هل يمكن تحسين بيئة الاستثمار في العراق من خلال التجارب الدولية الناجحة؟
يواجه العراق تحديات اقتصادية كبيرة تعيق جذب الاستثمار الخارجي وتطوير الاقتصاد المحلي من أبرزها الفساد وغسيل الأموال من خلال مشاريع الاستثمار العشوائية الى هيمنة الميليشيات والمحاصصة في كافة المواقع الحكومية لتشمل العسكرية والدبلوماسية منها. ومع ذلك، يمكن للعراق استلهام التجارب الدولية الناجحة في مجالات الإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد لتعزيز بيئة استثمارية أكثر استدامة وتحقيق التنمية الاقتصادية بعيداً عن الاعتماد المفرط على النفط مع التركيز على القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة والطاقة المتجددة. في هذا المقال نناقش بعض التجارب التي يمكن للعراق الاستفادة منها لتحقيق تحول اقتصادي إيجابي ومستدام.
1. إعادة توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية
تعتمد التجارب الناجحة في الاستثمار على توجيه رأس المال نحو المشاريع ذات القيمة المضافة التي تسهم في خلق فرص العمل وتحسين الإنتاجية الاقتصادية. العراق يتمتع بمساحات زراعية شاسعة ومصادر طبيعية يمكن استثمارها مما يتيح له فرصاً واعدة في قطاعي الزراعة والصناعة. من الأمثلة العالمية تأتي التجربة الهولندية في مجال الزراعة حيث قامت بتطوير تقنيات زراعية حديثة تعتمد على الاستدامة والاكتفاء الذاتي مما جعلها واحدة من أكبر مصدري المنتجات الزراعية عالميا”. يمكن للعراق الاستفادة من مثل هذه التجربة بتبني تقنيات زراعية مبتكرة وتنظيم الأراضي الصالحة للزراعة فضلاً عن تشجيع الصناعات التحويلية المرتبطة بالزراعة.
في قطاع الطاقة، تتجه العديد من الدول نحو الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة نظراً لأهمية الاستدامة البيئية. العراق يمتلك إمكانيات كبيرة للاستثمار في الطاقة الشمسية. تجربة الإمارات العربية المتحدة تقدم نموذجاً رائداً في هذا المجال حيث قامت بإنشاء مشاريع عملاقة للطاقة الشمسية مما ساعدها على تلبية جزء كبير من احتياجاتها من الطاقة بشكل مستدام. يمكن للعراق اتباع هذا النهج لإنتاج طاقة نظيفة وتعويض النقص في إنتاج الطاقة الكهربائية المتلازم منذ عقود.
2. إصلاح النظام المالي والمصرفي لدعم المشاريع التنموية
لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة لا بد من إصلاح النظام المالي والمصرفي وانقاذه من الحيتان ومافيات غسيل الأموال. أن توفير قروض ميسرة ودعم فني للمشاريع الصغيرة والمتوسطة يمكن أن يشجع على تأسيس مشاريع جديدة ويدعم الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية. التجربة الصينية تقدم مثالًا على كيفية تطوير شبكة قوية من المصارف التي تدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال صناديق استثمارية توفر رؤوس الأموال اللازمة للمشاريع الناشئة. يمكن للعراق إنشاء صناديق استثمارية مشجعة للابتكار وبدعم من الدولة مما يسهم في زيادة الإنتاج المحلي وتوفير فرص عمل.
3. تحسين الشفافية وتقوية القوانين لمكافحة الفساد
يشكل الفساد تحديا” كبيرا” للاستثمار في العراق إذ يقوض ثقة المستثمرين المحليين والأجانب ويزيد من كلفة المشاريع بشكل خيالي.
أن تجربة سنغافورة تعتبر نموذجًا عالميا” ناجحا” في محاربة الفساد. اعتمدت سنغافورة على قوانين صارمة ومؤسسات رقابية مستقلة تتمتع بصلاحيات واسعة ما ساهم في بناء بيئة شفافة وصديقة للاستثمار. يمكن للعراق تبني مثل هذه الإجراءات من خلال الدعم الكامل الى ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة وتأسيس جهاز مركزي للمناقصات الحكومية مع التأكيد على الشفافية في إدارة الاستثمارات بحيث يصبح كل عقد استثماري متاحا” للمراجعة العامة مما يزيد من ثقة المستثمرين.
4. الحد من نفوذ الميليشيات وبناء الأمن والاستقرار
الأمن والاستقرار هما الركيزتان الأساسيتان لجذب الاستثمارات. المال السياسي يعول على سيطرة الميليشيات على المواقع الحيوية مما يعوق قدرة الدولة على تنفيذ القانون وتحقيق العدالة. يُعد النموذج الرواندي تجربة ملهمة في هذا الصدد فقد تمكنت رواندا من إحلال الأمن والاستقرار بعد سنوات من الصراعات العرقية بفضل الإرادة السياسية القوية لإعادة بناء الدولة وتعزيز المؤسسات القانونية. إذا تمكن العراق من فرض سيادة الدولة ونزع سلاح الميليشيات وإعادة تأهيل أفرادها فسيوفر بيئة آمنة تشجع المستثمرين على دخول السوق العراقي بثقة.
5. تشجيع التعليم والتدريب المهني لدعم العمالة المحلية
تشكل الكفاءات البشرية عماد الاقتصاد الناجح ويمكن للعراق تحسين القوى العاملة من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب المهني. تُعد التجربة الألمانية نموذجا” ناجحا” في هذا المجال حيث طورت ألمانيا نظام التدريب المهني المزدوج الذي يدمج بين التدريب في الشركات والدراسة النظرية في المدارس المهنية مما يضمن تخريج عمالة ذات كفاءة عالية تلبي احتياجات السوق. يمكن للعراق تبني مثل هذا النظام وتطوير المناهج في البرامج التعليمية والجامعية لتواكب الاحتياجات الاقتصادية الحالية والمستقبلية وهذا سيسهم في تقليل معدلات البطالة ورفع كفاءة القوى العاملة.
6. الاستفادة من تجارب دولية رائدة
تجارب مثل جورجيا وسنغافورة والإمارات تظهر أن التحول الاقتصادي يمكن تحقيقه من خلال إصلاحات اقتصادية حقيقية مدروسة وقوانين شفافة. استفادت هذه الدول من تجارب دولية أخرى ونفذت سياسات اقتصادية مرنة. يمكن للعراق الاستفادة من هذه التجارب بتبني إصلاحات اقتصادية موجهة نحو الاستثمار خاصة في القطاعات غير النفطية.
7. إنشاء مناطق اقتصادية خاصة وتقديم حوافز للقطاعات الاستراتيجية
تشكل المناطق الاقتصادية الخاصة أدوات فعّالة لتحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية. التجربة الصينية في المناطق الاقتصادية الخاصة، مثل شينزن، أسهمت في جذب الاستثمارات الأجنبية بفضل الحوافز الضريبية والإعفاءات الجمركية. يمكن للعراق إنشاء مناطق اقتصادية مشابهة تشجع المستثمرين، خاصة في الصناعات التحويلية والزراعة من خلال تقديم إعفاءات ضريبية وحوافز خاصة للشركات المستثمرة في هذه القطاعات.
خاتمة
بتبني الإجراءات المستمدة من تجارب الدول الناجحة يمكن للعراق تحسين وحماية بيئة الاستثمار الحقيقي لتجاوز تحديات المال السياسي وأفة توزيع الغنائم بحجة ضرورات المحاصصة. إن تحقيق هذا التحول يحتاج إلى إرادة سياسية قوية في رئاسة مجلس الوزراء وتعاون دولي في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. بذلك يمكن للعراق أن يتحول من اقتصاد يعتمد على القطاعات الاستهلاكية إلى اقتصاد منتج ومستدام مما يسهم في خلق فرص عمل جديدة وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام.