19 سبتمبر، 2024 10:52 م
Search
Close this search box.

“آنا أخماتوفا”.. شعر مليء بالغضب والإدهاش ورفض السائد  

“آنا أخماتوفا”.. شعر مليء بالغضب والإدهاش ورفض السائد  

خاص: إعداد- سماح عادل

“آنا أخماتوفا”  شاعرة روسية من أبرز شاعرات روسيا في عهد الاتحاد السوفيتي.

حياتها..

ولدت “آنا” 11 يونيو/ حزيران عام 1898 في “بلشوي فونتان” إحدى ضواحي “أوديسا” الأوكرانية لعائلة يهودية ثرية ولأبوين هما “اندريه انطونوفيتش غورينكو” و”اينا ايرازموفنا”، بعد عامين من ولادتها انتقلت مع أهلها للعيش في “تسارسكويه سيلو” في “بطرسبورغ”. تميزت منذ صغرها بطبعها الحاد، واتسمت بالذكاء والفطنة فتعلمت القراءة وهي في الخامسة من أعمال الكاتب الروسي الشهير ليف تولستوي، وأجادت اللغة الفرنسية وهي تستمع لدروس الفرنسية التي كان يتلقاها أشقاؤها.

في 1905 تطلق والداها وانتقلت ووالدتها إلى “يفباتوريا” ثم إلى “كييف” لتكمل تعليمها، فتعرفت هنالك على “نيقولاي غوميلوف” الذي أرتبط بها عام 1910 منجبة منه “ليف غوميلوف” أبنها الوحيد، واستمر الارتباط إلى إن تمت علاقتهما بالطلاق وذلك عام 1918.

ثم تزوجها بعد ذلك عالم الآشوريات “فلاديمير شليكو”. وفي 1922 تغير الحال عندما أنفصلت عن فلاديمير، لتعيش مع الناقد “نيكولاي بونين” الذي أصيح زوجها الثالث.

تعلمت “آنا اللغة” الفرنسية وأتقنتها، وأحبت التاريخ والأدب، وأكثر ما أولعت به هو الشعر الذي دام معها طوال حياتها.

الشعر..

بدأت في كتابة الشعر وهي في 11 من العمر، وقد ازداد إنتاجها الأدبي في عام 1910 تحت اسم “آنا أخماتوفا”، وفي 1911 شاركت في محترف الشعراء الذي ضم حركة الأوجية لتصبح بعد ذلك من أهم أعلام الحركة، وفي عام 1912 صدر أول ديوان شعر لها بعنوان «أمسية» تبعه عدة دواوين لها آخرها في ذلك العقد أصبح معبرا عن مواقفها السياسية المعارضة للثورة البلشفية، وعلى الرغم من الوضع السياسي تجاه الأدباء؛ إلا إنها لم تقبل الرحيل حتى بعد إعدام زوجها السابق عام 1921.

أعدم زوجها الأول، “نيكولاي جوميلوف”، من قبل البوليس السري السوفيتي ، وأمضى ابنها “ليف جوميلوف” وزوجها “نيكولاي بونين” سنوات عديدة في معسكرات العمل «غولاغ»، حيث مات بونين.

الدراسة..

التحقت بالمدرسة الأدبية في 1900 قضت فيها خمسة أعوام ثم انضمت إلى مدرسة خاصة في كييف، وتلقت دورات في الأدب والتاريخ 1908. تجولت  في أوروبا، فزارت باريس وروما وتعرفت على عدد من رموز الثقافة والأدب هناك.

الكتابة..

صدرت أول مجموعة شعرية تحت عنوان “أمسية” 1912 ثم مجموعة ثانية 1914 بعنوان “المسبحة”، ومجموعة ثالثة 1917 بعنوان “القطيع الأبيض”، ومجموعة رابعة 1921 بعنوان “أعشاب على جانب الطريق”.

رصدت في شعرها همها الخاص مع التطورات السياسية التي تحدث في بلادها فدخلت دائرة الممنوعين، و أمرت السلطات بعدم نشر أشعارها وأعمالها الأدبية خلال 1923-1934.

أدت فترة المنع  إلي انضمامها إلى اتحاد الكتاب السوفيات 1938، ثم أصدرت مجموعة شعرية 1939 تحت عنوان “مرثاة”، وخصصتها لتناول “الظلم السياسي” في بلادها، وتجربتها مع إعدام زوجها الأول “نيقولاي غوميليوف” 1921، واعتقال ولدها الوحيد “ليف غوميليوف” وسجنه مدة طويلة.

لم تسبب لها هذه المجموعة أي رد فعل من قبل السلطات السياسية التي تستعد للانخراط في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية، وكانت الشاعرة في مدينة لينينغراد التي أحكم النازيون حولها حصارا ضاريا، وأصرت السلطات السوفياتية على مطالبتها الشاعرة أخموتوفا بمغادرة المدينة إلى طشقند في آسيا الوسطى، وبعد انتهاء الحرب كانت من أوائل العائدين إلى مدينتها التي طالما تغنت بها.

السلطات السوفياتية لم تغفر لها مجموعتها الشعرية “مرثاة” فأوعزت للنقاد بشن هجمة ناقدة لإنتاجها الأدبي على صفحات أهم المجلات الأدبية، ثم أصدرت قرار يقضي بفصلها من اتحاد الكتاب السوفيات 1946.

تقول بعض المصادر إنها أصدرت مجموعة شعرية 1950 بعنوان “المجد للسلام”، في سعي للتصالح مع السلطات السياسية، وللتوسط لمصلحة ولدها الذي عاد مجددا إلى المعتقل.

ساهمت هذه المجموعة الشعرية في السماح بعودتها إلى اتحاد الكتاب السوفيات، وفي 1956 أفرجت السلطات عن ولدها لكنه تنكر لمعاناة والدته مما زاد آلامها وعمق شعورها بالوحدة والانكسار، ولهذا كانت مجموعة “أشعاري” التي صدرت في ذلك العام هي الأكثر سوداوية في عطائها الأدبي.

مُنحت جائزة الشعر والأدب في إيطاليا عام 1964. مع بداية عهد البيروسترويكا في الاتحاد السوفياتي خلال ثمانينيات القرن العشرين، سُمح بطباعة إنتاجها الأدبي والفكري وأعمالها في مجال نقد الأدب، وصدرت جميع أعمالها الشعرية، تحولت إلى بطلة في عشرات الأفلام السينمائية والأعمال المسرحية، وأبدع الرسامون في كتابة “بورتريه أخماتوفا”.

الانتصار..

في مقالة بعنوان (الشاعرة آنا أخماتوفا تحدت الحصار الستاليني وانتصرت بالموت) كتب “شريف الشافعي”: “”مثلما فعلت في حياتها المتمردة، فإن الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا لا تكف بعد رحيلها، عن مواصلة تحدي الحصار المفروض عليها، والإفلات من قبضة السلطة، وإن كانت في هذه المرة تقاوم سلطة “الموت”، ذلك الذي لم تكن تهابه في حياتها “ستأتي حتماً أيها الموت/ عما قريب، أو بعد حين/ أو ربما بعد وقت طويل/ فلماذا لا تأتي الآن؟/ أنا أنتظرك”.

في رحلتها الاستثنائية، عرفت آنا كيف تجمع شراراتها الشعرية الجريئة معاً لتصير كرة نار متوهجة، لا تنطفئ ولا تتجمد في الجليد السوفياتي القاسي الذي أزعجته معارضتها للثورة البلشفية والممارسات الستالينية. وعلى رغم القمع والبوليس السري والقيود والرقابة وعيشها الدائم في خطر، هي وأسرتها، في وطنها الذي رفضت مغادرته في الواقع المرعب الكئيب “لم نعد نعرف غير الدم”، فإنها أطلقت كتاباتها المدوية كصرخة نبيلة، داخل الحدود وخارجها، متجاوزة الويلات المحيطة والظروف المأساوية، والحظر الذي فرض على قصائدها وقتاً طويلاً، لتصير واحدة من أبرز الفاعلين والمؤثرين في الشعر الروسي، وفي مسار الشعر العالمي الحديث.

وبعد نصف قرن على رحيلها عن عالمنا، لا يتوقف التفجر المقترن باسم آنا أخماتوفا، المشحون دائماً بالصخب والغضب، والمتعة والإدهاش ورفض السائد، والقدرة على التعبير والتغيير وإحداث الحراك الفني والمجتمعي. ويأتي هذا التأثير المتجدد، حتى يومنا هذا، لإمبراطورة الكلمة الحرة المنفلتة، “الملكة ذات الطابع المأساوي” كما وصفها الفيلسوف الدبلوماسي البريطاني السير إشعيا برلين (1909-1997)، من خلال الترجمات التي يتوالى صدورها بلغات متنوعة لأعمال آنا أخماتوفا، وسيرتها الإبداعية والشخصية”.

ويواصل: “هذه الترجمات المثمرة، وأحدثها “ملكة النيفا آنا أخماتوفا – مختارات شعرية شاملة” التي أنجزتها وقدمت لها اللبنانية أماني غيث (دار النهضة العربية، بيروت، 2023)، تلقي الضوء بكثافة على الشاعرة الروسية بما تستحقه من قيمة وثقل، كما تعيد اكتشافها ذاتياً وإنسانياً كمبدعة ومثقفة ومعارضة لعبت دوراً بارزاً في تعرية الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادها، حيث كانت تصف ستالين بشجاعة بأنه أكبر جلاد في التاريخ.

وقالت في رسالة وجهتها إليه عام 1935: “أعيش هنا منذ بداية الثورة، وأصر على البقاء في هذه الأرض، حيث قلبي وعقلي. في ليننغراد، أعيش في عزلة تامة وأمرض كثيراً، وأن يعتقل الشخصان الوحيدان المقربان مني، أرى في ذلك صفعة لا أستطيع تحملها. لست أعرف بأي تهمة قد أوقفا، لكنني ككلمة شرف، أجزم لك بأنهما ليسا فاشيين، ولا من الجواسيس أو المتمردين”، بحد ما تحرته أماني غيث في كتابها.

وتتعاظم أهمية مثل هذه الترجمات، إذ لا تزال هناك جوانب كثيرة من حياة آنا أخماتوفا وكتاباتها تتطلب مزيداً من البحث والتدقيق، إذ اضطرت في سنوات القمع والقهر والملاحقة إلى حرق جزء من أرشيفها، حيث جرى إعدام زوجها الأول الشاعر نيكولاي غوميليوف بتهمة التآمر، واقتيد ابنها للسجن، كما دمر النظام السوفياتي كثيراً من الوثائق المسجلة في ذلك الوقت، وناصب الشاعرة العداء لفترة طويلة، باعتبارها برجوازية وأرستقراطية، لكونها تنحدر من عائلة تنتمي إلى الطبقة العليا، وهي العائلة التي تحفظت في البداية على كتابة آنا الشعر باعتباره تلطيخاً لمقامها. فكان ردها الحاسم على أبيها المهندس البحري غورينكو “خذ اسمك، لست بحاجة إليه!”، واختارت لنفسها لقباً أدبياً هو أخماتوفا، وهو كنية جدة أمها “أميرة مسلمة من التتار”.”.

مأساوية..

وفيما بين 1920 و1922، كانت حياة “آنا أخماتوفا” مأساوية، حيث الفقر والجوع والظلام “لم يبق سوى الحمى، الجوع، الرصاص، والغرف المطفأة”. ومع تفاقم موجات الاعتقالات، تحدثت “آنا” بقوة عن الجواسيس والمخبرين، وسمتهم “الغربان السود”، ووصفت صوت أحذيتهم، والرعب الذي حاولوا أن يحدثوه، وتوجهت للمضطهدين وأبناء الشعب قائلة، “رغم كل شيء، أنا صوتكم”. وفي عام 1946، بعد أن اشتد انتقاد المؤسسة الرسمية لها، باعتبار أن “شعرها منحط، بلا أيديولوجيا”، تسرع آنا بحرق مجموعة من قصائدها وأوراقها كي لا تهدد حياة ابنها، وهي تردد “أنجبت ابناً للمعتقل”. وعندما يموت ستالين عام 1953، تصف فرحتها لأصدقائها بقولها “استيقظت أكثر من مرة هذه الليلة من فرط سعادتي”.

تجربتها الشعرية..

أحدثت كتابات “آنا أخماتوفا” ثورة في الكتابة التجديدية، ومضت الشاعرات يقلدنها كصاحبة مدرسة شعرية نسوية رائدة، حتي قالت “لقد علمت النساء كيف يتكلمن، لكني لا أعرف كيف أسكتهن!”. وقد مرت تجربتها الشعرية بمرحلتين أساسيتين، الأولى في بداياتها حتى 1925، وكانت مرحلة الكتابة حول موضوعات شخصية وعاطفية مع الالتفات إلى الطبيعة، كما في قصيدتها “أغنية عن الأغنية”، عام 1916 “مثل نسمة باردة في بدايتها/ سأولد ثم أحترق/ ثم أسقط في قلبك/ مثل دمعة مالحة”.

أما المرحلة الثانية، فقد استمرت حتى رحيلها، حيث سيطرت عليها النزعة النضالية والاجتماعية ونقد الواقع الروسي في حس إنساني ورؤية جمالية. ويأتي “قداس جنائزي”، عملها البارز في نهاية الثلاثينيات، ليمثل صورة ناضجة لهذه المرحلة التي تنفتح فيها ذاتها المكلومة على الشأن العام والهم البشري الممتد من الأرض إلى السماء “أمام حزن كهذا، تنحني الجبال/ وأمام حزن كهذا، يتوقف النهر الكبير عن الجريان/ في أروقة السجون إقفال قاسية/ وخلف الجدران، جحور يدفن فيها عذاب مميت/ في داخلها هناك من يفتقد النسمات المنعشة، ومن اشتاق للشمس والحنان/… / كنا نصحو كأننا ذاهبون إلى قداس مبكر/ ونعبر العاصمة المتوحشة/ نستقبل فيها الجثث، والشمس المنخفضة، وضباب النيفا/ بينما يغني الأمل العاري من بعيد”.

وفي سنواتها الأخيرة، في الستينيات، تميل قصائد “أنا أخماتوفا” إلى قدر أكبر من النقاء والتجريد، والتحلل من المناسبات والإشارات المباشرة، حيث يهدأ مع امتداد العمر صوت النار في الذاكرة، ويبدأ الإصغاء الشعري المتعمق إلى همس الرماد والأدخنة “بدلاً من التمنيات بعيد سعيد/ هذه الريح القاسية والجافة/ ستحمل إليك رائحة التعفن فقط/ ودخان قصائد تشتعل/ كنت قد كتبتها بيدي”.

الوفاة..

توفيت “آنا أخماتوفا” يوم 11 مارس/ آذار 1966 في ضواحي موسكو.

قصائد ل“آنا أخماتوفا”..

ترجمة.د.ثائر زين الدين

وها أنتذا من جديد. لا فتىً مُتيّماً‏

ولكن زوجاً عنيداً سليطاً وحاداً‏

تدخُلُ هذا البيت، وتنظر إلي؛‏

فيرعُبني هدوء ما قبل العاصفة.‏

تسأل ما الذي فعلتُهُ لك،‏

وقد ربطكَ بي إلى الأبد الحُبّ والقدر.‏

خدعتُك. ويتكرّر ذلك! ـ‏

آه، ليتكَ تتعب ولو مَرّةً واحدة!‏

فما تقولُهُ شبيهٌ بكلام المقتول؛ يُقلقُ به نومَ القاتل!‏

شبيهٌ بانتظار ملاك الموت قُربَ المخدع الرهيب.‏

فلتسامحني الآن؛ الربُّ علّمَنا التسامُح‏

إن جسدي ينطفئ في مرضي الكئيب،‏

وروحي الحُرّة هجعت تطلب الاطمئنان!‏

ولا أتذكّرُ إلا تلكَ الحديقةَ الخريفيّة الرقيقة‏

وصراخ طيور الكراكي، والحقولَ السمراء..‏

آه كم كانت الدُنيا حلوةً معك!‏

تموز 1916‏

سليبنيفو‏

ـــــــــــــــــــ

مَرحباً! أتسمَعُ حفيفاً خفيفاً‏

إلى اليمين من طاولتك؟‏

لن تتمكّن من كتابة هذهِ الأسطر الباقية ـ‏

فقد أتيتُ إليك.‏

أتُراكَ تغضبُني‏

كما فعلتَ في المَرّةِ الماضية ـ‏

فتقول إنكَ لا ترى يديّ!‏

لا ترى يديّ أو عينيَّ؟‏

عندكَ المكانُ وضيءٌ وبسيط؛‏

فلا تطردني..‏

إلى حيث تتجمّد المياهُ الآسنة‏

تحتَ قنطرةِ الجسر الخانقة.‏

1913‏

ــــــــــــــــ

كانَ غيوراً، قلقاً ورقيقاً‏

وقد أحبّني كأنني شمسُ الرب،‏

أحبّني؛ فقتلَ طيريَ الأبيض‏

كي لا يغنّي عن الماضي.‏

مع الغروب راحَ يُردد، وهو يدخُلُ غُرفتي:‏

“أحبّيني، اضحكي، اكتبي الشعر!”؛‏

بينما كنتُ أدفنُ طيريَ الفَرِح‏

خلفَ البئر الدائريّة، تحت الحورة العتيقة.‏

وعدتُهُ أنني لن أبكي‏

لكن قلبيَ تحوّلَ إلى حجر‏

وأصبحتُ أسمَعُ ترجيعَ طيريَ العذب‏

في كل مكانٍ، وكل زمان.‏

1914‏

_________

وكان هُناكَ صوتٌ، دعاني مُهدئاً..‏

قالَ: “تعالي إلى هنا‏

دعي تلكَ البلاد الموحشة الخاطئة.‏

اهجري روسيا إلى الأبد‏

أنا سأنظّفُ الدماءَ عن كفيّكِ‏

وأخرجُ من قلبك العارَ الأسود،‏

سأستُركِ باسمٍ جديد،‏

وأنزعُ عنكِ ألمَ الهزيمة والحزن.‏

ولكنني بهدوءٍ ولا مبالاة‏

غطّيتُ أذنيَّ بكفَّيَ‏

كي لا يُدنِّسَ هذا الكلام الوضيع‏

روحيَ الكئيب.‏

خريف 1917.‏

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة