نحن كمجتمع عراقي بمختلف أطيافه ومكوناته، لاحل لنا من التنصل عن مسؤولية تردي الوضع الأمني وبقية الخدمات في العراق، بقرينة أن البرلمان الذي يمثلنا هو من يتحمل تلك المسؤولية قانونيا وأخلاقيا وتاريخيا، وهو المسؤول الأول والأخير عن هذا التداعي الخطير.
وقد تختلط الأوراق عند البعض ويذهب لادانة الحكومة واتهامها بالتقصير والمسؤولية والتقريع، وهذا التشخيص غير منصف ولاموفق ولادقيق، ذلك لأن معظم التيارات السياسية والطائفية المتطرفة تجري على عكس التيار الحكومي تماما لغرض إفشالها ومن ثم اسقاطها، والعودة بالعراق إلى المربع الأول أو العودة به للنظام الشمولي بنظرية “إما نحكمكم، أو نقتلكم”, وهذا هو الشعار المركزي المشترك للجماعات المسلحة المتطرفة كالوهابية والسلفية والقاعدة والاخوان وثقافتهم التي جبلوا عليها, كما هو الحال في سوريا ومصر بالاضافة للعراق ومعظم الدول التي تنشط فيها تلك العصابات, ومن هذا المنطلق وصم الارهاب بالعالمية.
وتشخيص المسؤولية وتحميلها لجهة ما يحتاج إلى معرفة علمية تحليلية قانونية تحكيمية قدر تعلق الأمر بالشخص الذي يدعي المعرفة، فالمعرفة لايجيدها كل من هب ودب، إنما ينبغي لمن يعتنقها يجب أن يكون عارفا عالما محللا محققا حكيما سديدا بالشأن السياسي والقانوني والمجتمعي، وملما بمايجري خلف الكواليس، ويقرأ مابين السطور، وبالنتيجة لايجوز اطلاق الأحكام جزافا عند تقييم الأمور، ويبقى مبدأ الاستدلال إلى طريق الحق هو الفيصل وهو المعرفة بعينها.
“فاعرفوا الحق تعرفوا اهله”.
.
وحتى الحكومة ذاتها لم تنأى بنفسها عن وجود تيارات داخلية عكسية مناوئة فيها تنخرها من داخلها ومن جسدها نخر الضواري الكاسرة ليلا، وتأخذ مستحقاتها منها وتصطف معها نهارا، الأمر الذي ينعكس سلبا على أداء الحكومة والتلكؤ في اداء واجباتها بمقدار الخرق الذي تحدثه في كياناتها، كما أن للارهاب المدعوم والارهاب المجاز الفاشي دورا كبيرا في عرقلة ممارسة أعمالها وإداء واجباتها وشل حركتها, وبمعنى آخر عندما تنهض الحكومة بواقع الحال الى حال افضل وتتقدم 3 خطوات للامام يتآزروا لسحبها 100خطوة للخلف .
نعم هناك تقصير من جانب الحكومة، ولربما التقصير يكون أحيانا غير متعمد أوغير مقصود، أوقد يكون متعمدا أحيانا أخرى ومقصودا من قبل بعض اشخاص حكوميين يرتبطون بأجندات داخلية وخارجية أو بسبب قلة الخيرة ونقص الكفاءة، وقد فرضوا على الحكومة بموجب صفقات المحاصصة والائتلافات، وهؤلاء هم من بمثل التيار الداخلي المعاكس للحكومة والتسبب في تردي الوضع الأمني وسوء الاداء الحكومي، وهذا شىء لاينكر ولايختلف عليه اثنين.
ولكن ومن دواعي الانصاف أن لانسمر اصابعنا في يافطة هذا الخلل المتعلق بالتقصير فحسب، بل من الواجب الشرعي والوطني والاخلاقي أن نحتم أنفسنا على تشخيص مسببات ذلك التقصير وبدقة متناهية، وعند ذاك نتخلص من الوقوع في كماشتي الظلم والتخبط، وسنجد ان مسببات التقصير كثيرة لاينبغي أن نعلقها على شماعة الحكومة عند كل حالة خطب أو تداعي فحسب، فالبرلمان أيضا لاعب محوري في اللعبة وله دور فعال في خلق الأزمات وتذليلها، من ابرزها أداءه المتعثر في تعمده بعدم معالجة القضايا الساخنة التي تحدث بين المركز وأطراف اللعبة، وعدم فض النزاعات الكيدية مع الحكومة، كما ويبدو عليه ومن خلال التطبيق والتضييق الذي يمارسه على أرض الواقع انه برلمان مقاومة لابرلمان دولة وشعب!! خلا بعض من أعضاءه الذين تميزوا بنكران الذات ممن لم يحدوا حدو البعض الآخر الذين لاتهمهم إلا مصالحهم الخاصة ومنافعهم الشخصية والحيزية والضيقة الأفق، فإن أولئك بحق جديرون أن يدخلوا في سجلات الشرف العراقي وبقوة بما بذلوه من جهاد وتفان ونكران للذات ورد للجميل لهذا الشعب داخل قبة البرلمان ومقاومة التيارات المعاكسة وأن تكتب أسماؤهم فيه بماء الذهب، قبالة أن يدخل غيرهم ممن خذلوا الوطن والشعب والدولة القائمة السوداء وتخط أسماءهم فيها بماء السدر والكافور، ليذوقوا وبال أمرهم وليكونوا عبرة لغيرهم.
وتبعا لهذا التصور فإن البرلمان غير جدير في اتخاذ مواقف تاريخية مفصلية خطيرة تصب في مصلحة الوطن العليا، خصوصا عندما يكون الأمر متعلق بأمن الدولة والاشخاص والممتلكات، كتأخير التصويت على الميزانية، والاختلاف على ملابسات تسليح الجيش.
كما أن من بعض أعضاء البرلمان تعمد وباصرار شديد في أن يجعل من قضية داعش قضية جهادية انتفاضية مشروعة، وادعاءهم النزاع المسلح الدائر بينها وبين الحكومة ماهو إلا كنتيجة لردة فعل بسبب اضطهاد الحكومة لمكون السنة بزعمهم الباطل!، وهذا ماورثوه من اسلافهم عندما وقفوا بالضد من خليفة المسلمين المنتخب الامام علي (ع) في حروب الفتنة على التأويل التي خاضها لمجاهدة ” الناكثين والمارقين والقاسطين” في وقعات “الجمل وصفين والنهروان”، والتاريخ يعيد نفسه بإشخاصه من زعماء الخير والشر والحق والباطل، وباختلاف بسيط في الآليات المتعلقة بكل مرحلة.
كما أن البرلمان يتحمل مسؤولية عرقلة القرارات المتعلقة بالمبادرات الاقتصادية والسياسية، والقرارات المتعلقة بالتنمية والاستثمار وعاصمة العراق الأقتصادية وترميم البنى التحتية للبلد التي طالتها الحروب العبثية والحصار الجائر والاحتلال -وما رافقها من عمليات نهب وسلب وتخريب- والفصل السابع والفتن الداخلية وعمليات الارهاب الجائرة، ويتحمل أيضا مسؤولية سوء الأحوال المعيشية لجميع العراقيين الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر في بلد يعتبر من أكبر دول العالم النفطية.
كما أن بدعة انسحابات الكتل من جلسات البرلمان وبروز ظاهرة إضطراد عدم حضور الأعضاء من معظم جلسات البرلمان -غايتها الحؤول دون صدور القرارات المتعلقة باقتصاد البلد وعدم تطوير الواقع المعيشي للناس- وبروز ظاهرة الخلافات العميقة بين رؤساء وأعضاء الكتل، هذه الأسباب والخصال مجتمعة تشكل نسقا ناكثا وسابقة رزيئة إن دلت على شئ إنما تدل وللأسف عن سوء طالع العراقيين الذين لم يوفقوا بانتخاب الصالح من المرشحين ليمثلهم في البرلمان خير تمثيل،والإسهام كذلك في صناعة ورسم مستقبلهم ومستقبل وطنهم والأجيال القادمة، وهذه الخلافات ستنسحب اجتماعيا إلى عمق الشارع العراقي لاثارة الخصومات وإثارة الإحن والبعضاء والنعرات الطائفية بين مكونات المجتمع قد تؤدي إلى نتائج وخيمة من أهمها الإصطراع والاقتتال أو لربما تؤسس لإنبثاق حرب أهلية ونزاعات أثنية لاطائل لها.
إن نزع غطاء الديكتاتورية والتسلط الشخصي والكتلوي على اجواء البرلمان لايحتاج إلى معجزة أبدا من أجل التغيير، وإذا كان ولابد من معجزة، فالمعجزة بيد الشعب نفسه ولم تبق إلا اياما معدودة وبعود زمام الأمور بيد الشعب من خلال ثورته البنفسجية لازاحة الغطاء الديكتاتوري عن وجه البرلمان بغطاء ديموقراطي جديد وشفاف، شريطة العمل بالعقل الفردي الذي وهبه الله سبحانه لكل شخص على وجه الاستقلال، والحذر كل الحذر من عدم اعارته للغير، ونجزم على أن احترام هذا العقل سنة ألهية بحب التقيد بها، ولولا العقل ماعرفنا الله سبحانه وتعالى ولا آمنا به، ففبه نعز وبه نذل، وبه نميز بين ماهو حق وماهو باطل! ف”العقل رسول الحق” بحسب ماروي عن الامام علي(ع)، و الغائه بسبات عميق ومقيت قد يسأل عنه صاحبه يوم القيامة، فما أحوجنا إلى وقفة تفكر وتسديد من الله، مصداق قول أمير المؤمنين(ع):”نعوذ بالله من سبات العقل”، بيد أن ذلك لايتحقق إلا بالابتعاد عن العمل بالعقل الجمعي الذي ساهم بالإتيان بالبرلمانات المنصرمة.
وإذا اردنا الإتيان ببرلمان ديموقراطي نموذجي وفعال يحقق جميع تطلعات وطموحات العراقيين علينا أن ننتخب من الأعضاء ممن كان يتصف بنكران الذات ورد الجميل لهذا البلد الجريح وشعبه المظلوم، ويعمل لمصلحة العراق والعراقيين أولا وقبل كل شيء، ويتآزر مع الحكومة جنبا إلى جنب للقضاء على جميع الخلافات والتجاذبات التي يدفع ثمنها العراقيون بأعلى الاثمان ثانيا، وإذا تزاحم عنده امران، أمر لمصلحته الشخصية ومصلحة كتلته النيابية أوعشيرته، والثاني يصب في مصلحة العراق والعراقيين، عليه أن يسعى جاهدا لتغليب الأمر الثاني دون غيره من الخيارات وبهذا يكون وقد أنكر ذاته وبر بوطنه ووصل ابناء جلدته ورد الأمانة الى من إئتمنه.
ولكن متى يبلغ المسؤول العراقي لمرتبة نكران الذات؟
أعتقد أن تحقيق هذا المبدأ لاينجز إلا إذا كان المسؤول منصفا وصادقا وورعا ومخلصا وأمينا وحريصا ونزيها وواعيا وعادلا، ويحب ويكره لأخيه مثلما يحب ويكره لنفسه، وهذه لاتعد من مسؤولية العضو النيابي ذاته فحسب بل تقع المسؤولية على الناخب نفسه في اختيار من يمثله، ومثل ذلك مثل المتبضع الذي ينتقي من الثمار صالحها دون فاسدها.
وذاكرتنا مليئة بمواقف الرجال القادة العدول المنكرين لذاتهم بدءا من أسوتنا وحبيبنا رسول الله الذي كان (ص) يعصب بطنه الشريف من ألم الجوع، ويشد على خصره الناعم الحجر والحجرين تخفيفا لهذا الالم.
“وشد من سغب أحشاءه وطوى ***تحت الحجارة كشحا مترف الإدم”.
ومرورا بقدوتنا ومولانا وصيه الامام علي بن ابي طالب(ع) الذي كان كثيرا مايستعمل سراجين أحدهما يوقد بزيت نسيئة من بيت مال المسلمين، والآخر يدفع ثمن زيته من ماله الخاص عندما يناوبهما في الاضاءة تبعا لطبيعة الجلسات الحكومية والخاصة الشخصية، وهو القائل (ع): “والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة مافعلت، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في قم جرادة تقضمها، مالعلي ولنعيم يفنى، ولذة لاتبقى نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين”.
ووصولا إلى الامتداد الطبيعي لهما هو سيدنا ومولانا وقائدنا الامام صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الكريم وبسر الله مخرجه المبارك الشريف) وسفرائه ووكلائه الأفاضل التي تمثلهم المرجعية الرشيدة.
فعلى النائب أو المسؤول الحكومي مهما كانت درجته الوظيفية والمجتمعية أن يتأسى بهذه الجبال الشامخة ليبلغ مرتبة الذروة أو “لا” فالوقوع في درجة الحضيض هو المصير الذي ينتظره.
-أذكر أن ضابطا عراقيا كبيرا ورفيع المستوى اتخذ نوع من إجرائات العقوبات الانضباطية والتي طبقها بحق نفسه، أسوقها كمثال حي لنكران الذات في عصرنا الحديث ، وهو ليس بأحسن حالا من هؤلاء الغارقين بنعمة العراق لحد النخاع، إذ قام هذا الضابط بتعريض نفسه لمحكمة أمر الضبط الاعلى التي يرأسها بنفسه فعاقب نفسه بنفسه بعقوبة انضباطية تتلاءم مع نوع المخالفة التي ارتكبها.
يذكر أن المخالفة أو الجرم الذي ارتكبه هذا القائد أن عصا التبختر التي كان يمسكها بيده من الوسط قد وقعت منه أرضا أثناء تبختره في ساحة العرض الصباحي، مما آثار حفيظته، واعتذر من فوره من الضباط والجنود ووبخ نفسه على فعلته، ثم عاد مسرعا إلى الثكنة وممتعضا، يجر أذيال الخيبة والحرج، فعاقب نفسه كما ذكرت ونشرها بأوامر القسم الثاني للوحدة ورفعها بكتاب رسمي إلى المراجع لتثبيتها في إضبارته الشخصية في مديرية ادارة الضباط بوزارة الدفاع آنذاك لتأخذ دورها في التأثير على ترقيته وحسمها من راتبه-.
وإلى المتأزمين والمأجورين الذين يزمرون ويزمجرون ليل نهار في قبة البرلمان وفي المحافل السياسية وفي القنوات المهرجة وفي مواقع الصحافة والتواصل الاجتماعي على أن: (“الحكومة اخطأت خطأ جسيما بنشر وانفتاح جيش’المالكي’-بالإشارة إلى الجيش العراقي الباسل- لضرب المقاومة الشريفة -بالاشارة إلى داعش- وقتل اهلنا في الرمادي والفلوجة، بحجة ابعاد الخطر عن بغداد دون الاخذ بنتائج تصويت البرلمان على قرار نشر القطعات، وإدعائهم بخطأها هذا، يعد على أنه مخالفة واضحة للدستور، يجب أن يحاكم عليه السيد المالكي”).
فنقول لهم: انكم تريدون بزعمكم هذا تمكين داعش من رقاب العراقيين وتدمير مدينة بغداد عاصمة، وشعبا، ودولة، وحكومة، وحضارة، وتاريخا، وحينذاك ستصير بغداد “أثرا بعد عين”، ثم بعد ذلك ينظر البرلمانيون للتصويت على الموضوع وهم في حالة اعداد حقائبهم وجمع أمتعتهم بما خف وزنه وغلا ثمنه بغية التأهب للسفر والهرب خارج العراق بخفي حنين، ومغادرة الأوضاع الجارية فيه للنأي بأنفسهم من اوار المعارك الطاحنة التي ستحدث هناك، ف”مالكم كيف تحكمون” أيها المتأزمون والمأجورون؟.
لقد تناسيتم شعارات داعش التي لايخجلون من نشرها، ونذكركم بأخرها: وقد كتب في زجاج مقدمة احدى سياراتهم القتالية بخط احمر وواضح:”جئناكم بالذبح يارافضة”، مع تعزيز يافطة الشعار برأسي مغدورين وقد علقا على الشباك الامامي للعجلة ذاتها، ناهيك عن واحدة شعاراتهم السيتراتيجية “إما نحكمكم، أو نقتلكم”، وهذي هي أفعال بني أمية تتجدد في كل عصر وزمان.
“إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ”.