18 ديسمبر، 2024 11:11 م
وأنا أمام التلفاز، صادفني فلم أجنبي يتحدث عن سيرة طيار في الجيش. طيار شاب يروي قصته والطريق الذي سلكه ليكون في هذا السلك العسكري رغم خطورته البالغة. الفلم يصور الطيار الشاب منذ صغره، حيث كان يرافق أمه في المزرعة. هو من عائلة قروية كان ذات يوم ربيعي في فناء القرية الخضراء يرافق أمه ويساعدها في أعمال الزرع. في ربيعه الرابع وهو يشاهد في هذا المكان جسماً كبير يخرج صوتاً عالياً، يطير بإنخفاض كبير فوق رأسه. كانت المرة الأولى التي يشاهد فيها طائرة حربية ذات أجنحة كبير يخرج صوتاً غير مألوف يطير في سماء القرية. دهشه الأمر حتى سارع إلى والدته يسألها عن الأمر. أخبرته إنها طائرة عسكرية وهي سلاح جوي يحمون بها الوطن من الجو. أعلمته إنه لا خطر من طيرانها المنخفض فهم في تدريب عسكري للتقوية وممارسة أجواء الحرب فيما إذا وقعت.
عقله الصغير لا يستوعب المزيد فهو الأن يتخيل أن يكون الشخص الذي في داخل الطائرة محلقاً فوق الغيوم البيضاء كالصقور وبجانب طيور النورس فوق البحار.
بقي تحت تأثير المشهد الذي استوحى منه ولعه وشغفه بالطائرات وبدأ حلمه في أن يكون طياراً يكبر معه كلما تقدم به العمر. سأل أمه كيف لي أن أكون طياراً؟ أجابته بأن ينهي دراسته بنجاح ويجتاز الدراسة الاعدادية وأن يكون صحيح البدن.
الصغير عمل جاهداً في الدراسة لينال مبتغاه. حلم ليالي كثيرة بالجو والطيران والطائرات. صبر صبراً جميلاً حتى أنهى دراسته الاعدادية وتقدم ليكون طياراً.
قبل في كلية الطيران  وبعد حين تخرج طياراً شاباً لا يسع الفضاء فرحته وهو يحلق عالياً. تحقق ذاك الحلم الذي بدأ بفناء القرية عند رؤية طيارة تطير وها هو اليوم يحلق بين الغيوم في أجواء الوطن ويكتشف السماء.
الفلم هذا سحب مخيلتي إلى أمر لم أفكر به من قبل. سؤال بدر إلى ذهني مفاده:
– ماذا لو كان هذا الشاب في بلدنا؟ ماذا لو حلم أحد الشباب بأن يكون طياراً في وطننا؟
بالطبع لن ينال ما يريد وستذهب أحلامه أدراج الرياح. أن تكون شيئاً ما وأن تحقيق حلمك لا تشفع لك دراستك حتى وإن سهرت الليالي كلها ولم تعرف النوم قط وإن حصلت على شهادة أرقى الجامعات. لن تنال البر إلاّ إذا كنت من طرف فلان وعلان ومنتمياً إلى جهة أو أخرى متنفذة. وإلاّ فإن أحلامك ستقبر قبل أن تقبر أنت كما قبر أسلافك. سيبقى الشباب الحالم يلعن حظه العاثر ما دامت السموات ولن يرتاح طيلة حياته.
من يقتلك ليس من يطلق عليك رصاصة ترحيك من عبئ الزمان، بل من يقتل أحلامك ويجعلك تموت كل يوم الف مرة. فهناك من بلغت سقف أحلامه عنان السماء دون أن يدري أحدنا بأننا قد بلغنا قعر الظلام. استعجلنا الفرح الذي انهار بفعل الصدمات في الوقت الذي كان يجب علينا التروّي ونحن نعيش حياة طارئة، تتبدّل فيها المعطيات في اليوم مرات عديدة وفقاً لرغبات النافذين وأصحاب الكلمة. فالواقع لا يبنى على واقع رغبات الشعوب بوجود الجاثمين على الصدور ونحن نهرول لدفع الفاتورة عنهم دونما خيارٍ آخر.