16 أكتوبر، 2024 1:22 م
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (165):  كانت رسالة غاندي أن يوحد الهند وقد أدى رسالته

قصة الحضارة (165):  كانت رسالة غاندي أن يوحد الهند وقد أدى رسالته

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن غاندي، وكيف استطاع توحيد الهند علي رؤية واحدة نحو التطور والشعور بالفخر وحب الوطن والاحتفاء صناعة اليد. وذلك في الحلقة الخامسة والستين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

غاندي..

يكمل الكتاب الحكي عن غاندي: “وكان طريق سفره بحيث يخترق الهند، فتبين للمرة الأولى فقر الناس فقرا مدقعا، وأفزعته الهياكل العظمية التي شهدها تكدح في الحقول، والمنبوذون الوضيعون الذين كانوا يعملون أقذر الأعمال في المدن؛ وخيل أن ما يلاقيه بنو وطنه في الخارج من ازدراء، إن هو إلا إحدى نتائج فقرهم وذلهم في أرض وطنهم، ورغم ذلك فقد أخلص الولاء لإنجلترا بتأييدها إبان الحرب، بل دافع عن وجوب انخراط الهنود في سلك الجيش المحارب. إن كانوا ممن لم يقبلوا مبدأ الإقلاع عن العنف؛ ولم يوافق عندئذ أولئك الذين ينادون بالاستقلال وآمن بأن سوء الحكم البريطاني في الهند كان شذوذا‌ً في القاعدة.

أما القاعدة فهي أن الحكم البريطاني بصفة عامة حكم جيد، وأن سوء الحكومة البريطانية في الهند لا يرجع إلا إلى عدم إتباعها لمبادئ الحكم السائدة في الحكومة البريطانية في بريطانيا نفسها، وأنه لو أفهم الشعب البريطاني قضية الهنود، تردد في قبولهم على أساس الإخاء التام في مجموعة الأجزاء الحرة من الإمبراطورية واعتقد أنه إذا ما وضعت الحرب أوزارها وحسبت بريطانيا ما ضحت به الهند في سبيل الإمبراطورية من رجال ومال، لما ترددت في منحها حريتها”.

الحكم الذاتي..

وعن المطالبة بالحكم الذاتي يواصل الكتاب: “لكن الحرب وضعت أوزارها، وتحرك الشعب مطالباً “بالحكم الذاتي”، فصدرت “قوانين رولَنْد” وقضت على حرية الكلام والنشر، بإنشائها تشريعا عاجزا للإصلاح يسمى “مونتاجو – شلمز فورد” ثم جاءت مذبحة “أمرِتسار” فأجهزت على البقية الباقية؛ ونزلت الصدمة قوية على غاندي. فقرر من فوره عملا حاسما، من ذلك أنه أعاد لنائب الملك الأوسمة التي كان قد ظفر بها من الحكومات البريطانية في أوقات مختلفة، ووجه الدعوة إلى الهند لتقف من الحكومة الهندية موقف العصيان المدني، واستجاب الشعب لدعوته، لا بالمقاومة السلمية كما طلب إليهم، بل بالعنف وإراقة الدماء.

ففي بمباي مثلاً قتلوا ثلاثة وخمسين من “الفارسيين” المناهضين للحركة القومية، ولما كان غاندي يعتنق مذهب “الأهِمْسا”  أي الامتناع عن قتل الكائنات الحية بكافة أنواعها  فقد بعث للناس برسالة أخرى دعاهم فيها إلى إرجاء حملة العصيان المدني، على أساس أنها تتدهور في طريقها إلى أن تكون حكم الغوغاء فقلما تجد في التاريخ رجلاً أبدى من الشجاعة أكثر مما أبداه غاندي في الاستمساك بالمبدأ في سلوكه، مزدرياً ما تمليه الضرورة العملية للوصول إلى الغايات، وغير آبه بحلوله من قلوب الناس منزلة عالية.

فدهشت الأمة لقراره، لأنها ظنت أنها كادت تبلغ غايتها، ولم توافق غاندي على أن الوسائل قد يكون لها من الأهمية ما للغاية المنشودة، ومن ثم هبطت سمعة المهاتما حتى بلغت أدنى درجات جَزْرها”.

القبض عليه..

وعن سجن غاندي يضيف الكتاب: “وفي هذه اللحظة نفسها في مارس سنة 1922 قررت الحكومة القبض عليه، فلما توجه إليه النائب العام بتهمة إثارة الناس بمنشوراته، حتى اقترفوا ما اقترفوه من ألوان العنف في ثورة 1921، أجابه غاندي بعبارة رفعته فورا إلى ذروة الشرف، إذ قال:

“أحب أن أؤيد ما ألقاه النائب العام العلامة على كتفي من لوم فيما يخص الحوادث التي وقعت في بمباي ومدراس وشاوري شاورا؛ لأنني إذا ما فكرت في هذه الحوادث تفكيرا عميقا، وتدبرت أمرها ليلة بعد ليلة، تبين لي أنه من المستحيل علي أن أتخلى عن هذه الجرائم الشيطانية. إن النائب العام العلامة على حق لا شبهة فيه حين يقول إنني باعتباري رجلا مسئولا، وباعتباري كذلك رجلا قد ظفر بقسط من التعليم لا بأس به. كان ينبغي علي أن أعرف النتائج التي تترتب على كل فعل من أفعالي؛ لقد كنت أعلم أنني ألعب بالنار، وأقدمت على المغامرة، ولو أطلق سراحي لأعدت من جديد ما فعلته؛ إني أحسست هذا الصباح أنني أفشل في أداء واجبي إذا لم أقل ما أقوله هنا الآن.

أردت أن أجتنب العنف، وما زلت أريد اجتناب العنف، فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني، وهو كذلك المادة الأخيرة، من مواد عقيدتي؛ لكن لم يكن لي بد من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضررا يستحيل إصلاحه، وإما أن أتعرض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورة غاضبة هوجاء ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شفتي، إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحيانا، وإني لآسف لهذا أسفا شديدا، ولذلك فأنا واقف هاهنا لأتقبل، لا أخف ما تفرضونه من عقوبة، بل أقسى ما تنزلونه من عقاب.

إنني لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تخففوا عني العقاب، إنني هنا  إذن لأرحب وأتقبل راضيا أقسى عقوبة يمكن معاقبتي بها على ما يعده القانون جريمة مقصودة، وما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه.

وعبر القاضي عن عميق أسفه لاضطراره أن يزج في السجن برجل يعده الملايين من بني وطنه “وطنيا عظيما وقائدا عظيما” واعترف بأنه حتى أولئك الذين لا يأخذون بوجهة نظر غاندي، ينظرون إليه نظرتهم إلى “رجل ذي مثل عليا وحياة شريفة بل إن حياته لتتصف بما تتصف به حياة القديسين” وحكم عليه بالسجن ست سنوات”.

سجن غاندي..

ويتابع الكتاب عن تفاصيل سجنه: “سجن غاندي سجنا منفردا لكنه لم يتألم، وكتب يقول “لست أرى أحدا من المسجونين الآخرين، ولو أنني في الحق لا أدري كيف يمكن أن يأتيهم الضرر من صحبتي لكني أشعر بالسعادة، إني أحب العزلة بطبيعتي، وأحب الهدوء، ولدي الآن فرصة سانحة لأدرس موضوعات لم يكن لي بد من إهمالها في العالم الخارجي، وراح يعلم نفسه بما يزيد من ثورته في كتابات “بيكن” و “كارلايل” و “رسكن” و “إمرسن” و”ثورو” و”تولستوي، وسرى عن نفسه كروبها مدى ساعات طوال بقراءته لـ “بن جونسن” و “وولترسكت” وقرأ “بها جافاد جيتا” مرارا، ودرس السنسكريتية والتاملية والأردية، حتى لا يقتصر على الكتابة للعلماء، بل ليستطيع كذلك أن يتحدث إلى الجماهير.

ولقد أعد لنفسه برنامجا مفصلا لدراساته خلال الستة الأعوام التي سيقضيها في سجنه، وكان أمينا في تنفيذ ذلك البرنامج، حتى تدخلت الحوادث في تغيير مجراه، “لقد كنت أجلس إلى كتبي بنشوة الشاب وهو في الرابعة والعشرين، ناسيا أني قد بلغت من العمر أربعة وخمسين وأني عليل‎”.

الخلاص..

وعن خروجه من السجن يكمل الكتاب: “كان مرضه “بالمصران الأعور” طريق خلاصه من السجن، كما كان الطب الغربي الذي طالما أنكره، طريق نجاته من المرض؛ وتجمع عند بوابات السجن حشد كبير لتحيته عند خروجه وقبَّل كثيرون منهم ثوبه الغليظ وهو ماض في طريقه؛ لكنه اجتنب السياسة وتوارى عن أنظار الشعب، وعني بضعف بنيته ومرضه، وأوى إلى مدرسته في أحمد أباد حيث أنفق أعواما طوالا مع طلابه في عزلة هادئة؛ ومع ذلك فقد أخذ يرسل من مكمنه ذاك كل أسبوع بمقال افتتاحي تنشره له الجريدة التي كانت لسان حاله، وهي جريدة “الهند الفتاة”.

وجعل يبسط في تلك المقالات فلسفته عن الثورة والحياة؛ والتمس من أتباعه أن يجتنبوا أعمال العنف، لا لأن العنف بمثابة الانتحار للهند فقط، ما دامت الهند عزلاء من السلاح، بل لأنه كذلك سيضع استبدادا مكان استبداد آخر؛ وقال لهم: “إن التاريخ ليعلمنا أن أولئك الذين دفعتهم الدوافع الشريفة إلى اقتلاع أصحاب الجشع باستخدام القوة الغشوم، أصبحوا بدورهم فريسة لنفس المرض الذي كان يصيب أعداءهم المهزومين. إن اهتمامي بحرية الهند سيزول لو رأيتها تصطنع لحريتها وسائل العنف، لأن الثمرة التي تجنيها من تلك الوسائل لن تكون الحرية، بل ستكون هي الاستعباد”.

رفض الصناعة الحديثة..

وعن مقاومته للصناعة: “وثاني العناصر في عقيدته هو رفضه القاطع للصناعة الحديثة، ودعوته التي تشبه دعوة روسو في سبيل العودة إلى الحياة الساذجة، حياة الزراعة والصناعة المنزلية في القرى، فقد خيل لغاندي أن حبس الرجال والنساء في مصانع، يعملون بآلات يملكها سواهم أجزاء من مصنوعات لن يتاح لهم قط أن يروها وهي كاملة، طريقة ملتوية لشراء دمية الإنسان تحت هرم من سلع بالية، ففي رأيه أن معظم ما تنتجه الآلات لا ضرورة له. والعمل الذي يوفره استخدام الآلات في الصناعة يعود فيستهلك في صنعها وإصلاحها، أو إن كان هناك عمل قد ادخرته الآلات فعلا، فليس هو من صالح العمل نفسه، بل من صالح رؤوس الأموال.

فكأنما الأيدي العاملة تقذف بنفسها بسبب إنتاجها في حياة يسودها الذعر لما يملؤها من “تعطل ناشئ عن الأساليب العلمية في الصناعة” ولذلك عمل على إحياء حركة “سواديشي” التي حمل لواءها “تيلاك” سنة 1905، وأضيف مبدأ “الإنتاج الذاتي” إلى مبدأ “سواراج” أي “الحكم الذاتي”، وجعل غاندي استخدام “الشاركا”  أي عجلة الغزْل  مقياساً للتشيع المخلص للحركة القومية وطالب كل هندي، حتى أغناهم، بأن يلبس ثيابا من غزل البلاد، وأن يقاطع المنسوجات البريطانية الآنية، حتى يتسنى للدور في الهند أن تطنّ من جديد في فصل الشتاء الممل بصوت المغازل وهي تدور بعجلاتها.

لكن الناس لم يستجيبوا بأجمعهم لدعوته، لأنه من العسير أن توقف التاريخ عن مجراه، ومع ذلك فقد حاولت الهند على كل حال أن تستجيب لدعوته، فكنت ترى الطلبة الهنود في كل أرجاء الأرض كلها يرتدون “الخضار”؛ ولم تعد سيدات الطبقة العالية يلبسن “الساري” من الحرير الياباني، بل استبدلن به ثيابا خشنة من نسيج أيديهن وجعل المجرمون في سجونهم يغزلون، وأقيمت المحافل الكبرى في المدن كثيرة كما كان يحدث في عهد “سافونا رولا”  حيث جاء الهنود الأغنياء والتجار بما كان في دورهم أو في مخازنهم من المنسوجات الواردة من الخارج، فألقوا بها في النار، ففي بمباي وحدها، أكلت ألسنة اللهب مائة وخمسين ألف ثوب من القماش.

ولئن فشلت هذه الحركة التي قصدت إلى نبذ الصناعة؛ فقد هيأت للهند مدى عشرة أعوام رمزا للثورة، وعملت على تركيز ملايينها الصامتة في اتحاد جديد من الوعي السياسي، وارتابت الهند في قيمة الوسيلة لكنها أكبرت الغاية المنشودة؛ فإذا كانت قد تزعزعت ثقتها بغاندي السياسي فقد أحلت في سويداء قلبها غاندي القديس، وأصبحت الهند كلها لحظة من الزمن بمثابة الرجل الواحد وذلك باتحادها في إكباره، فكما يقول عنه طاغور:

“إنه وقف على أعتاب آلاف الأكواخ التي يسكنها الفقراء ولبس ثياباً كثيابهم، وتحدث إليهم بلغتهم، ففيه تجسدت آخر الأمر حقيقة حية، ولم يعد الأمر اقتباساً يستخرج من بطون الكتب: ولهذا السبب كان اسم “مهاتما”  وهو الاسم الذي أطلقه عليه الشعب هو اسمه الحق، فمن سواه قد شعر شعوره بأن الهند أجمعين هم لحمه ودمه؟. فلما جاء الحب وطرق باب الهند، فتحت له الهند بابها على مصراعيه. لقد ازدهرت الهند لدعوة غاندي ازدهارا يؤدي بها إلى عظمة جديدة، كما ازدهرت مرة سبقت في الأيام السوالف، حين أعلن بوذا صدق الإخاء والرحمة بين الكائنات الحية جميعاً.  لقد كانت رسالة غاندي أن يوحّد الهند وقد أدى رسالته؛ وهناك رسالات أخرى تنتظر رجالاً آخرين”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة