21 ديسمبر، 2024 7:58 م

يقول بيغوفيتش : ((لا يمكنك التخلِّي عن مبادئك , حتى وأنت ترى بوضوح تام أنه لا مكان لها في الواقع , إنّه موقفٌ مأساوي )) .

 

ماذا تفعل الأنظمة الاستبدادية , والمؤسسات الدينية , والاتجاهات والتنظيمات القيامية والتكفيرية , والأحزاب الشخصانية , والإيديولوجيات الكليانية  , لتثبيت أحاديتها , وسلطانها , وترسيخ وجودها في الأرض؟ كيف تستولي على مصائر الدول , وتتحكم برقاب الشعوب , وتمحو النشاط النقدي في دماغ الرأي العام , فيصير قطيعاً من النعاج ؟ كيف تروّض شعباً ؟ أو شخصاً ؟ أو متمرداً ؟ أو صاحب رأي ؟ أو صحافياً ؟ أو مثقفاً ؟ وكيف تصير هي (كلّ شيء) , و(كلّ وجود ) , نائبةً عن الألوهة , ناطقةً باسم الأبد , وممثِّلةً له ؟ هذه المقدمة مخصصة لملامسة مسألة الترويض , التي تقتل الحسّ النقدي لدى الجماعات والأفراد , وتستأصل روح الممانعة الأخلاقية.

يقال بأنه عندما يقوم الصيادون بإصطياد فيلٍ حي لترويضه يستعملون حيلةً للتمكُّن من الفيل الضخم صعب المراس , فيحفرون في طريق مسيره حفرةً عميقةً بحجم الفيل ويُغطّونها , وعندما يقع فيها لا يستطيع الخروج , كما أنّهم لا يجرؤون على إخراجه لكي لا يبطش بهم , فيلجأون إلى الحيلة التالية:  ينقسمُ الصيادون إلى قسمين:  قسمٌ بلباسٍ أحمر  وآخرُ بلونٍ أزرق,  وذلك لكي يُميّز الفيل بين اللونين , فيأتي الصيادون الحُمر ويضربون الفيل بالعصي ويُعذّبونه وهو غاضبٌ لا يستطيع الحراك , ثم يأتي الصيادون الزُرُق , فيطردون الحُمر ويربِتُون ويمسحون على الفيل ويُطعمونهُ ويسقونهُ ولكن لا يُخرجونهُ , ويذهبون , وتتكرّر العملية , وفي كلّ مرّةٍ يزيدُ الصياد الشريك الشرّير الأحمر من مُدّة الضرب والعذاب , ويأتي الصياد الشريك الأزرق (الطيّب) ليطرد الشرّير ويُطعم الفيل ويمضي , حتى يشعر الفيل بمودّةٍ كبيرةٍ مع الصياد الشريك (الطيّب) , وينتظرهُ في كلّ يوم ليُخلّصهُ من الصيّاد الشريك (الشرّير) , وفي يوم من الأيّام يقوم الصياد الشريك ( الطيّب) بمساعدة الفيل الضخم , ويُخرجهُ من الحفرة , والفيل بكامل الخضوع والإذعان والودّ مع هذا الصياد الشريك الأزرق الطيّب , فيمضي معهُ , ولا يخطر في بال الفيل أن يتساءل : لماذا هذا ( الطيّب) الذي استطاع إخراجهُ , لماذا تركهُ كلّ هذا الوقت يتعرّضُ لذلك التعذيب من الشرير؟ ولماذا لم يُنقذهُ من أوّل يومٍ ويُخرجهُ ؟ ولماذا كان يكتفي بطرد الأشرار وحسب ؟ كلّ هذه الأسئلة غابت عن بال الفيل الضخم,  وهكذا يتم ترويض الشعوب الذين يشكرون من يُروّضهم وهم أصلاً سبب ما هم فيه من ألمٍ وبلاء !!”

 

فكرة الترويض في الأدب العربي فكرة قديمة , فالقبائل العربية كانت تروض أفرادها حين يخرجون عنها , ولم يختلف الأمر لاحقا كثيرا , محبو القصة القصيرة وقراء زكريا تامر يتذكرون قصته ( النمور في اليوم العاشر ) , فالنمر الذي لا يأكل إلا اللحوم , لأنه نمر , يروضه النظام العربي , فيرضخ في اليوم العاشر ويأكل العشب  , وفي هذه القصة مختصرٌ مفيد في كيفيات الترويض , وأساليبه , وأصوله , وفنونه , وهي تعكس وقائع عيشنا وأحوال بلداننا , في ظل الأنظمة الاستبدادية , وبدائلها الإرهابية التكفيرية , ونماذج الأحزاب والتيارات , التي تمعن ترويضاً في الناس , وقتلاً لطاقاتهم الخلاّقة , حيث يمكن رؤية الشعب والمجتمع والدولة .

 

(( رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص , ولكنه لم يستطع نسيانها , وحدّق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف , وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة : إذا أردتم حقاً أن تتعلّموا مهنتي , مهنة الترويض , عليكم ألاّ تنسوا في أيّ لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول , وسترون أنها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد , انظروا الآن إلى هذا النمر, إنه نمر شرس متعجرف , شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه , ولكنه سيتغيّر , ويصبح وديعاً لطيفاً ومطيعاً كطفل صغير , فراقِبوا ما سيجري بين مَن يملك الطعام وبين مَن لا يملكه , وتعلّموا .
فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض , فابتسم المروِّض مبتهجاً , ثمّ خاطب النمر متسائلاً بلهجة ساخرة : كيف حال ضيفنا العزيز؟
قال النمر: أحضِرْ لي ما آكله فقد حان وقت طعامي , فقال المروِّض بدهشة مصطنعة : أتأمرني وأنتَ سجيني؟ يا لكَ من نمر مضحك , عليكَ أن تدرك أني الوحيد الذي يحقّ له هنا إصدار الأوامر , قال النمر: لا أحد يأمر النمور, قال المروِّض :  ولكنكَ الآن لستَ نمراً , أنتَ في الغابة نمر , أما وقد صرتَ في القفص , فأنتَ الآن مجرّد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء , قال النمر بنزق : لن أكون عبداً لأحد, قال المروِّض : أنتَ مرغم على إطاعتي لأني أنا الذي أملك الطعام , قال النمر:  لا أريد طعامكَ , قال المروِّض : إذن جعْ كما تشاء , فلن أرغمكَ على فعل ما لا ترغب فيه , وأضاف مخاطباً تلاميذه : سترون كيف سيتبدّل , فالرأس المرفوع لا يُشبع معدة جائعة , وجاع النمر, وتذكّر بأسى أيام كان ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه , وفي اليوم الثاني أحاط المروِّض وتلاميذه بقفص النمر وقال المروِّض : ألستَ جائعاً ؟ أنتَ بالتأكيد جائعٌ جوعاً يعذّب ويؤلم , قلْ إنكَ جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم , ظلّ النمر ساكتاً , فقال المروِّض له : إفعل ما أقول ولا تكن أحمق , اعترفْ بأنكَ جائع فتشبع فوراً , قال النمر: أنا جائع ,فضحك المروِّض وقال لتلاميذه : ها هو ذا قد سقط في فخٍّ لن ينجو منه , وأصدر أوامره , فظفر النمر بلحم كثير, وفي اليوم الثالث  قال المروِّض للنمر: إذا أردتَ اليوم أن تنال طعاماً , فنفِّذْ ما سأطلب منكَ , قال النمر:  لن أطيعكَ , قال المروِّض : لا تكن متسرعاً , فطلبي بسيط جداً , أنتَ الآن تحوص في قفصكَ , وحين أقول لك : قف , فعليكَ أن تقف , قال النمر لنفسه : إنه فعلاً طلبٌ تافه ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع , وصاح المروِّض بلهجة قاسية آمرة : قف ,
فتجمّد النمر توّاً , وقال المروِّض بصوتٍ مرِح : أحسنتَ , فسُرّ النمر, وأكل بنهم بينما كان المروِّض يقول لتلاميذه:  سيصبح بعد أيام نمراً من ورق , وفي اليوم الرابع , قال النمر للمروِّض: أنا جائع فاطلبْ مني أن أقف , فقال المروِّض لتلاميذه : ها هو قد بدأ يحبّ أوامري , ثمّ تابع موجِّهاً كلامه إلى النمر: لن تأكل اليوم إلاّ إذا قلّدتَ مواء القطط ,فكظم النمر غيظه , وقال لنفسه : سأتسلى إذا قلّدتُ مواء القطط , وقلّد مواء القطط , فعبس المروِّض , وقال باستنكار: تقليدكَ فاشل , هل تعدّ الزمجرة مواءً؟ فقلّد النمر ثانيةً مواء القطط , ولكن المروِّض ظلّ متجهم الوجه , وقال بازدراء : أسكت أسكت , تقليدكَ ما زال فاشلاً , سأترككَ اليوم تتدرّب على مواء القطط , وغداً سأمتحنكَ , فإذا نجحتَ أكلتَ , أما إذا لم تنجح فلن تأكل , وابتعد المروِّض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة , وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين , ونادى النمر الغابات بضراعة , ولكنها كانت نائية.


وفي اليوم الخامس , قال المروِّض للنمر: هيا , إذا قلّدتَ مواء القطط بنجاح نلتَ قطعة كبيرة من اللحم الطازج , قلّد النمر مواء القطط , فصفّق المروّض , وقال بغبطة : عظيمّ أنتَ تموء كقطّ في شباط , ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم , وفي اليوم السادس , ما إن اقترب المروِّض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط , ولكن المروِّض ظلّ واجماً مقطِّب الجبين , فقال النمر: ها أنا قد قلّدتُ مواء القطط , قال المروِّض : قلِّدْ نهيق الحمار , قال النمر باستياء : أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات , أقلّد الحمار؟ سأموت ولن أنفّذ طلبكَ , فأبتعد المروِّض عن قفص النمر دون أن يتفوّه بكلمة ,وفي اليوم السابع , أقبل المروِّض نحو قفص النمر باسمَ الوجه وديعاً , وقال للنمر: ألا تريد أن تأكل؟  قال النمر: أريد أن آكل , قال المروِّض: اللحم الذي ستأكله له ثمن , انهقْ كالحمار تحصل على الطعام , فحاول النمر أن يتذكر الغابات , فأخفق , واندفع ينهق مغمض العينين , فقال المروِّض : نهيقكَ ليس ناجحاً , ولكنني سأعطيكَ قطعةً من اللحم إشفاقاً عليك , وفي اليوم الثامن قال المروِّض للنمر: سألقي مطلع خطبة , وحين سأنتهي صفِّقْ إعجاباً , قال النمر: سأصفّق , فابتدأ المروِّض إلقاء خطبته  فقال : أيها المواطنون , سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية , وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدّل مهما تآمرت القوى المعادية , وبالإيمان سننتصر , قال النمر: لم أفهم ما قلتَ , قال المروِّض : عليكَ أن تعجب بكل ما أقول وأن تصفّق إعجاباً به , قال النمر:  سامِحْني , أنا جاهلٌ أمّي , وكلامكَ رائع , وسأصفّق كما تبغي , وصفّق النمر, فقال المروِّض : أنا لا أحبّ النفاق والمنافقين , ستُحرَم اليوم من الطعام عقاباً لكَ , وفي اليوم التاسع , جاء المروِّض حاملاً حزمةً من الحشائش , وألقى بها للنمر , وقال: كلْ , قال النمر: ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم , قال المروِّض : منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش , ولما اشتدّ جوع النمر, حاول أن يأكل الحشائش , فصدمه طعمها , وابتعد عنها مشمئزاً , ولكنه عاد إليها ثانيةً , وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً , وفي اليوم العاشر , اختفى المروِّض وتلاميذه والنمر والقفص , وصار النمر مواطناً , والقفص مدينة )) .

 

.

في رواية ( شرق المتوسط ) نحن أمام نماذج مختلفة اختلافا ثانويا , هناك من صمد وقتله النظام , وهناك من ضعف ووافق على شروط السجان وصار متعاونا , ولكن شموخه وأنفته تعيدانه إلى الصمود ثانية فيكون مصيره الموت , عالم المعارض السياسي وقتله وملاحقته بعد فشل ترويضه , تراها ايضا في رائعة نجيب محفوظ (الكرنك ) يجند جهاز المخابرات المرأة لتخدمه , تغتصب ثم توظف لخدمة الجهاز , وتظل تغتصب , وربما عاد قاريء روايات نجيب محفوظ إلى روايته ( القاهرة الجديدة ) أو الفيلم المأخوذ عنها  (القاهرة ٣٠ ) , فالوزير يقيم علاقة مع الفتاة , ولأنه متزوج من امرأة ثانية فإنه يظل على علاقته بالفتاة بعد أن يزوجها لمحجوب عبد الدايم صاحب فلسفة ( طظ / طز ) .