18 ديسمبر، 2024 7:38 ص

تقول امثال المصريين : (( ان كان بينك وبين الشر جسر اقطعه قبل ما يعديلك)) , و (( قالوا للغراب ليه بتسرق الصابون ؟ قال : الأذية طبعي )) .
نشأنا ونحن نعرف ان العلم هو الخير والجهل هو الشر , ودرسونا ان نثق دائماً أنّ الله كله خير وبأن مشيئته كلها رحمة , وأحببنا الخير للخير , وكرهنا الشر للشر, وان عدم التعاون مع الشر واجب , لا يقل أهمية عن التعاون مع الخير , وان السعادة هي معرفة الخير والشر , واذا فكرنا في الخير فسوف يحدث لنا , والتفكير في الشر سوف يجعله ينال منا , ورغم كل الشرور فما زلنا نؤمن بالخير الوفير في قلوب الناس , فالخَيْرُ فيه ثَوابه وإن أبطأ , والشَّرُ فيه عقابه وقلّما أخطأ .
الا ان الشاعر اللبناني جبران خليل جبران في مطلع قصيدته (المواكب) يقول : (( الخير في الناس مصنوع إذا جبروا , والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا )) , وهو هنا يريد ان يقول أن الأصل في الإنسان هو الشر , أما الخير فلا يقوم به الإنسان إلا عندما يبتغي من وراءه مصلحة ما , وفي نفس السياق يذهب الكاتب المغربي طارق بكاري في روايته مرايا الجنرال , ليؤكد بدوره على أن الشر متأصل في الإنسان , وكتب يقول : (( الشر فطرة والخير استثناء الوديعين)) , أما أبو حيان التوحيدي فيرى أن الإنسان مزيج من الخير والشر, لكن الواقع يؤكد على أن الغلبة تعود للشر غالبا , إذ يضطر الإنسان لتهدئة هذا الشر , لكنه قلما يفلح في ذلك , فيتضح حينئذ مدى الشر الذي يسكن هذا الكائن , أما جان جاك روسو فيذهب إلى اعتبار أن (( لا شر في الكون إلا ما يفعله الإنسان)) , ليعطي بذلك دليلا قويا على أن كل الشرور التي توجد في هذا الكون مصدرها الإنسان .
عندما نكتب عن الشر, فإننا نؤشر صفة بارزة في الإنسان , وهي الصفة التي يضطر لإخفائها لمسايرة طبعه الاجتماعي , لأنه مضطر لتهدئة هذا الشر وسط هذه الجماعة , ولا يظهره إلا في الحالات التي يتعرض فيها للاستفزاز أو ما شابه , أو عندما يتعرض للظلم , كما أنه أحيانا لا يحتاج إلى سبب كي يمارس شره بكل ما ملك من عنفوان , بل إن أنانيته ومصالحه الشخصية ستدفعه إلى إتيان فعل الشر , ومن هاتين الزاويتين يتضح أن الشر في الناس لا يفنى وإن قبروا , في الحالة التي يتعرض فيها لسبب ما يدفعه إلى فعل الشر, وفي الحالة التي يبتغي فيه مصلحته الشخصية.
يعتبر جان جاك روسو: (( أن الإنسان بطبعه خيّر , والمجتمع هو الذي أفسده )) , لكن الواقع هو أن الشر متأصل في الإنسان , ولم يكن يوما خيرا بطبعه , لأن طبعه الأناني ومصالحه هي التي تدفع به إلى مصاف الشر , ويتضاعف هذا الشر عندما يصبح هذا الفرد قادرا على اخفائه وإظهار العكس , كما أنه قادر على ممارسة كل شيء من أجل كل شيء , ورغم تشبته ببعض المبادئ إلا أن الشر القابع فيه يدفعه للتنازل عن هذا التشبث , كل ذلك من أجل أنانيته ومصلحته.
يعتبر توماس هوبز الإنسان ذئب لأخيه الإنسان بسبب الشر القابع في هذا الكائن المعقد , هذا الشر يمكن أن يجعل الإنسان يفترس حتى أقرب الناس إليه , إذ تبقى مصلحته وأنانيته هي الدافع الأكبر الذي يحفزه لممارسة الشر, ومن أجل ذلك يمكن أن يرتكب كل الممكنات , وقد يؤنبه ضميره بعد ذلك , وما نفع التأنيب بعد أن يكون فعل الشر أتى أكله , ولعل قدرة الإنسان على التحايل والتصنع والنفاق هي التي تؤكد فعلا أنه كائن شرير بكل ما تحمل الكلمة من معنى , فأن يستطيع هذا الكائن إظهار شخصية ملائمة بينما حقيقته مريرة , فذلك بمثابة دليل يثبت تهمة الشر على هذا الكائن , وانه مهما فعل الإنسان لكي يظهر بمظهر مقبول وخير, ومهما أبدى من رغبة جامحة في فعل الخير, إلا أن حقيقته ليست كذلك , وحقيقته هي عكس ما يظهره .

هناك من يخفف في آرائه عندما يكتب عن الشر, اذ يقول نيتشه: (( الشر هو ضعف الارادة , فالشخص الذي يتمتع بالوعى الحقيقي يتمتع بقوة الارادة التي تمنعه من الانغماس في الشر)) , لأن الذي يفهم عمق الحياه وتعقيدتها , يدرك أن الشر خيالا غير عقلانيا , وانه نتيجة للجهل والتفكير الضيق , ويشير فيدور دستوفسكي الى انه : (( لا يوجد شيء اكثر سخافة من القول بأن الإنسان أن يكون شريرا بسبب وعيه وادراكه العميق ,الشر, ينشأ من غياب الفهم والمحدودية في التفكير)) , وهكذا فأن الوعي الكامل للعواقب الأخلاقية لأفعالنا يجعل من المستحيل علينا أن نكون اشرارا , الشخص الواعي بحق يعرف الألم الذي يسببه الشر فيتجنبه , حيث يقول سارتر : (( ان الناس الأكثر وعيا وادراكا لا يمكن أن يكونوا اشرارا لأن الشر يتطلب غباء ومحدودية في التفكير)) .