قصة قصيرة
هي هي هذه الارض التي لا يبدو انها قد تتغير يوما لا لكونها عصية على التغيير وحسب،بل لان التغيير يعني نهاية حتمية لكل الأشياء التي تولد وتموت هنا على إيقاع يخصها وحدها،،حتى ان الأعوام الخمسة عشر التي قضاها خارج البلاد لم تكن كافية لتغير اي شيء هنا رغم ان أشباحا يصعب حصرها قد تغيرت في العالم،،
خطرت له تلك الفكرة ،،في هذه اللحظة بالذات وعلى سلم الطائرة الساخن في اول صيف بعد (التحرير)حين توقف للحظات يتأمل هذه القطعة المألوفة من السماء،،وهذه الرائحة التي يتعطر بها الهواء،،رائحة الارض التي اعتاد العراقيون ان ينفروا منها في مواسم الغبار الذي لا يصدقون انه يمكن ان يهب في ارض غير ارضهم،،ويتندرون من الأقوال والمزاعم الآي يطلقها المتفائلون في زمن العجاج عن فوائد وحكم سماوية تكمن خلف هذا الموت الذي اعتاد ان يلف البلاد لأشهر تمتد احيانا الى بعض أوقات الشتاء في واحدة من سخريات الطبيعة ونوادرها التي قد لا تراها الا في العراق،،أعادت هذه الوقفة السريعة على سلم الطائرة له ذاكرته العميقة التي سبتت لعقد ونصف في راسه وهو ينغمس في نعم بلاد العم سام التي جاءها لاجئا سياسيا مع انه لم يكن شخصا مؤثرا كما لم تكن له قضية وماكان ظلم النظام السابق بينا عليه،،فلا هو خدم في سلك العسكرية في حروب البلد الساخنة،،ولم يكن عاطلا عن العمل،،ولم يكن يحب صدام او يكرهه باي حال ،،كما لم يرتبط بقصة حب ،،او يعشق او يفكر حتى بالزواج،،كما انه لم يكن شخصا مؤثرا في محيطه،،لكنه مع ذلك كان كأي بغدادي يعيش يومه متنقلا بين العمل والبيت والمقهى ،،،يدمن قراءة الصحيفة اليومية والتسكع في شوارع المدينة وبسطياتها العامرة بكل شيء واي شيء،،،لتنتهي ليلته بكاسين من العرق الرخيص عند صديقه شكوري،،ولا غير،،
وحين ترجل من اللحظة متجها الى قاعة الاستقبال لم يبحث عمن ينتظره لانه لم يخبر احدا بانه قادم أصلا،،وحتى حين استقل سيارة التاكسي متجها الى محلته القديمة لم يكن يفكر باللحظة القادمة،،ولا بالطريقة التي سيستقبله بها من تبقى من اهله،،لانه أصلا فقد والديه منذ ان كان يافعا،،ولم يبق من أسرته سوى اخ متزوج يسكن بيت الاسرة العتيق الطراز وأخت متزوجة تعيش خارج بغداد،،كان كما اختار ان يكون شخصا على الهامش يألف نفسه وحياته كما هي من غير تذمر او رغبة في التغيير الحقيقي ،،
ظل يراقب ملامح الطريق باحثا عن لا شيء،،ولم يستغرب لمنظر الزحام والسيارات الحديثة المستعملة التي تغص بها الشوارع رغم حرارة الجو التي بدا انها تضاعفت كثيرا وغيرت ملامح الناس والأشياء،،
لم يكن يعرف ان كان سيجد احدا في البيت او ماهي ردة فعل من سيستقبله حين يراه فجأة على عتبة الدار،،لكنه بالتأكيد فكر بزيارة شكوري وبعض الأصحاب حالما يصل ولو كان لديه رقم هاتف المقهى القريب من بيت شكوري لاتصل به لكنه تركه فيما ترك من ذكريات حالما قرر ركوب الموجه والهرب من البلاد مع من هربوا لأسباب شتى واستغل لاحقا السياسة التي كان بعيدا عنها كل البعد وقدم أوراقه لطلب اللجوء الى أمريكا بعد ان بقي في الأردن لسنة ونصف،،وقبل طلبه وبقي في احدى البلدات الصغيرة التي تبعد عن ديترويت بساعتين حتى اشتعلت الحرب،،وقرر العودة ليرى الام آلت الأمور،،مع انه لم يكن يخطط لشيء محدد خارج إطار ان يرى ما اعتاد ان يراه حين كان يعيش على هذه الارض،،
حين اقتربت السيارة من بداية الفرع الذي يتلوى بعيدا عن الشارع العام ويختفي وسط صفوف البيوت العتيقة المتراصة طلب الى السائق ان ينزله وترجل من السيارة ،،سار بضع أمتار،،فجأة دارت به الارض واختلط المشهد بتفاصيل وجوه المارة،،والسيارات،،والصراخ،،شعر بانه يطير في رقعة ساخنة من الفضاء،،ويرتد على حافة الرصيف الحار،،وغابت صور الأشياء وأغمضت العين اغماضتها الاخيرة،،وعم السكون ،،،
لاحقا في المستشفى قدمت تقارير مرسلة للسفارة الامريكية في بغداد تطلب إرسال من يستلم جثة مواطن أمريكي قتل في انفجار احدى السيارات المفخخة،،ويضيف التقرير ان الضحية تعرض لاعتداء إرهابي اثناء تجواله في أحد شوارع العاصمة بغداد،،وذلك على الرغم من ان “اكثر من ثلاثة عشر شخصا استشهدوا فيما جرح اثنان وعشرون اخرون إصابات اغلبهم خطيرة” .