خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن حضارة كريت، عن العمارة وجمالها، وعن ظن بعض العلماء أن الحضارة الكريتية من أصول مصرية. وذلك في الحلقة الثالثة والسبعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
العمارة..
وعن فن العمارة في ظل الحضارة الكريتية: “ولقد كان عصر الحضارة الكريتية من أزهى العصور في تاريخ العمارة. وجدير بنا أن نذكر أن الذين شادوا قصر كنوسس كانت تنقصهم وفرة مواد البناء والرجال؛ فالمعادن قليلة في كريت والرخام لا وجود له فيها على الإطلاق، ومن أجل هذا تراهم يبنون بحجر الجير والجبس، ويستخدمون الخشب في إنشاء الأروقة المقامة على العمد والسقف وجميع الأعمدة التي فوق الطابق الأرضي. وهم يقطعون الكتل الحجرية قطعا محددا دقيقا يستطيعون به أن يضعوها في أماكنها من غير ملاط.
وبهذه الأدوات شادوا حول فناء أوسط سعته عشرون ألف قدم مربعة ثلاثة أطباق من البناء أو أربعة يرقى إليها بدرجات حجرية واسعة، وتحتوي على ما لا حصر له من الحجرات مراكز للحراسة، وحوانيت، ومعاصر للخمر، ومخازن، ومكاتب لتصريف شؤون الدولة، ومساكن للخدم، وحجرات للانتظار، وأخرى للاستقبال، ومخادع، ومعبد، وجب، وحجرة عرش، “وبهو للبلطة المزدوجة”.
وبالقرب من هذه كلها دار للتمثيل، وقصر صغير ذو حديقة، ومقبرة. وفي الطابق الأسفل من القصر أقاموا عمدا مربعة ضخمة من الحجارة، وأما في الأطباق العليا فقد أقاموها من خشب السرو. والغريب في هذه العمد أنها رفيعة من أسفلها ثم تتدرج في السمك إلى أعاليها، لتحمل السقف على تيجان ملساء مستديرة أو لتلقي بظلالها على جانبيها. وفي داخل هذا القصر وضع بناؤه مقعدا حجريا، مستندا في مكان أمين إلى جدار جميل النقش، وهذا المقعد الحجري منحوت نحتا بسيطا ولكنه يشهد بمهارة من نحته وحذقه؛ ويسمى الحفارون المستكشفون هذا المقعد الحجري عرش مينوس، وفي وسع كل سائح جوال أن يجلس عليه في تواضع واحتشام ويتصور نفسه برهة من الزمان مسيطرا على هذا المقعد الذي يزيد على بضعة أشبار. وأكبر الظن أن هذا القصر الفسيح هو قصر التيه الشهير لابيرنث أو هيكل البلطة المزدوجة لبريس الذي يغزوه الأقدمون إلى ديدلوس والذي خلع اسمه فيما بعد على كل شيء كثير التعاريج سواء كان حجرات أو ألفاظا أو آذانا”.
نظام صرف راق..
وعن تطورهم في عمل أنظمة الصرف يواصل الكتاب: “وكأن الذين شادوا مدينة كنوسس قد أرادوا أن يدخلوا السرور على النفعيين أهل هذه الأيام الذين يهتمون بأنابيب المياه أكثر من اهتمامهم بالشعر، فجهزوا القصر بنظام لصرف مائه وفضلاته أرقى من كل نظام مماثل له في التاريخ القديم. فقد كانوا يجمعون في قنوات حجرية الماء الذي يسيل على سفوح التلال أو ينزل من السماء ويسيرونه في أسطوانات مجوفة إلى حمامات ومراحيض، ثم ينقلون الفضلات في أنابيب من الصلصال المحروق مصنوعة على أحسن طراز كل قسم منها طول قطره ست بوصات، وطوله ثلاثون بوصة، مزود بشرك لحجز الرواسب، ومنته بطرف رفيع يدخل به في القسم الذي يليه، ويرتبط به ربطا محكما برباط من الأسمنت. وربما كان فيها جهاز يمد القصر الملكي بالماء الساخن” .
التزيين..
وعن تزيين المباني يضيف الكتاب: “وقد زين الفنانون في كنوسس داخل القصر على سعته بأرق وسائل التزيين. فجعلوا بعض الحجرات بالزهريات والتماثيل الصغيرة، وبعضها الآخر بالصور الملونة أو النقوش البارزة، وبعضها بالقوارير الحجرية أو الآنية الضخمة، وبعضها بتحف من العاج أو الخزف أو البرونز، وأقاموا حول أحد الجدران طنفاً من حجر الجير عليه ألواح ذات ثلاثة حزوز متساوية الأبعاد، وأنصاف ورود، ونقشوا حول جدار عددا من اللوالب على سطح طلي ليمثل الرخام.
وحول جدار ثالث نقشوا صراعا بين رجل وثور، تجلت فيه جميع دقائق الصراع بغاية الوضوح، ونشر المصور المينوي في جميع الأبهاء والحجرات كل ما احتواه فنه المبهج من أمجاد، فصور لنا في إحدى حجرات الاستقبال سيدات في ثياب زرقاء فاجأهن وهن يثرثرن، وأبرز معارفهن، وأذرعهن الجميلة، وصدورهن، وأثداءهن الدفينة؛ وصور على جدار غيره حقولا من الأزورد والنيلوفر وغصون الزيتون، وعلى جدار آخر سيدات في دار التمثيل، ودلافين تسبح من غير حركة في ماء البحر.
وخير من هذه الرسوم الصورة الذائعة الصيت، صورة الساقي المنتصب القامة، والقوي البنية، يحمل دهانا ثمينا في وعاء أزرق رفيع، وقد جملت وجهه تربيته ويد الفنان، وتدلى شعره في غديرة سميكة على كتفيه الأسمرين وتلألأت الحلي في أذنيه، وحول عنقه وذراعيه ومنطقته، وزين ثوبه الغالي بصور جميلة لبعض الأزهار. وما من شك في أن هذا الساقي ليس من الرقيق، بل هو شاب من أبناء الأشراف يفخر بما نال من رشف خدمة الملك. وجملة القول أن ليس في مقدور حضارة ما أن تتطلب أو تخلق مثل هذا الترف وهذه الزينة إلا إذا كان قد طال عهدها بالنظام، والثراء، والفراغ، وسلامة الذوق”.
أصل الحضارة الكريتية..
وعن أصل الحضارة الكريتية يكمل الكتاب: “إذا ما رجعنا إلى ما قبل هذه الحضارة الباهرة نبحث عن أصلها، وجدنا أنفسنا نتقلب بين آسيا ومصر. فالكريتيون يبدون من جهة شديدي الصلة بالشعوب الهندوربية التي تسكن آسيا الصغرى؛ ففي هذه البلاد كما في كريت تستخدم ألواح الصلصال للكتابة، وكان فيها الشاقل وحدة الموازين. وفي كاريا من أعمالها كان يعبد زيوس لبرنديوس أي زيوس ذو البلطة المزدوجة، وفيها كان الناس يعبدون الأعمدة والثور واليمامة، وفي فريجيا كانت سيبيل العظيمة الشبيهة كل الشبه بالأم الإلهة في كريت حتى لقد أطلق اليونان على هذه الأم اسم ريا سيبيل وعدوا الاثنتين إلهة واحدة!.
ومع هذا كله فإن الشواهد الدالة على أثر مصر في كريت كثيرة في كل عصر من عصور تاريخها. وقد بلغ تشابه الثقافتين في أول عهديهما حدا جعل بعض العلماء يظنون أن موجة من الهجرة قد حدثت من مصر إلى كريت أيام الاضطراب الذي وقع في عهد مينا. فالآنية الحجرية التي كشفت في مكلوس والأسلحة النحاسية الباقية من الطور الأول من العصر المينوي القديم، تشبه ما وجد من نوعها في مقابر الأسر المصرية الأولى شبها يثير العجب.
والبلطة المزدوجة تظهر على شكل تميمة في مصر بل يظهر فيها كذلك “كاهن البلطة المزدوجة”. والموازين والمكاييل الكريتية مصرية في شكلها وإن كانت آسيوية في قيمتها؛ والأساليب المستخدمة في النقش على الحجارة الكريمة، وفي فن الخزف والتصوير تتشابه في البلدين تشابهاً جعل اسينجلر يعتقد أن الحضارة الكريتية ليست إلا فرعا من الحضارة المصرية.
ولكننا لن ننهج اسينجلر لأننا لا يجوز لنا أن نتغاضى عن فردية الأجزاء في كلتا الحضارتين، فالصفة الكريتية واضحة في حضارتها كل الوضوح مميزة أشد التمييز، ولسنا نجد في العالم القديم شيئا آخر امتاز بالرقة في دقائق الفن وبالرشاقة المركزة في الحياة والفن”.
خليط معقد..
ويتابع الكتاب: “ولنسلم جدلا بأن الثقافة الكريتية آسيوية في نشأتها العنصرية، مصرية في كثير من فنونها، غير أنها في جوهرها وفي كليتها تبقى حضارة فذة، وربما كانت تنتمي إلى خليط معقد من الحضارات شأن جميع البلاد الواقعة في شرق البحر المتوسط، حيث ورثت كل أمة فنونا وعقائد وأساليب متماثلة متقاربة نشأت من ثقافة تنتمي إلى العصر الحجري الحديث كانت واسعة الانتشار في تلك البلاد وقامت عليها حضارتها.
ومن هذه الحضارة المشتركة أخذت كريت في شبابها وأمدتها بقسط بعد نضجها. وبفضل حكمها ساد النظام في الجزائر المجاورة لها ودخل تجارها في كل ثغر من ثغورها، ثم استقرت مصنوعاتها وفنونها في جزائر سكلديس وعمت قبرص، ووصلت إلى كاريا وفلسطين، ثم سارت شمالا إلى آسيا الصغرى والجزائر المجاورة لها حتى بلغت طروادة واجتازت في ناحية الغرب إيطاليا وصقلية إلى أسبانيا، وعمت بلاد اليونان حتى تساليا، وبقيت في تراث اليونان عن طريق ميسينس وتيرنز، وبذلك كانت كريت في تاريخ الحضارة الحلقة الأولى في سلسلة الحضارة الأوربية.”
الاضمحلال..
وعن أفول الحضارة يحكي الكتاب: “ولسنا نعرف أي طرق الاضمحلال الكثيرة هي الطريق التي سلكتها كريت في اضمحلالها، أو لعلها سلكت هذه الطرق الكثيرة كلها، فقد اختفى ما كانت تشتهر به من غابات السرو والأرز، وأضحى ثلثا الجزيرة اليوم صخورا حجرية صماء لا تستطيع الاحتفاظ بمياه الأمطار الشتوية. ولعل أهلها هي أيضا قد أسرفوا في تحديد النسل كما تسرف سائر الحضارات في عصور اضمحلالها، وتركوا الإكثار للعجزة والضعفاء.
ولعل ازدياد الثروة والترف وما أعقبه من انهماك في الملذات الجسمية قد أضعف ما في السكان من حيوية، وأضعف إرادتهم في أن يعيشوا ويدافعوا عن أنفسهم، ذلك أن الأمم تولد رواقية وتموت أبيقورية.
ولعل انهيار مصر بعد موت إخناتون قد أحدث اضطرابا في التجارة التي كانت قائمة بين مصر وكريت، وقلل من ثراء الملوك المينويين؛ وغير خاف أن كريت ليس فيها موارد داخلية واسعة، وأن رخاءها إنما يعتمد على التجارة وعلى الأسواق الخارجية لتصريف مصنوعاتها، ولذلك أصبحت كإنجلترا في الوقت الحاضر تعتمد اعتمادا شديد الخطورة على سيطرتها البحرية. وربما كانت الحروب الخارجية قد قضت على الكثيرين من شبانها الأقوياء، وتركت الجزيرة منقسمة مفككة لا تستطيع صد الغزاة الأجانب. وربما كانت الزلازل قد دكت قصورها، أو أن أهلها قد انتقموا لأنفسهم في ثورة عنيفة مما قاسوه من ظلم واستبداد قرونا طوالا.”