22 ديسمبر، 2024 9:03 م

“دوستويفسكي” عملاق الأدب وزعيم الخاسرين

“دوستويفسكي” عملاق الأدب وزعيم الخاسرين

فيما يبدو أن الوحدة والفقر لعنة أصابت البشرية منذ قديم الأزل، وآثارها تمتد حتى الوقت الحاضر. وبالرغم من أن صدى تلك اللعنة هو تقريبًا أصل كل الشرور التي بُليت بها البشرية، لكنها على نقيض ذلك هي أيضًا سببًا مباشرًا لتفجير العديد من المواهب، ووكذلك الدافع الحيوي لبلوغ أقصى درجات التقدُّم والإبداع الفني والأدبي. وبالرغم من توق أي فرد لتحقيق السعادة والهناء وبلوغ أقصى مراحل النجاح والشجاعة، لكن يفضل البشر سماع وقراءة قصص التعساء، ولا يتناول الأدباء إلَّا تاريخ هؤلاء؛ فكما يقول الفيلسوف الإيطالي “أومبرتو إيكو” Umberto Eco(1932-2016) “الخاسرون كمن يتعلَّم ذاتيًا، ولذلك فهم دائمًا يعرفون أكثر بكثير ممن أصبح النجاح حليفًا لهم. ومن ثمَّ، إذا رغبت في الانضمام لفريق الفائزين، فكل ما عليك هو أن تعلم شيء واحد فقط دون سواه حتى لا تضيع وقتك، ألا وهو: “مباهج المعرفة خصصت للخاسرين”.

وعلى هذا، فإن كتب الأدب الخالدة لا تحكي إلَّا عن الخاسرين، وإن حالفهم النجاح يومًا، لا يكون ذلك إلَّا في النهاية لعلها تكون إشراقة أمل لقلوب حزينة، لكن لو استكملت نفس الرواية في جزء تالي لها، يتبدل النجاح إلى فشل آخر حتى تتوالى الأحداث، والسبب أنه لا يوجد ما هو ممتع في حياة ثابتة مستقرة لا يشغل صاحبها سوى الانتقال من نجاح لآخر بصورة ناجحة. أو كما يؤكد “أومبرتو إيكو”: “كان ديستويفسكي يكتب عن الخاسرين. وكذلك كان بطل الإلياذة “هيكتور” خاسرًا، فالحديث عن الفائزين أمرًا شديد الملل، لكن الأدب الحقيقي يتحدث عن الخاسرين. وكذلك هو الحال بالنسبة لمدام بوفاري وجوليان سوريل. وبالنسبة لي، فأنا أسير على دربهم. فالخاسرون أكثر روعة، في حين أن الفائزين أغبياء؛ … والسبب أنهم عادة ينتقلون إلى زمرة الفائزين بمحض الصدفة. ولطالما أكَّد “أومبرتو إيكو” أنه أحد هؤلاء الخاسرين الذين يشعرون بالوحدة، وكأن ذلك مدعاة للشعور بالفخر، فيقول: “أنا أنتمي لجيل ضائع، ولا أشعر بالراحة إلَّا بصحبة الضائعين الذين يشعرون بالوحدة.”

وفي حين يتفاخر “أومبرتو إيكو” بالهزائم التي جابهته وصنعت منه فيلسوفًا وكاتبًا وروائيًا وناقدًا مرموقًا ملئ السمع والأبصار، بالإضافة إلى وظيفته الأساسية كبروفيسور في جامعة إيطلية ذائعة الصيت، كان الكاتب الراقي والفيلسوف الشعبي دوستويفسكي على النقيض؛ فكانت حياته الصعبة المملوءة بالفشل والصعاب هي من صنعت منه واحدًا من أعظم محللي النفس البشرية، وفي نفس الوقت لم يكن يتباهي أبدًا بمدى عمق معرفته أو سعة اطلاعه، فلقد كان يصمت ويكتب، ولهذا ترك للبشرية ميراثًا من روايات وشخصيات حقيقية تنبض بالواقعية الصادمة المجحفة. كان “دوستويفسكي” تجسيدًا لمقولة “أومبرتو إيكو” أن “مباهج المعرفة” مخصصة فقط “للخاسرين”، لكن “إيكو” لم يذكر أيضًا أنه يصاحب تلك المعرفة شعورًا عميقًا بالحزن القاتل الذي يكبت أي نوع من الفخر بأي إنجاز، مهما كان ضئيلًا أو حتى عظيمًا؛ فكلاهما سواء، لعدم وجود ما يمكن أن يغيّير ذاك الواقع المقيت الذي يقتل الخاسر في كل لحظة.

ولقد كبَّلت الحياة “دوستويفسكي” (1821-1881)بسلاسل متينة من الفشل بدأت من بنيته الشخصية الهزيلة التي تعد مدعاة للاحتقار بالنسبة للرجال في روسيا؛ فالرجل الروسي تكتمل رجولته من الناحية الاجتماعية ببنية جسده القوية التي تؤهله أن يكون شخصًا رياضيًا بسهولة.وتلك الصورة للرجل المكتمل الرجولة لا تزال سائدة في روسيا، والدليل على هذا أن رئيس روسيا “فلاديمير بوتين” يحيط نفسه بتك الصورة؛ ليظل نموذجًا للقوَّة في عيون أبناء شعبه ومن يعتبرهم أعداءًا له.

وبالرغم من هذا، تغلَّب شخص “دوستويفسكي” على تلك الصورة بذكاءه المتَّقِد الذي بزغت بشائره منذ سنوات عمره الأولى، والتي أهَّلته أيضًا لأن يدخل دائرة الأدباء في مقتبل عمره بالإضافة إلى نجاحه في أن يصبح مهندسًا، وفي نفس الوقت، حرص “دوستويفسكي” على ترجمة الكتب ليزيد من دخله. لكن فترة الازدهار تلك هي النقطة المضيئة الوحيدة في حياته؛ فلم يمهله القدر أن يحظى بها كثيرًا. فلقد تم القبض عليه والحكم عليه بالاعدام بعد اتهامه بأنه ينتمي لجماعة من الأدباء تناقش كتبًا عن حكم قياصرة روسيا. وحالفه الحظ أنه قبيل اللحظة الأخيرة لتنفيذ الحكم حينما تم درء العقوبة واستبدالها بالسجن في سيبيريا لمدة أربعة سنوات. في ذاك الوقت، فاق شعوره بالمذلَّة وضراوة الأحوال بسجن سيبيريا، وجوب التعايش يوميًا مع أعتى ألوان المجرمين المحترفين الذي كان يخشى سماع أخبارهم وهو خارج السجن. لكنه داخل السجن، لم ينفك عن الاستماع لقصصهم وتحليل شعورهم والتخزين في ذاكرته لكمٍّ هائل من المعلومات عن خبايا النفس البشرية، وعن السجن الذي يضم في كنفه أشخاص راقيين وشديدي الثقافة جنبًا إلى جنب مع عتاة المجرمين، وأصبح هؤلاء هم المادة الخام لموضوعاته والنموذج الواقعي الذي يبنى عليه شخصيات رواياته.

وبعد السجن، تم تجنيده لفترة ست سنوات في المنفى، أي عشر سنوات ضاعت من عمره بسبب اتِّهام. لكنه حاول في تلك الفترة أن يستفيد من مواهبه وعمل بالصحافة إلى جانب كتابته للروايات؛ فحكى للناس عن الوحدة وما يمكن أن تفعله بالبشر، وأكَّد على خيبات الأمل التي تقتل الإنسان في كل لحظة. وكان القدر شريكًا له في كل شعور بالمرارة نقله لقرَّائه، فلقد أصبح الفقر والديون حبلًا خانقًا، يكبِّل حتى الهواء داخل رئتيه، وعبَّر عن ذلك في رواية “الفقراء” حينما قال: “الفقر يجعل الأحداث البسيطة معقَّدة ومؤلمة . . . الفقر يفقد الإنسان هيبته واحترامه . . . الفقر يجعل الحياة لا تطاق.”

ولم يكتف القدر بذلك، فلقد أصابه بمرض الصرع الذي عبَّر عنه بواقعية في رواية “الأخوة كارامازوف”، وكذلك توفَّت ابنته الكبرى في مهد الطفولة. وحرمه أيضًا الموت من ابنه “أليوشا” وهو لا يزال أيضًا صغيرًا، ناهيك عن حقارة أقربائه معه، وبذاءة أخلاق زملائه الأدباء، وازدراء الدوله له. فلقد تكابلت عليه أسوأ ظروف وكوابيس الحياة، وكان يتوجَّب عليه أن يجابه كل هذا بصمود وصمت. وأقسى جملة مقتضبة عبَّرت عن شعوره بالموت الداخلي في لحظة، قوله: “لم أطلب يدًا تمسح دموع الفزع، ولم أوقظ أحدًا ليعانقني كي أهدأ، علام يجب أن أكون ممتنًا لأحد؟ لقد عشت أسوأ اللحظات بمفردي”. وبالرغم من شعوره الداخلي بالخيبة والحسرة، كان يرسم على وجهه ابتسامة صادقة صافية يقابل بها الآخرين ويجعل منها قناعًا يخفي به الشعور بالحسرة والألم الذي داهمه حتى عند موته؛ فلقد قتله نزيف الرئة الذي جعله يودِّع الدنيا بألم يضاهي حياته البائسة التي جاهد فيها أن يتمسَّك بأي بارقة أمل.

رحل “دوستويفسكي” وترك ثلاث عشرة رواية خالدة جعلت منه عملاق الأدب الروسي وخبيرًا بالواقعية المجحفة ومحللًا عبقريًا لخبايا النفس البشرية. وفي كل حرف من رواياته كان يروي لمحة من حياته البائسة، التي كانت منجمًا لصدقه وحياته الخالدة.

وحدته القاتلة وحسرته وخيباته التي عانى منها طوال حياته جذبت جمهورًا واسعًا اعترف بعظمته منذ اللحظة الأولى لموته، فلقد حضر جنازته نحو مائة ألف شخص، وحاول بعضهم تقليص هذا العدد للنصف، لكن ما يهم أن عشرات الآلاف تزاحموا لحضور جنازته، ومليارت البشر على مرّ العصور يخلَّدون اسمه وكل حرف قاله، لكنه لم يحظى بوقت ليستمتع بكل هذا، فما جاء في وقت متأخِّر أظنه لسوف يبدل ابتسامته الصافية بامتعاض وبكاء منهمر؛ لأنه بئس الاحتفاء، فلا قيمة لكل هذا له مع جسد مكلوم صارلا وجود له على ظهر الأرض.