للمرّة الثانية، تجمّع عدد من المواطنين أو النواب أو الموظَّفين في النجف الأشرف أمام مكتب المرجع الأعلى السيّد السيستانيّ (دام ظلّه) في تظاهرات محدودة العدد، رافعين شعارات تندد بجهةٍ معيَّنةٍ، أو تطالب بحماية المال العامّ. ورغم تأكيدهم على احترامهم العميق للمرجعية، إلّا أنّ هناك عدّةَ ملاحظاتٍ تثيرُ القلق:
أوّلاً: استُخدم اسم ومكانة مكتب المرجع السيستاني كمنصَّةٍ لإيصال مطالبهم، وهذه الطريقة تمثـِّلُ خطراً كبيراً؛ فالمكاتب الدينية، وخصوصاً مكتب المرجع الأعلى، قد تتحوَّلُ إلى ساحةٍ للمنازعات والانتقادات والدعم العلني، ممَّا يفتح الباب لتكرار مثل هذه المواقف بطريقةٍ قد تثير النزاعات، وتعمّق الخلافات. فالجهاتُ المختلفة قد تجد نفسها يوماً تتظاهر أمام مكتب المرجع ضدَّ بعضها، ما قد يؤدّي إلى عواقبَ غير محمودة.
ثانياً: في ظلِّ هذا الوضع الأمني الحسَّاس، ومع تصاعد التحديات الأمنية واستهداف الكيان الصهيونيّ للمرجع السيستاني، تزداد المخاوف من استغلال هذه التجمّعات للتسلل وإحداث فوضى، أو اختراق مكتب المرجع السيستاني والمكاتب الدينية الأخرى.
ثالثاً: من المستغرب أنْ يشارك نوابٌ في تظاهراتٍ أمام مكتب المرجع السيستاني أو غيره، وهم جزءٌ من دولةٍ تتمتعُ بدستورٍ ومؤسساتٍ، فضلًا عن كونهم جزءا من مؤسسةٍ رقابيةٍ تمتلك من الأدوات ما يكفي لمعالجة قضايا الفساد عبر البرلمان والقضاء والمحاكم الاتحادية، دون الحاجة إلى وضع المرجعية في موقفٍ حرجٍ.
رابعاً: إنّ تكرار هذه الظاهرة قد يفتح الباب أمام آخرين للقيام بأفعالٍ مشابهةٍ في قلب النجف الأشرف، ممـّا قد يحوُّلُ مكتب السيد السيستاني إلى ساحةٍ لعرض الخلافات والشكاوى، وربَّما الصراعات السياسية، خصوصاً ونحن على أعتاب انتخاباتٍ قد تتخللها خلافاتٌ وتبايناتٌ طبيعيةٌ. فهل ستكون الطريقة لحلِّها عبر هذه الأساليب؟
خامساً: نظراً لقرب موعد الانتخابات، قد تُستغلّ مثل هذه الأفعال أو تُفسر على أنها جزءٌ من حملة انتخابية، ممـّا يعرضنا لمشهدٍ خطير يُنقل فيه الحراك الشعبي من الساحات إلى عتبة بيت المرجع، ويصبح اسم المرجعية أداةً في الحملات الانتخابية، سواء لصالح جهة أو ضدَّها.
سادساً: إنّ هذه التظاهراتِ تضعُ المرجعيةَ في موقفٍ حرجٍ حين تأتي مجموعةٌ سياسيةٌ أو جهة معيّنة لتندد بخصومها أمام مكتب المرجع، مطالبةً إيـّاه باتخاذ موقفٍ مّا. في حين أنّ المرجعية لا تمتلك أيّ صلاحيات دستورية أو قانونية لتنصيب جهة معينة، أو عزلها، أو محاكمتها، أو التدخّل في أيّ إجراءات إدارية أو قضائية؛ ممّا يفضي إلى إحراج المرجع، وتعطيل العملية السياسية، وإظهار المجتمع الشيعي أمام العالم بمظهر غيرِ موحّدٍ دون تحقيق نتائج عملية سوى هذا الإحراج. وقد أوضح المرجعُ مؤخَّراً في لقائه مع محمَّد الحسّان، ممثل الأمم المتحدة، أنّ الحلّ يكمن في أنّ تتولّى النخب معالجة القضايا، لا أنْ تُطرح أمام مكتب المرجع.
سابعاً: فتح باب هذه التظاهرات يشجّع مختلف الشرائح الاجتماعية – بما فيهم الخريجون الذين اعتادوا التظاهر في المنطقة الخضراء – أو أيّ فئة ترغب بالتظاهر، للقيام بذلك أمام مكتب المرجع.
ثامنًا: في هذا الوضع، تبرز مخاوف أمنية خطيرة؛ فلو استغلت جهةٌ مّا هذه التظاهرات لرفع شعارات ضدّ المرجعية أو اندسَّ بين المتظاهرين عناصر تحرّض على الفوضى، فإنّ تبعات التدخّل الأمني لتفريق المتظاهرين، وما قد ينجم عنه من اشتباكات أمام مكتب المرجع، قد تكون له انعكاسات سلبية لا تُحمد عقباها على الرأي العامّ.
تاسعاَ: من المعروف في العراق أنّ المرجعية أوقفت لقاءاتها مع الساسة، وأغلقت أبوابها، بل وامتنعت عن خطبة الجمعة منذ سنوات، وبات واضحا للجميع أنها لا تتدخَّل في الشؤون السياسية. فلماذا إذن يتظاهر البعض أمام مكتبها رغم علمهم بذلك؟ وكيف يُفهم هذا التصرف؟
عاشرًا: في ظلّ التهديدات الأخيرة من الكيان الصهيوني تجاه المرجعية، وما تلاها من إشارات أمنية جدية، نرى اختراقاً للهدوء الأمني المحيط بمكتب المرجعية بتظاهرات مفاجئة تتسم بعنصرين:
١. لم يسبق لشيعة العراق أنْ نقلوا الصراع السياسي إلى مكتب المرجعية، حتى في أحداث تشرين وما قبلها وما بعدها.
٢. تتزامن هذه التظاهرات مع التهديدات الأمنية مباشرة، وكأن مَنْ شارك فيها غير مدرك لهذه التهديدات الخطيرة.