يقول المتنبي :
(( مالَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ أَنا أَهوى وَقَلبُكَ المَتبولُ
كُلَّما عادَ مَن بَعَثتُ إِلَيها غارَ مِنّي وَخانَ فيما يَقولُ)) .
الحسد وعي مؤلم أو بغيض لمزايا الآخرين, وتمني زوال النعمة عن المحسود , وردها إلى الحاسد , وهذا بحد ذاته مرض نفسي مقيت , ولا يجلب إلا الكره بين الناس , يقول الإمام الشافعي : (( كل العداوة قد ترجى مودتها , إلا عداوة من عاداك عن حسد )) , وقال الفقيه أبو الليث السمرقندي (( يصل الحاسد 5 عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود, أولها غم لا ينقطع , وثانيها مصيبة لا يؤجر عليها , وثالثها مذمة لا يُحمد عليها , ورابعها سخط الرب , وخامسها يُغْلَق عنه باب التوفيق )) .
يعيش الحُسّاد في بحر من الضياع والشتات , لا يهنأ لهم عيش , ولا يطيب لهم واقع , تتوالى عليهم الهموم والأحزان , قال ابن المقفع : ((الحسدُ خلقٌ دنيء , ومن دناءته أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب )) , والحُسّاد لا راحة لهم إلاّ بزوال خير أتى على من حولهم , في ميادين الدراسة وطلب العلم , أو في تجارة وطلب رزق في عمل , أو في مساحات الحياة الواسعة , قال ذو النون المصري : ((الحسدُ داءٌ لا يبرأُ , وحسبُ الحسود من الشر ما يلقى )) , ويحمل الحُسّاد أسوأ الأخلاق , والأنانية شعارهم ودثارهم , وقوت حياتهم , فإن ذلك مبلغ الشر وغاية السوء منهم , قال الإمام ابن القيم في كتابه القيم الروح : (( الحسد خلقُ نفسٍ ذميمة وضيعة ساقطة , ليس فيها حرصٌ على الخير , فلعجزها ومهانتها تحسدُ من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها , وتتمنى أن لو فاته كسبُها حتى يساويها في العدم )) .
قال الأصمعي : (( سمعتُ أعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد , حزن لازم , وتعس دائم , وعقل هائم , وحسرة لا تنقضي )) , فماذا عسى أن تنتظر من الحُسّاد وصدق القائل : فلا تَحسدَنَّ يوماً على فضل نعمةٍ فحَسبُكَ عاراً أن يُقالَ حسودُ , وصدق القائل : كل العداوة قد يرجى إزالتها إلاّ عداوة من عاداكَ من حسدِ , ألا بئس ما يصنعون , تتولد منهم العداوة والبغضاء والشحناء والقطيعة والجفاء , ويفرقون الجمع , ويستهلكون ما لديهم من طاقة , قال ابن المعتز (( الحسد داء الجسد)) , فلينتبه الحساد , فحسدهم يأكل حسناتهم ويضيّع ما حصدوا من خير طوال أعمارهم , وقد ذكر الأصمعي : (( قلتُ لأعرابي : ما أطول عمرك ؟ فقال : تركت الحسد فبقيت )) .
ابدع أبو الطيب ببيته : ((أزل حسد الحساد عني بكبتهم , فأنت الذي صيرتهم لي حسدا )),
أي أنت أنعمت عليّ النعم التي صرت بها محسودا , وظهر لي حساد يحسدونني ويقصدونني بسوء , فاكفني شرهم بأن تكبتهم وتخزيهم بالأعراض عنهم , ونهيهم عن ويسيئون القول فيّ , وفي قول أبي الجورية العبدي : (( فما زلت تعطيني وما لي حاسد , من الناس حتى صرت أرجى وأحسد )) , وقول ابو نؤاس : (( دعيني أكثر حاسديك برحلةٍ , إلى بلدٍ فيه الخصيب أمير )) .
بعتبرالحسدُ من أرذلِ خصالِ البشر, وأخسّها , وأوضعِها , فتخيَّل أي نفسٍ عند الحاسد , تلك التي ترضَى أن توصفَ بهذه الأوصاف الدُّونية , فيا لَحقارةِ الهم , ويا لتفاهةِ المهتم , ومن لؤم الحاسدِ , أنه موكل بالأدنى , فالأدني , والأقل فالأقل , ولا يعرف أنَّ حاسداً تحوَّلَ عن حسَّادة , أو تراجع عن حسده , وما عُلم عنه إلا زيادة بقعةِ الحسد مع تقادم الأيام , حتى توشكَ رقعةُ الحسد أن تملأَ بصرَ الحاسد , وتسدَّ عينَه القادحة شراراً , ونفسَه الفائضةَ ضرراً , لقد دعى ذلك معاوية بن أبي سفيان حكيم العرب ليقول : (( يمكنني أن أرضِيَ الناس كلهم , إلا حاسدَ نعمةٍ , فإنَّه لا يرضيه منها إلا زوالُها )) , ووقعَ أبو الطيب بجلاءٍ على المعنى ذاته , فقال: (( سوى وجعِ الحسَّادِ داوِ فإنَّه إذا حَلَّ في قلبٍ فليس يزولُ )) ,
فإن رمتَ مداواة عللك , فداوِ علةً غير وجعِ الحسَّاد ,فهو مرض لا يُرجى برؤه ,وهو إذا حلَّ في قلبٍ ما فليس يزولُ .
وقد لا يتورع الجاهل عن حسدِ ما يبكي منه العاقل , وخيرُ من صوَّر هذا المشهدَ المضحك المبكي أبو الطيب المتنبي في داليتِه التي أنشدَها وهو يُهمُّ بالفرارِ من مصر كافور: (( مَاذَا لَقِيتُ مِنَ الدُّنْيَا؟ وأَعْجَبُهُ أَنِّي بِمَا أَنَا بَاكٍ مِنهُ مَحْسُودُ )) , أي ان ما ألقاه من الدنيا فيه من العجائب ما لا ينقضِي , لكنَّ أعجبَ ما لقيته هو أنّي أُحسد على ما يبكيني , فهل ثمةَ جهلٌ مثل جهلِ حاسدٍ يحسدُ العاقلَ على أمرٍ بلغَ من منافرتِه له أنَّه يبكيه , وحسدُك على ما يبكيك أعجبُ العجب , والأمرُ فادحٌ فلا تغرنَّك ميمٌ تسبقُ صائبَ .