قبل ستة اعوام , كنا وفداً للتضامن مع الكورد الفيلية في مظلوميتهم التي كانت ولا زالت معلقة بين تسويف الوعود وجريمة البعث , حينها التقينا مع سماحة المرجع السيد علي السيستاني , كانت وصية سماحته ” حافظوا على وحدة انتمائكم , جميعكم عراقيون والعراق وطنكم , انه امانة في اعناقكم لا ينفعكم غيره … ” كانت وصيته من داخل جغرافية حبه للعراق والعراقيين ورسالته كرجل دين محترم , كان مفروضاً ان يُقتدى به , تلك القيم والمبادي اكدت عليها المراجع المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية عندما التقيناها , فرجل الدين يبدأ ايمانه مع احترامه لأيمان الناس بأوطانهم .
احد المراجع , وقبل الأنتخابات التشريعية , خرج عن جغرافية رسالته افتاء غير موفق , عندما كفر عراقيين لا يملك حق تكفيرهم , فأفتى بعدم انتخاب العلمانيين !! دليل على انه لا يفقه ما تعنيه العلمانية , الا بالقدر الذي يتعلق في مصالح شخصية وعائلية وضيق افق حوزوي , العلمانية لا تعني الألحاد اطلاقاً, انها قيم ومباديء ومفاهيم حداثية تفرضها على الواقع الأنساني مستويات النضج العلمي والتطور وطنياً وعالمياً , وقد يؤمن بها رجل دين متنور ومنفتح على ايجابيات المنجز العقلي والرقي الحياتي واحدث ما توصلت اليه التجارب العالمية , كحاجة فصل الدين عن الدولة ــ مثلا ــ والذي لا يعني منع المتدين عن ممارسة السياسة والنشاط الأجتماعي البناء , الأصلاح والتغيير والتطور السوي , لا يمكن له ان يحدث بمعزل عن الأمان والحرية والصحة والرفاهية للفرد , تلك هي ابرز تقاسيم ومضامين العلمانية , ولا يوجد لديها ما يناقض ذلك .
العراقيون هنا عليهم ان يختاروا بين المصالح العليا للشعب والوطن , وبين المصالح الشخصية والفئوية الملتبسة لبعض المراجع الدينية عندما تخرج عن جغرافية الأفتاء كما حصل لسماحة السيد بشير النجفي , حيث افتأ منحازاً لطرف على حساب طرف آخر من داخل احزاب التحالف الشيعي , كانت نزوة تشنج غير متصالحة مع مفردات اللغة العربية , مأزق لا يحسد عليه ( مع الأسف ) زاد الماً الى اوجاع العراقيين .
اشكالية كلفت العراقيين باهظ الأثمان على امتداد مئات العقود , ولا زالت تحقن العقل العراقي بمختلف امصال التغييب والأستغباء ودفع ملايين الأبرياء بأتجاه الأسوأ مما ينتظرهم ووطنهم معاً , الأغبياء والمتزمتون وحدهم يتجاهلون , كون الأرض والبشر هما الأقدم والأخلد من الأديان والقوميات والطوائف والمذاهب والعشائر والمراجع , وهما الأقدس حتى في الكتب المقدسه , الوسيط ( المرجع ) الذي تخرج فتواه عن جغرافية رسالته , وحده يفتعل للناس ما لا يرضاه اللـه بؤساً مؤبداً , كما لم يخوله اللـه بأمتحان صبر المعذبين بهم , انهم متطفلون على جوع الجياع وجهلهم والتراجع المخيف في معدل اعمارهم .
العراقيون وفي القرن الواحد والعشرين , يعانون اخطار الأنحطاط الرحيم بمخدرات الخوف من العقاب المفترض تدميراً للروح والمعنويات وفضائل الأنتاج المعرفي , المراجع التي مفروضاً ان يكون واجبها الأجتهاد وترجمة النافع اجتماعياً وحياتياً واخلاقياً ” مكارم الأخلاق ” الى بسطاء الناس ( المقلدون ) ليصبح ايمانهم بمعتقداتهم مثمراً , لا ينحرف مضطراً الى دائرة الشك والريبة والمراجعة لما هو خلف المظاهر , يؤمنون بجدوى الحق والحقوق والحريات والأرادة في ان يقرروا ما يجب ان يكون عليه حاضرهم ومستقبل اجيالهم .
من حق العراقيين ان يكونوا احراراً في انتخاب من يعتقدونه يمثلهم , ومن لم يفي بوعوده , يعاقبوه من داخل صناديق الأقتراع , انه الطريق السوي والأسلم للأصلاح والتغيير والبناء الوطني لشعوب تحترم تاريخها الحضاري , ومن حقها ان تراجع ذاتها وتعيد تقييم تجاربها ورسم طريقها بعيداً عن طاعة ( عبودية ) الوسيط الذي لا يملك العصمة او تخويلاً من رب العالمين .
لو عدنا الى التاريخ القريب , حيث انصفت ثورة 14 ـ تموز / 1958 فقراء العراق وخاصة في الجنوب والوسط العراقي , حررتهم من عبودية وطائفية النظام الملكي , ومن الثلاثي المزمن للفقر والجهل والأوبئة , شيدت لهم المدن العصرية وفتحت امامهم فرص العمل والتعليم والمشاركة في مسؤولية الحكم وشرعت لهم قوانين اجتماعية ازالت عنهم الخوف من المجهول واعادة تنظيم انفسهم داخل منظمات مجتمع مدني مستقلة تدافع عن حقهم وحقوقهم , تلك المكاسب الكبيرة والسريعة , لم ترق لبعض المراجع الدينية ( الشيعية منها بشكل خاص ) لخلل ــ مـا ـــ , وبدلاً من ان تدعم المنجزات الوطنية , وضعت يدها بيد اقطاب المؤامرة الدموية , فكانت فتوى المرجع السيد محسن الحكيم ( جد السيد عمار الحكيم ) , فتحت الأبواب امام مجرمي البعث لأبادة اكثر من ( 11 ) الفاً والاف المعتقلين والمشردين خلال الأسبوع الأول من الأنقلاب , اكثر من 90 % منهم من ابناء الجنوب والوسط , كانت فتوة السيد محسن الحكيم زيتاً مجاني لمحرقة انقلاب 08 / شباط / 1953 البعثي ولا نعلم كيف نجد او يجدوا مبرراً لمثل تلك الفتوى التي لا زالت ملطخة بدماء الاف الأبرياء من خيرة بنات وابناء العراق , ان لم يضعوا المصالح الشخصية وطغيان نزعة التوريث عند بعض العوائل الواهمة فوق ارواح الشهداء ومعاناة ملايين الضحايا الى جانب الخراب الشامل للوطن … ؟؟؟؟ , ثم من يحدد عقاب اللـه , وكلاء عقارات اللجنة في الأرض ام حكمة السماء ” واللـه يعلم ما في القلوب ” .
لماذا الأنتخابات , اذا كان اولاد المراجع وحدهم يملكون حق اللعب في السياسة ولا قيمة لحرية الأختيار والأستحقاق الأنتخابي , ثم كيف يمكن اعادة تشكيل دولة مدنية مؤسساتية وتحديد علاقاتها ووظائفها ومسؤولياتها تجاه المجتمع واحترام سيادة القانون , بعقلية طائفية شديدة الضيق , ومن داخل بيوت المراجع الدينية او تدخلهم المباشر بتأثير فتوى مزاجية لمرجع , والسؤال المحرج لنا قبل مراجعنا , لماذا لا تتدخل المراجع في الشؤون السياسية ( الأنتخابية ) لأيران او باكستان مثلاً , لكنها تبدوا حماساً لا تفسير له في التدخل في الشأن العراقي , او صامتة عندما يقع العراق في الهاوية , وناطقة عندما يحاول النهوض , هل انها واحدة من بين الأقدار المجهولة التي تكفلت تاريخياً بالأبقاء على العراق معوقاً بأصابات الفتن المؤجلة , واهله مغيبون غير قادرين على حماية انفسهم والحفاظ على وحدة الأنتماء وسلامة الوطن .. ؟؟؟ .