قبل ميكافيلي كان فقه السياسة يتكئ على عكّازة أخلاقيّة، فلا يستطيع أمير وحاكم أو حتى بهلوان أن يغضّ الطرف عن الحكمة والفضيلة الأفلاطونية، ولو من باب التستر بذلك. إذ أن الفساد والدسائس وألوان الرذيلة تملأ دهاليز قصور السلطة. الى أن جاء ميكافيلي أو نيقولا الشيطان كما وصفه وليم شكسبير في أحد فصول مسرحياته. ميكافيلي الذي سجل نصائحه السياسية فيكتاب الأمير لم يفضح ما تتستر عليه الدولة وإنما وضع لذلك السلوك الغير أخلاقي مبررات بحكم لزومه في تحقيق الأهداف وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. حتى أن ميكافيلي أسرف بذلك الى حد اعتبار الأخلاق منقصة في السياسة. ومنذ الانحطاط الذي شرعته الميكافيللية للسياسيين حدث ما يسمى بفصل الدين عن الدولة.باعتبار ارتكاز الدين على منظومة أخلاقيّة تتناقض مع الممارسات الميكافيللية.
كما أن أفكار ميكافيلي السياسية تجاوزت حدود الممارسة الفردية لتعبر عن طبيعتها في عقيدة تشتمل على جملة أفكار شاذة عن الفطرة الإنسانية ومنطق الأشياء، هذا ما حدث مع النازية على سبيل المثال لا الحصر. فالخطر في هذه الحالة لا يقف عند حدود الأفكار التي تفرض حالتها ظروف معينة تنتهي مع هلاك المجتمعاتأو سقوطها بسبب هذه الأفكار الشاذة واستهتارها بالقيم الانسانية.ان مثل هذا الخطر يستشري كالوباء الذي ينشط متى وجد البيئة المناسبة لانتشاره خاصة بين الاوساط الجاهلة بالحياة والتي لا تُطيق التعاطي مع متطلبات التقدم الحضاري والمدمنة على تحجرها الكهنوتي الوثني. وحتى لو قبلنا منطق الميكافيللية باعتبار الاخلاق منقصة في السياسة، فهذا المنطق سيمنح مقدرة عالية من الفسادفي السياسة وعلم الاجتماع لمستوى لا يوجد رقيب وازع في ذات البشرية ولا يحد من انفلات عقال المجتمعات. لكن أفكار ميكافيليالسياسية كانت وماتزال تشبه العاصفة، تلك العاصفة فعلت فعلها بتجريد الأشجار من أوراقها وهذبت بعض السيقان أو اقتلعت ما لا يصمد أمام حُكم نواميس الحضارة.
بالتالي فإن أفكار ميكافيلي نمت كما تنمو الأجنّة في الأرحام،والحوادث السياسية ما هي إلا حالة ولادة للمعالم والظواهرالجديدة. أما الأسباب فهي النواميس التي تحكم الوجود الطبيعي والحياة بما فيها الحالة الاجتماعية. يكمن أهم قصور العقل البشري في إدراك ذاته أولا، ثمّ فهم القوانين التي تفوق إمكانية التحايل عليها، تلك القوانين التي يعبّر عنها القرآن بالسُنّة ويفسرها الفلاسفة كما يحلو لهم ضمن أسرار الطبيعة، مع هذا فالبعض يعبّر عن عجزه فيلجأ لاعتبارات الصدفة أو يخدع عقله بما يسمى المؤامرة. ولنا أن نشير الى حالات الدهشة والاستغراب والتعجّب فهذه غالبا ما تنتاب الغافل ومن يدع حسابات العقل على الغارب ليستقبل الأحداث بروح التسليم للأقدار ومن ثمّ يبني على نتائجها، وهذا هو الفرق بين الأمّي وبين من يقرأ ويكتب وفقا لأبجديّة لغة السياسة.
إذن هي السياسة وتحديدا ممارسات ميكافيلي، تلك الممارسة التي لا تنفك عن التلاعب في مقدرات الأمم ولا تنفكّ عن التحايل وخلق جميع المشاكل. ربما لأن الصراع مكتوب على البشريّة بمنطق جدل الحياة والديمومة. أمّا التاريخ فليس له شأن أكثر من تدوين الوقائع ليترك لنا بصمات آثار العظماء خصوصا الملوك منهم. هنا نقف على حافة وجودنا لننظر الى الأمام فنترك ما نعجز عن استيعابه لنسجّل صفحتنا الحضاريّة بطريقة شاذة عن المألوف الذي أتخمنا بالأساطير وسحر صياغة الأكذوبة. في زماننا تبدلت قوانين الأحلام، المقدّس فقد معيار وزنه فلم يعد أكثر من عامل كيل سياسي لا يختلف عن الصاع الذي دسّه يوسف النبي في رحل أخيه ليبرر احتجازه، أمّا قصة الخداع فهي لم تنتهي بعد وستستمر.
أننا أمام مرآة طبيعيّة تشبه من يقف على حافة بحيرة تسكن في ثناياها مياه صافية لكي يرى واقع صورته الذهنيّة، كل ما يجري في حياتنا صراع قوى تعبّر عن نفسها بأفكار، بعضها يترسّخ فيكون دينيّا يلتحف بألوان من ثياب طقوس وتعاليم يستر فيها عوراته عن بصيرة الوعي، وبعض الأفكار تمارس اللعب على أوتار غرائزنا ووحشيّة شهواتنا الحيوانية. والأخطر هو ما يستهدف وجودنا الثقافي وتاريخنا، أما أنواع الأسلحة المستخدمة في هذه الحروب فتجسدها وسائل الإعلام.
وبما أن تضاريس الوعي تشكل أعقد معالم جغرافيا الواقع البشري، عندما تتحول الحدود الى معتقدات ويتم حشد الرأي العام أو تجنيده، فالحروب ستأخذ طابعا شموليّا أخطر بكثير من تأثير أسلحة الدمار الفتاكة، إذن هذا الصراع لا يمكن إدارته بالإفراط في استخدام القوة العسكريّة ومكر السياسة. والأدهى من ذلك أن تنقلب معادلة الحرب ليكون الغالب فيه مغلوبا إذا فقد صوابه.
إذا حاولنا تفسير الصراع سيبرز البترول كأهم الدوافع ومن بعده تأتي الأهميّة الجغرافية لمنطقة تعتبر قلب العالم ومهد حضاراته الإنسانية ومنطلق كل الأديان التي تدين بها غالبية البشر، وإذا حاولنا القفز لما بعد التقسيم الاستعماري مع بدايات القرنالعشرين. هنا سنفهم أسباب كل جوانب عرض المشهد التراجيدي لمسرحية الصراع الدولي بكل تجليات فصوله المأساوية.
وفقا لما تقدم، تعتبر السياسة من بعض ألوان السحر الذي لا يمكن تركيب طلاسمه إلا بإحداث صدمة أو شيء من الخوف. ولكي يتم تمرير السحر فلابد من أكذوبة يتغلف فيها أو يختبئ خلف تجسيدها على أرض الواقع. هكذا تنطلي علينا الأوهام وتبلغ قلوبنا الحناجر ونحن نعايش أحداثا تتحكم في أذهاننا ومشاعرنا، رغم أن الجدار الفاصل بين حقائقها وبين عقولنا أكثر صلابة من الإسمنت.ما نحتاجه ليس صدمة تعيد لنا الوعي، فقد توالت علينا الصدمات ولم نصحو من مرقدنا، بسب بالحروب والأوبئة.