19 ديسمبر، 2024 1:04 ص

(حسن نَصر الله)، سنوات القلق والطمأنينة

(حسن نَصر الله)، سنوات القلق والطمأنينة

توهجَ ثُم انطفأ سريعاً، ضياء تُصاحبه ادخنة بيضاء وسوداء ثم ظلام وسكونٌ تام، لعله اخر مشهدٍ رأتهُ عيناه متذكراً تلك العِبارات التي هتفَ بها امام حشدٍ كبير عام 1982 حين نادى قائلاً: “مشروعنا الذي لا خيار لنا ان نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع دولة إسلامية وحكم الإسلام وان يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الامام الخميني” مُعلناً عن تأسيس حزبه الخاص بعدما سلخَ بسكينٍ حاد (حركة امل) من الشارع اللبناني مؤدياً الى اضمحلالها وانحساراها لاسيما بعد نكبة اختفاء مؤسسها السيد (موسى الصدر) واكتفاء (نبيه بري) بفرك راحتيّ يده ندماً لتعنتهِ ابان تداعيات الانقسام، وقتها لم يكن عدد رجال الدين الشيعة في عموم لبنان يتجاوز العشرات، اصبح بعد ذلك عددهم يتجاوز الف رجل دين، بعد تبنيه فتح المدارس الدينية على نهج الثورة الإسلامية ابان حكم (الخميني) لإيران واضعاً رأسه تحت حكم ولاية الفقيه متأثراً حباً واعجاباً لأسلوب حكم تلك الولاية واستقطابها لمؤيديها حد الطاعة فضلاً عن الدعم الذي مُنِح له تزامناً مع نشوب الحرب العراقية الإيرانية ومساعي ايران لفتح جبهات لها عابرة لحدود الدولة الإيرانية لتصل لأقصى بقعةٍ في الأرض يتواجد بها الشيعة بعدما أضحت المسألة مسألة وجود مع سياسية الاهوج الارعن (صدام حسين).

أخطأت (إسرائيل) الظن بأن يظهر لها شخصية كالرئيس المصري السابق (أنور السادات) من بين أروقة سياسيّ لبنان حين اجتاحت الأراضي اللبنانية في 6/ حزيران/ 1982 ثأراً لمحاولة اغتيال سفيرها (شلومو ارجوف) في المملكة المتحدة على يد جماعة (صبري البنا) المنشق عن حركة فتح والتي عُرِفت حينها بمنظمة (أبو نضال)، اجتياحاً أدى الى تظافر كل الجهود لردعه من حركات قومية ويسارية الحقت به خسائر فادحة، من بين تلك الجهود كان الأبرز (حسن نصر الله)، ليتولى قيادة (حزب الله) خلفاً للسيد (عباس الموسوي) الذي اغتالته إسرائيل في 16/ شباط/ 1992، لتشهد فترة قيادته اقسى حالات القتل والتصفية والخطف والتفجير لمقرات دبلوماسية دولية في الأراضي اللبنانية حتى عام 1989 حتى وضعت الحرب الاهلية اللبنانية اوزارها وانبثاق (اتفاق الطائف) لتضع كل الفصائل المسلحة سلاحها بيد الدولة مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب اللبناني باستثناء (حزب الله) الذي امتنع واحتفظ بسلاحه مُدعياً بأن المسيرة لا تزال طويلة.

عام 2006 كانت أولى مواقفه التي بينت للعالم انضوائه تحت ولاية الفقيه حين امتنع عن الانصياع لقرار مجلس الامن المرقم (1559) الذي رفضته (إيران)، ليقوم بعملية توغلَ فيها عناصر من حزبه الحدود الدولية مع إسرائيل وقَتل واختطاف عدداً من الجنود إسرائيليين، لتنشب بعد ذلك حرباً تكبد لبنان خسائر بشرية تقدر بـ(1400) ضحية وخسائر مادية قُدِرت بـ(7) مليار دولار، وقتها عرف العالم العربي بأن للبنان صار أكثر من جيش، واوجه عديدة لتمثيلها سياسياً.

لعله تذكر ايضاً تهديده الخطير عام 2008 وهو يرفع سبابة يدهِ اليُمنى قائلاً: “يُخطئ من يتصور أن المقاومة يمكن أن تقبل او تُسلّم بأي اتهامٍ لأياً من مجاهديها او قياديها” كانت تلك الكلمات وسط خطاباً ثائراً ضد قرار المحكمة الجنائية الدولية بعدما ادانت عدداً من عناصر حزب الله في مقتل (رفيق الحريري)، آثر ذلك تباعاً باغتيال (15) سياسياً لبنانياً ثم قراراً يسحب بموجبهِ نوابهِ من حكومة (فؤاد السنيورة) تلتها اعتصاماتٍ مفتوحة أُغلقت أبواب مبنى مجلس النواب اللبناني لأشهر عديدة ليتمكن بعدها من مسك زمام مفاصل الدولة برمتها.

بعد وفاة الرئيس السوري (حافظ الأسد) وتسنم ابنه (بشار) رئاسة سوريا، تولدت قناعة لدى إيران بأنها قادرة على التحكم في الشأن السوري وليس اللبناني فحسب، فمع وجود (حسن نصر الله) كل أحلام التوسع الإيراني باتت تتحقق، وهنا ما اعدهُ أنا محاولة انتحار ثانية لحزب الله، فالمحاولة الأولى تتمثل بشكاسته للنظام الحاكم في لبنان بألوانهِ واطيافه وتوسعه عن مفهوم المقاومة التي حقق فيها انتصاراً فذاً حينما اجبر إسرائيل على الانسحاب من الجنوب اللبناني، أما المحاولة الثانية، حينما تدخل في الشأن السوري عسكرياً سعياً لتوسيع نفوذ نظام إيران، محاولتان نالتا منه ومن حزبه ومن مؤيديه وانصاره، كان قائداً شرساً وشجاعاً، لم ولن يجيء مقاوماً من بعده يزرع الرعب في الكيان الصهيوني كما فعل هو، فضلاً عن علمهِ التام بنوايا ومقدرة إسرائيل على اغتياله، إلا أنه ابى ان يموت في خارج ارضه.

أما محاولة الانتحار الثالثة فكانت مُحققة، بعدما اخبرتهُ إيران بجهوزيتها للحرب ما إذ انطلقت رصاصةً واحدة من الأراضي إسرائيلية اتجاهه، وما كان لـ(طوفان الأقصى) إلا أن يظهر حقيقة ايران ووعودها الكاذبة، التزمت الصمت والتصريح بأنها لا تنوي الدخول بأي حرب في المنطقة، ولم تتبنى أي موقف من مواقف المقاومة، إلا أنني اظن بأن نصر الله كان يعرف ذلك، إلا أنه تأكد منه بعد فوات الأوان، أفعال ايران الهمجية جعلت من إسرائيل دولة قوية وقاسية، مخاوفنا من قادم الأيام أصبحت اكبر، خاصةً بعد رحيل شخوص مثل نصر الله، فبالأمس كان هناك من يردع امتداد استيطانها، أما اليوم فأسلوبها بالانقضاض على خصومها وقربها من حدود دولنا وتطورها التكنلوجي والعسكري بات شيءٌ يُرعب تصوراتنا عن المستقبل.

ما كان لقصة (نصر الله) ان تكون بهذهِ السردية، إلا أنه بدأ مشوارهِ بالعنف وانتهى بالعنف، مات هو اليوم ومات قبله (رفيق الحريري) عام 2005، فالأخير يستذكره كل مواطن لبناني، أما نصر الله فيستذكره كل شيعي، كان لأحدهما حُب لبلده والثاني حُب لعقيدته، كل واحد منهما اختار طريقه، إلا أن لكل منهما أثر يحتار في وصفهِ أي مواطنٍ عربي يتمنى امنيتين، الأمنية الأولى ان يحل السلام والازدهار لبلاده، والأمنية الثانية أن تزول إسرائيل، إلا أنه قد يدرك في الخِتام بأن لا مجال لهُ إلا بأن يختار امنية واحدة من بين تلك الامنيتين.