16 أكتوبر، 2024 5:20 م
Search
Close this search box.

لماذا يتصهين الملحد ذو الخلفية السلفية ؟

لماذا يتصهين الملحد ذو الخلفية السلفية ؟

خاص: بقلم- ياسر شعبان:

جاء التحالف الأخطر في تاريخ مصر المعاصرة بين دولة “السادات” وبين الإسلاميين، بهدف اجتثاث التيارات الماركسية والناصرية من الشارع السياسي المصري، (على ألا يمتد نشاط الجماعات لتناول شخص السادات بالنقد والتجريح)، لكن الأمور في النهايات لم تكن بوردية البدايات، فكان أن تصاعد الخلاف واتسع الفتق على الراتق وانتهى الأمر بتكفير “السادات” نفسه ومن ثم اغتياله يوم ظن أن مصر قد دانت له ؟.

بدأت العلاقة عندما تجمد الدم في عروق “السادات” وقت انفجار الغضب الشعبي خلال ما عُرف في أدبيات التيار الثوري بـ”انتفاضة الخبز” والتي أطلق عليها “السادات” على المقابل “ثورة الحرامية”؛ والتي تورط فيها تمامًا اليسار المصري ولم تهدأ الأوضاع إلا بعد أن تراجع بطل الحرب والسلام عن قراراته الاقتصادية المجحفة بالطبقات الشعبية. ونزول الجيش الشوراع ووقوف “الجمسي” في صف “السادات”؛ وقيام “رفعت السعيد” بدور عراب التهدئة وخفض سقف التطلعات الثورية، بالاستجابة لرغبة النظام في مصر لاحتواء الانتفاضة وعدم دفعه للمشهد للانفلات بالدرجة التي تتحول معها الانتفاضة لثورة تُطيح بالهيئة الحاكمة وقتها.

هنا تفتقت عبقرية “السادات” الشريرة عن إمكانية إعادة توظيف الإسلاميين كأحد أدوات السلطة الجديدة في السيطرة على وعي وروح المصريين المشُّبعة بالخطاب الناصري وإعادة صبغ الشارع السياسي بخطابٍ مغاير يدور حول محورين (وطني انعزالي، وديني غيبي) يبُشر بعصر انفتاح وثروة متوهمّة بشرط العودة إلى الله والولايات المتحدة، لقد كان كل ما يُريده الرجل جر الوعي المصري من إطار مجموعة مقولات ومعايير وآليات حاكمة دينامية موروثة من فترة صعود الحركة الوطنية إلى مجموعة مقولات ومعايير وآليات حاكمة أخرى تنتمي لعهدٍ جديد يدفع ناحية العودة لعلاقة مهادنة مع العدو الاستعماري. فلا نضطر بعد ذلك للدخول معه في مواجهات عسكرية غير مأمونة العواقب.

في هذه الأجواء بدأت موجة الصحوة الإسلامية تطغى على كل شيء في مصر جنبًا إلى جنب مع طغيان الخطاب الوطني الانعزالي (ليس فقط عن المشرق العربي ومشاكله التي لا تنتهي، بل أيضًا عن مصالح مصر العضوية الحيوية في السودان وليبيا ووادي النيل وإفريقيا) هنا انكفأت الروح المصرية على نفسها تمامًا بلا أي قضية أممية أو قومية أو حتى وطنية، هكذا دعم هذا الخطاب الرث الخطاب الديني الانعزالي الغيبي، وتم استلاب الذهنية المصرية من واقعية وحيوية الدنيا، إلى خيالية الآخرة وغيبيتها.

وبالتالي كانت السلفية كجزء من تيار الصحوة تتولد من هذه الروح الانعزالية المنكفئة على ذاتها التي غرقت فيها مصر؛ حيث أخذت الوطنية الرثة تُلملم أذرع مصر وتحشرها في تقفيصة الإستعمار، فانحصر دورها السياسي في تسّيير شؤونها اليومية فقط ثم أخذت الصحوة في حشر أشلاء الشخصية المصرية في ضيق الغيبيات والاغتراب عن مهمات الحياة المُلحة ومفرداتها التي تتسابق الأمم على حياذتها.

وفي ظل هذا التوجه العام كانت الماكينة السلفية تُلقي إلى حياتنا سلفيًا كل يوم مؤسَس على اغتراب عام انعزالي دنيوي واغتراب خاص انعزالي أخروي، وفوق كل ذلك تتربع قائمة طويلة من المحرمات والمحاذير والتقاليد والعادات والأحكام والنواهي والأوامر. فقد تحول الإسلام على يديهم إلى يهودية فريسية، يعيش في ظلالها السلفي في كبت نفسي وشعور عميق بالذنب (ورُغم أن ذلك ليس حصريً في التربية السلفية أو الإسلامية بشكلٍ عام بل هي خاصية موجودة في كل الأديان).

فالسلفي نتاج تقاطع رافدين، رافد ناتج عن تطور نزعة التدين في ذهنية النوع الإنساني وهو رافد يمتد مئات الآلاف من السنين ورافد ناتج عن تطور تاريخ مصر الحديث والمعاصر الذي أفضى بعد انقلاب مايو (آيار) 1971 إلى الحالة التي بيّناها أعلاه.

وقد تضمن العقل البشري منذ انبثاقه التطوري منذ 70 ألف سنة شعور عميق بالقلق الوجودي الناجم عن الخوف من المجهول، فقد واجه العقل البشري (ثقيل الوزن) مقارنة بأمخاخ الكائنات الأخرى بخلاف مهمات البقاء والتكاثر تساؤلات حول المعنى، كان الإنسان يُدرك المجهول ويعجز عن تفسيره ويخاف من عجزه هذا، وكان الجانب الأعظم من مجريات حياته يقع خارج نطاق سيطرته، فالمرض والموت والحوادث وهجمات الضواري وشبح المجاعة والكوارث والظواهر الطبيعية كل ذلك كان يؤثر على حياته ويُخفض من فرصه للبقاء والتكاثر، هذا الخوف المعجون في الفطرة البشرية من الطبيعة قد حاول الإنسان إحالته إلى قوى مفارقه لها، قادرة نيابة عنه على القيام بمهمة السيطرة وتسّيير أمر هذا الجانب الغامض من حياته، في حين تنحصر مهمته فقط في الالتزام بالقيام ببعض الطقوس، وقد أُسند هذه المهمة في البداية لفردٍ واحد فقط في الجماعة الإنسانية وهو الشامان (كاهن القبيلة)؛ (كم هي صفقة رابحة تلك التي ظن الإنسان بها أنه قد سيُّطر على الجانب الغامض وغير المُسيطَر عليه في الطبيعة عبر شخصٍ واحد فقط متخصص)، لكن مع تطور الزمن تطورت مهمات ذلك (الكائن المفارق)؛ ومن ثم تطورت مهمات ذلك الشخص الموكل إليه مهمات رعاية الاتصال مع هذا الكاهن وإلى تحوله من شامان فرد إلى مؤسسة متنامية الضخامة، مع ظهور المجتمعات الزراعية، فظهر المعبد في مقابلة القصر، هذا يرعى ويضمن ديمومة الاتصال مع الآلهة، وهذا يضمن السيطرة على مخاليق هذه الآلهة واستغلالها، ومع تعقد دور الآلهة وما ألقته البشرية عليها من مسؤوليات تعقدت البروتوكولات التي يجب اتباعها لإرضائها كي تقوم بمهماتها التي تضمن لنا البقاء والتكاثر وتقيّنا من كل الشرور والتي هي في التحليل النهائي (كل ما يُعيق البقاء والتكاثر)، أضف إلى ذلك أنه مع تعقد أنماط المعيشة أخذت المعايير السلوكية اللازمة لضمان تماسك المجتمعات المسُّتقرة تطرح مساهماتها أيضًا على سُلم تزايد التابوهات خاصة أن تلك المعايير السلوكية (العادات والتقاليد والأخلاق والقوانين والتشريعات) قد أُلحقت بتابوهات طقوس مرضاة الآلهة، فصار ما يجب فِعله لكي ترضى تلك الكائنات المفارقة يتضمن مساحة واسعة جدًا من السلوكيات التي حددتها قوائم خاصة من (أفعل ولا تفعل)؛ والتي كانت قائمة الاعترافات الـ 42 في “محكمة أوزوريس” من أولها وأهمها، ثم تأتي الوصايا العشر من ضمنها أيضًا.

وقد أخذت (تعليمات تشغيل الكائنات المفارقة) تنمو مع تعقد الأزمة الوجودية للإنسان الناجمة عن ظهور القهر الطبقي والاستغلال ونظام الرق، وصار الإنسان بعد أن كان يُعاني حُرًا متجولاً من المجهول صار يُعاني منه عبدًا أسيرًا لنمط مُعاش قائمة على الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي. (لقد تعقدت أزمة الإنسان ومع هذا التعقد زادت مهمات الآلهة ومع زيادة مهماتها زادت قائمة التابوهات والطقوس اللازمة لإرضائها كي تقوم بالمطلوب).

ثم حدث أن أضيف طبقة ثالثة من القلق الوجودي الناجم عن عدم القدرة على تفسير القهر المتراكم؛ وهي طبقة الاحتلال الأجنبي الذي (زاد الطين بلة) فكان أن تعرض عالم الحضارات القديم في الشرق الأدنى للاستعمار الروماني الطويل والثقيل وفي ثنايا ذلك السيّاق الذي فشل فيه “سبارتاكوس” وظهر “المسيح” تطورت اليهودية الفريسية الطقوسية؛ والتي حاول “المسيح” الثورة عليها لكن تطور الكنيسة زاد من عمق الطقوسية ورُغم خروج الإسلام بثورة تحرير سياسي فهو لم ينمو تحت سيطرة قوة إمبراطورية قاهرة بل كان هو القوة الإمبراطورية القاهرة؛ ورُغم ذلك لم ينجو من الانحدار إلى الطقوسية، خاصة بعد سقوط الشرق العربي كله تحت نير السيطرة التركية ثم الاستعمارية وكانت للحركات الوطنية بعد ذلك محاولة عظيمة للثورة على هذا النمط من التدين الطقوسي في خضم مقاومتها الاستعمار الأوروبي إلا أن هزيمة حركة التحرر العربية نتج عنه عودة شرسة للتدين الفريسي الطقوسي ممثل في السلفية المصرية.

هذا (في ظني) ما جعل السلفي المصري يستّبطن بشكلٍ غير واعٍ طبقات عدة من الأزمات الوجودية الكامن في كل منها قهر من نوعٍ معين، فهو يحمل أزمة عصر الالتقاط والصيد والتجوال والمجتمع المشاعي وقهر الطبيعة وأزمة عصر الزراعة والاستقرار والمجتمع الطبقي ثم أزمة عصر الاستعمار الروماني الطويل وقهره البشع ثم أزمة عصر السيّطرة العثمانية المملوكية والتي تلاها عصر الاستعمار ثم أزمة عصر الانكفاء على الذات الوطنية؛ والذي جاء نتيجة لانهيار حركة التحرر الوطني بقيادة “عبدالناصر”، فهرب من كل ذلك إلى شرنقة الدين يُعيد على النفس البشرية ذات الأسئلة التي طرحتها البشرية على نفسها عبر آلاف السنين من التجوال والحضارة ثم وجدت إجاباتها في المعرفة العلمية والمنهج العلمي في البحث والتفكير وتخلت عن ما دونها من أنماط تفكير وترُاث معرفي سواء كان مصدره الدين أو الفلسفة المبكرة، فقام العقل السلفي بعرض أسئلة القرن العشرين على الدين فتخيل الإجابة في سلسلة معقدة من التابوهات والطقوس الواجب اتباعها كي يرضى عنا الرب ويقوم بمهمته في نُصرتنا وإنقاذنا من القهر والهزيمة والظلم الاجتماعي.

فالعقل السلفي هنا يبدو في صورة كفْر تام بقُدرة العقل البشري والعلم الحديث والعمل البشري المنُظم على إنقاذ المجتمع الإنساني من أزماته الاجتماعية وروح الإنسان من أزمته الوجودية، ووكّل الأمر كله للغيب فإن لم تنحل أزماتنا هنا فلنا في الآخرة وفي الجنة تعويض كافي عن كل شيء.

هذا ما يجعل السلفي وقت سلفيته؛ خاصة المصري، يُخضّع روحه لكمٍ هائل من الكبت والقهر في سلسلة متصاعدة من السيطرة البطريركية التي تبدأ بالأب والشيخ وتنتهي بالصحابة والنبي والرب.

هنا ما يُشكل الكارثة خاصة لمن كان خط تطوره المعرفي  حصريًا في القراءات الدينية والفلسفية ولم يعرج في تربيته المعرفية على قراءات تاريخية اقتصادية اجتماعية فيظن أن مشاكل العالم تخضع لتفسيرات فوقيه دينية وفكرية، فهو هيغيلي مبتسّر يظن العالم يتحرك بقوى دافعة من الأفكار.

وهنا يأتي التحول الكارثي فعندما يُعرض الفكر السلفي بشكلٍ خاص والديني بشكلٍ عام للنقد وهو فكر متهافت قابل للنقد بسهولة؛ خاصة بعد ما زودت العلوم الطبيعية والإنسانية ومناهجهما البحثية العقل الإنساني بترسانة من المعارف والتساؤلات ومناهج التفكير التي يصعب معها الاحتفاظ بالإيمان التقليدي بالتصورات الدينية.

هنا يشعر الملحد ذو الخلفية السلفية بعظم الخديعة، وكم الوقت المُّهدر في الأوهام، ومقدار الاحساس بالغضب مما مارسّه على نفسه من قهرٍ نفسي بشع خضوعًا لأوامر كل تلك السلسلة البطريركية؛ (الأب الشيخ أولي الأمر تابعي البتابعين والتابعين والصحابة والنبي صعودًا للرب نفسه)، فيشُّرع في الهجوم الضاري على كل ذلك كفرًا وانتقامًا لنفسه ولا ينجو المجتمع الذي كان ينتمي إليه من هذا الهجوم والكره فهذا المجتمع من كان يُراقب سلوكه ويُشكل وحش يلتهم سمعته مع أي سقطه أخلاقية وهو المجتمع المنحل داخليًا، فيكره الوطن وقضاياه بالضرورة ويكره تاريخنا ولغتنا وأحلامنا ويحيل أزمته النفسية إلى كل الوجود الحضاري الجغرافي للمنطقة العربية تلك المنطقة التي أورثته كل هذا الكم من القهر النفسي والألم المبرح.

فيتحول السلفي المتشُّدد أخلاقيًا وطقوسيًا إلى شخص لامُبالي متمحور حول ذاته فالسلفي الذي يتربى على كل هذه الكمية من التابوهات التي تقهر الذات؛ والتي هي في ذاتها غير طبيعة وغير موافقة للنفس البشرية وطبيعتها وفطرتها ويحيا في رعبٍ عظيم من تلك القوه الغيبية التي لا يأمن أحد مكرها.. يتحول بفعل هذا الكم من كاره للسماء إلى كاره للأرض ومن عليها (وهذا الكره ينحصر في مجتمعه وأهل وطنه)، فينقلب مبدأ الولاء والبراء لديه إلى ولاء لقضايا أعداء وطنه وأهله والبراء من كل ما يمُكن أن يشُكل مصلحةٍ لوطنه وأهله، ولا يظهر ذلك علل درجة واحدة من الشدة ولكن بدرجات مختلفة من السقوط.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة