام 1890 بعد أن أنهكه الكدح في الحر والبرد، وقاسى ما قاسى من عداوة العلماء، ومن حمى أحلامه التي لم تفارقه في يوم من الأيام”.

حضارة إيجة..

وعن حضارة أقدم يحكي الكتاب: “لقد كشف شليمان كما كشف كولمبس  عن عالم أشد غرابة من العالم الذي كان يبحث عنه، فلقد كانت هذه الجواهر أقدم بمئات السنين من بريام وهكيبا ولم تكن تلك القبور قبور أتريدا، بل كانت أطلال حضارة إيجبة قامت في أرض اليونان الأصلية، قديمة قدم العصر المينوي في كريت. ولقد حقق شليمان، دون أن يعرف، بيت هوراس الذائع الصيت “لقد عاش قبل أجممنون كثيرون من الرجال البواسل” .

وكلما توسع دوريفلد، وملر، وتسونتاس، واستماتاكس، وولدشتين، وويس في أعمال الحفر في أرض البلويونيز، وواصل غيرهم الحفر في أتكا وفي جزائر عوبيه، وبؤوتيا ، وفوسيس، وفي تساليا، تكشفت أرض اليونان عن بقايا ثقافة قامت فيها في أزمنة ما قبل التاريخ.

وفي هذه الثقافة ارتقى الناس أيضا من الهمجية إلى الحضارة بانتقالهم من حياة الصيد البدوية إلى حياة الاستقرار والأعمال الزراعية، وباستبدال النحاس والبرنز بالحجارة، وبما يسرته لهم الكتابة والتجارة من وسائل التقدم. إن الحضارة على الدوام أقدم مما نتصور، وتحت كل شبر من الأرض نطأه بأقدامنا عظام رجال ونساء عملوا وأحبوا كما نعمل نحن ونحب، وكتبوا الأغاني وصنعوا الجميل من الأشياء؛ ولكن أسماءهم وحياتهم نفسها قد ضاعت على مر الزمان الذي لا يحفل قط بالرجال والنساء”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة