24 نوفمبر، 2024 4:54 ص
Search
Close this search box.

مقامة التسامي

يلفت الشاعر الجاهلي الأعشى ألأنظار  الى قيم سامية في المحبوبة حرية بالاهتمام فقد جمع بين الجمال والجلال جمعا رائعا حين قال : (( غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل …. ليست كمن يكره الجيران طلعتها  ولا تراها لسر الجار تختتل  )) , كثيرا ما يتحدثون عن جمال الأنثى فيقال هذه عشرينية يافعة كالوردة , وهذه ثلاثينية مشرقة كالشمس , وهذه أربعينية ناضجة كالفاكهة , فالأنثى لا يقاس جمالها بالسنين والأعوام , وهي مثل النبتة كلما سقيتها حباً واهتماماً ازدادت أنوثتها , وجمالها , وأبدعت في الاشتياق والعطاء , والأنثى كالزجاجة تعكس لك جمال الحياة , وهي بدلعها حياة , وبأنوثتها لذة , وبصوتها سعادة , وبنظراتها جمال , تشعر ان هناك علاقة قوية بين الأنثى والورد , وكأن جمال أحدهما لا يكتمل إلا بالآخر , لا تزال الأنثى حياة وجمال هذا الكوكب مهما كثر عدد الذكور, ومهما تربعوا على عرش السلطة تبقى الإناث أرق وأجمل سلطة.

 كثيرون قالوا ان للجمال مقاييس مختلفة , وأن الفتاة الجميلة تحمل مهرها على جبينها , فالجمال هو طهارة القلب , ونقاء الضمير, وعفة النظر, والجمال بلا طيبة لا يساوي شيئاً , لا توجد أنثى قبيحة بالمطلق , اذ ان كل أنثى جميلة بطريقة ما , ويعتبر نِصفُ جمَال الأنثىَ فيْ ردودَ افعالهَا , واحمِرارَ الخَديْن , والتماع العَينينْ , وضيّاع الحديثَ فيْ حركة اليدينّ المُتعانِقتين خَجلاً , والأنثى الهادئة الناعمة أكثر ضجيجًا بقلب الرجل .

كلنا تابعنا حمّى السخرية والتهكم عندما شاهدنا صور الرئيس الفرنسي الشاب الذي ولج قصر الإليزيه وهو في عقده الرابع , رفقة زوجته العجوز بريجيت ترونيو , موجة استنكار عارمة صاحبت كل الصور التي يظهر فيها الزوجان على وفاق وانسجام , غير مكثرتين بثرثرة الناس , زواج كما قيل بين تلميذ وأستاذته , استهجنه الكثيرون سواء بوطننا العربي المحافظ أو بالمجتمع الغربي المتفسخ , فما الذي أغرى شابا في عقده الثاني , بمعلمته التي تكبره بخمس وعشرين سنة , وأي قوة امتلكها هذا الشاب جعلت السيدة العجوز تخرّ صريعة بين يديه , قد تخفق كل التحليلات في حسم الموضوع , إن كان فعلا مرتبطا بمشاعر صادقة جمعت الطرفين , وقد نرفض الاقتناع بأن الشاب الوسيم يستطيع تحمل النظر لزوجةٍ شاخ جسمها , وكثرت تجاعيدها , واحدودب ظهرها.

عندما نقلب صفحات ادبنا العربي نجد ان أول نظرة تجذب الحبيب تناولها الأدب الجاهلى , حيث بدعها (امرؤ القيس) فى بيته الشعرى الذى يردده الناس (للناس فيما يعشقون مذاهب) , فكان فتى جميلا ووسيما , وابن ملك ويشتهر بتعدد علاقاته النسائية , وفى النهاية جمعه الحب بعجوز تكبره بأعوام عديدة , وكان حبًا من النظرة الأولى , وكلل فى النهاية بالزواج , وتعجب الناس من العجوز الدميمة التى استطاعت أن توقع أمير العاشقين , ولاموه على ذلك , فرد عليهم ببيته الشهير: (( أحببتها شمطاء شاب وليدها/ وللناس فيما يعشقون مذاهب)) , فأصبح هذا البيت مرتبطا بالحب من النظرة الأولى.

صاغ الرافعي مقالة راقية في فلسفة الجمال والقبح بكتابه وحي القلم , أكّد من خلالها أنّ الأصل في جمال الإنسان جوهره وكنهه , لا صورته وشكله , فالجوهر باقٍ والمظهر زائل , والعين ليست المعيار الأوحد لقياس الجمال أو القبح بل هناك العقل , والقلب , فجواب العين وحدها إنما هو ثلث الحقّ , ومتى قيل : ثلث الحق , فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقًّا غير كامل , وروى تلك القصة الجميلة التي ساقها عن زواج مسلم بن عمران بامرأة دميمة , عاش معها أسعد أيام حياته , وأنجب منها أجمل صبيانه , فيقول مسلم متحدثا لأحمد بن أيمن كاتب ابن طولون عن حبه لزوجته الدميمة : إني لا أحب المرأة الجميلة التي توصف , وليس بي هوىً إلا في امرأة دميمة , هي بدمامتها أحب النساء إليّ , وأخفهنّ على قلبي , وأصلحهنّ لي , ما أعدِلُ بها ابنة قيصر، ولا ابنة كسرى.

قديما قال الشاعر بشّار بن برد: (( تعشّقتها شمطاء شاب وليدها… وللنّاس فيما يعشقون مذاهب )) , وقال بهاء الدين زهير: (( قالوا تعشّقتها عمياء قلت لهم… ما شانها ذاك في عيني ولا قدحَا …. بل زاد وَجدي فيها أنها أبدًا… لا تُبصر الشيب في فؤادي إذا وضحَا)) , وذُكر أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لها : يا بثينة ما أرى فيك شيئا مما كان يقوله جميل , فقالت: يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو إليّ بعينين ليستا في رأسك , قال : فكيف رأيتيه في عشقه , قالت كان كما قال الشاعر: (( لا والذي تسجد الجباه له… مالي بما تحت ذيلها خبر …ولا بفيها ولا هممت بها… ما كان إلا الحديث والنظر)) , ونختم بما قاله آخرون :
((عشقتها شمطاء شاب وليدها**** وللناس فيما يعشقون مذاهب

لها جسم برغوث وساقا بعوضة**** ووجه كوجه القرد بل هو أقبح

اذا عاين الشيطان صورة وجهها**** تعوذ منها حين يمسي ويصبح

لها منظر كالنار تحسب أنها اذا**** ضحكت في أوجه الناس تلفح )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات