تحت سماء الوطن، فتحوا ابوابا، ورسـموا احلاما لأجيال كثيرة، ومع الوقت اضحت هذه المهنة، ظلهم الذي يلازمهم ويصاحبهم، فمنحوها قلوبهم، واجمل سنيهم. ورغم مضي زمن غير قصير منذ ان غادروا المهنة، او تقاعدوا منها، الا ان كلمة (سـت) و (استاذ) مازالت حاضرة في وجدانهم، ومازالت قادرىة على حملهم الى العالم الجميل الذي كان سائدا.
يكتب السيد ابو حبيب في موقع “العلم اليوم” هذه الخاطرة: ((سُئل إمبراطور اليابان ذات يوم، عن أسباب تقدم دولته في هذا الوقت القصير، فأجاب: «بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، ومنحنا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير)).
وبهذه البلاغة يحق لنا ان نقف قليلا ونتذكر مسيرة ذاك الجيل ومعاناته وصولا الى ايامه هذه وسكنه في بلاد الغربة، ونسأل: هل انصف العراق وناسه هؤلاء الجنود المجهولين؟
فعلى الرغم من اننا نعيش في بلاد جديدة ، الا ان هذا لا يمنع ابدا من تكريم جيل المعلمين والتدريسيين الذين قدموا الكثير، فمسيرتهم تلك تستحق منّا، نحن ابناء العراق الأوفياء، ان نشكرهم ونقدم لهم الأمتنان، اينما كانوا منتشرين في بلاد الغربة، ان كان بالكتابة عنهم، بنشر قصصهم وذكرياتهم وصورهم. فدعونا نقوم سوية بتكريس واقع جديد فيما بيننا، واقع الأحتفال والأفتخار والأعتزاز بكل مبدع، خدم بصدق وتفان، حتى وأن تجاهلت المؤسسات المعنية دورها في القيام بذلك!
وفي هذه المناسبة، ادعوكم لرحلة قصيرة مع بعض الوجوه العراقية التي خدمت في سلك التدريس في عهود مختلفة. ويقينا ان في جعبة كل واحدا منهم قصصا كثيرة وحكايات وذكريات، وستسمعوهم سوية وهم يصبوها في مجرى واحد كبير، هو حب الأنسان ورفعته.
المربية جنفياف دانيال ججو القس يلدا – كرمو
من مواليد مدينة تلكيف التابعة لمحافظة نينوى، وقد لعبت الصدفة وحدها في مكان الولادة، اذ كانت العائلة تسكن مدينة (شهربان) حيث كان والدها يعمل في الحدادة (تورنجي)، ومع اقتراب ايام الولادة، قصدت امها مدينة تلكيف لوجود الأهل والأقارب هناك، فولدت “جنفياف”. لكن سرعان ما رحلت عائلتها الى مدينة الموصل (المركز) وعندما كبرت قليلا وأدخلوها المدرسة، امضت الصفوف الثلاث الأبتدائية في الموصل (مدرسة الكلدان الأبتدائية)، وأنتقلت ثانية الى تلكيف، فأكملت الأبتدائية في (مدرسة الراهبات). في المتوسطة درست في (متوسطة المعرفة للبنات في الموصل)، بعدها انتسبت الى (دار المعلمات ) في الموصل، وكان المعهد قد افتتح للتو، وتخرجت معلمة – انكليزي – في العام 1959.
عندما كنا مجموعة من التلميذات، كنا مبهورات بمعلماتنا، بجمالهن وأزيائهن وطلتهن، فأخذنا بســحر هذه المهنة، وفعلا توجهنا مجموعة من الصديقات نحو هذا الفرع . كان اول تعيين لي في مدينة (الحبانية) في ايلول 1960، وللطرفة اقول، فأن راتبنا الأسمي آذناك كان 19 دينار، وتضاف له 12 دينار علاوات ومخصصات، وفي نيسان من العام 1961، جرى تعديل راتبنا الأسمي من 19 الى 20 دينار.
كانت مدرسة (الهدى الأبتدائية للبنات) اولى خطواتي في هذا العالم الذي سيأخذني معه لحوالي 35 سنة قادمة. ودرسّت حينها مادة اللغة الأنكليزية للصفوف الخامس والسادس. بعد 5 سنوات ، نقلت الى بغداد ومدرسة (جسر ديالى الأبتدائية للبنات) والتي كانت تقع بالقرب من مدينة الزعفرانية. بعدها عينت في مدرسة (الشقائق) في منطقة كمب سارة ولفترة قصيرة، ثم الى مدرسة (الخلد الأبتدائية) في منطقة النعيرية والكيارة، في اطراف بغداد الجديدة. عملت مدة 34 سنة و 10 شهور ما بين مهمة التعليم، و منصب معاونة المدير،لكن وعلى الرغم من التزاماتي في التدريس فقد حاولت ان اكمل دراستي الجامعية في كلية الآداب، وبعد فترة قصيرة من الدوام، انقطعت وذلك لصعوبة التوفيق بين الأثنين، ولبعدها الكبير عن مركز عملي وسكني، فقد كنت حقا آمل ان احصل على شهادة من كلية الآداب! وحينما انظر مرة اخرى الى سني الخدمة تلك، أشعر بالفخر والأعتزاز، بأني قد اديت واجبي بكل صدق وأمانة، ويشهد على ذلك ، استمراري في العمل رغم كل الظروف، وكتب التقدير والثناء والشكر التي نلتها. لقد كانت حياتنا كمربيات، او مع التلاميذ، حياة مفعمة بالنشاطات والمحبة والتعاون. وكم كنا نفخر حينما تحقق مدرستنا مركزا متقدما في سباقات وزارة التربية الرياضية، ان كان في كرة المنضدة، السلة، الطائرة او حتى في الأستعراضات بموسم الربيع التي عادة ما كانت تقام في (الرمادي) حينما كنت ادرّس في (الحبانية).
لقد تركت ســني التدريس ذكريات عطرة مع نخبة طيبة من المربيات والتي تصفهن ست جنفياف بأنهن (نوم بالعين) ومنهم: في مدرسة جسر ديالى: المديرة فريحة السامرائي، بروين قزاز، باسمة انطوان، سعاد جبوري، أميرة قاجي ونهاد داوود. اما في مدرسة الخلد: أمل حميد، فاطمة ليلو، احلام حسـن، فائزة صاموئيل، سـاهرة ساندو وكثيرات غيرهن ، موجودات في القلب دائما.
غادرنا العراق، انا وزوجي في اواخر العام 1994، ووصلنا مدينة ديترويت الأمريكية في اوائل العام 1995، بعد اقامة قصير في الأردن. عملنا سوية لمدة 7 سنوات، في شركة لصنع الأدوات الأحتياطية للسيارات حتى وصلنا الى سن التقاعد القانوني، وها انك تراني، سعيدة في وقتي الذي احاول ان استثمره بالعلاقات العائلية الطيبة والزيارات والقرأة ومتابعة التلفزيون والأنترنيت.
من امنياتي الشخصية، ان اكون بصحة جيدة، وبلا مشاكل بدنية ، وهذه ليست لي فقط، بل لزوجي ، ولكل الناس الذين اعرفهم او لا اعرفهم، اريدهم ان يكونوا اصحاء وسعداء.
اما للعراق (اويلي على العراق – قالتها بألم وحسرة) أتمنى ان يسمو نجما في السماء، وأن يكون منارا للبشرية، وأن يتحول الى واحة راحة وسعادة وسلام وطمأنينة لأبنائه وبناته، وأن ينعموا به……..وأن تراه عيوني من جديد!
*********
المربـي صـباح طوبيا بطرس يلـدو
من موالد مدينة (تلكيف) التابعة لمحافظة نينوى في العام 1940. درست الأبتدائية في “مدرسة تلكيف” الواقعة قرب مركز الشرطة، وأكملت المتوسطة ايضا في متوسطة المدينة. في الثانوية ، انتقلنا الى البصرة، فدرست في “اعدادية العشار”.
في سني ثورة 14 تموز ، جرى توجه (غير طبيعي) لتطوير التعليم وأفتتاح المدارس، وهذا احتاج الى معلمين ومدرسين جدد، لم تكن الدولة قد احتاطت لذلك، فلجأوا الى الدورات المركزة لتخريج المعلمين، وهكذا كان نصيبي ان انتسب لدورة تربوية في العام 1962 لمدة سنة واحدة في مدينة البصرة، لأتخرج منها معلما.
كان اول تعيين لي في مدرسـة “النخيلة” في قضاء الزبير في العام 1963، ثم خدمت في “مدرسة الشهباء”، في – هور الحمّار – التابع لمحافظة البصرة. بعدها الى “مدرسـة القبلة” في محلة القبلة بالبصرة حتى العام 1984، ومع انتقالنا الى بغداد، اثر اندلاع الحرب مع ايران، أنتسبت الى ” مدرسة الرصافي” الواقعة في منطقة بغداد الجديدة/ محلة الألف دار، ما بين الأعوام 1984-1990 حيث اكملت سني الخدمة وأحلت على التقاعد.
لم يكن حجم الراتب التقاعدي ليساير الوضع الأقتصادي، والعائلة الكبيرة ولهذا توجهت للتدريس الخصوصي، و للعمل الخاص مجددا، فعملت مشرفا في استعلامات (فندق دار السلام) ببغداد، ثم مشرفا في مطعم (نقابة السواق) في منطقة علاوي الحلة. وفي العام 2001 قدمنا للعيش في الولايات المتحدة، لكني عدت للعراق عام 2004، وغادرته نهائيا في العام 2009 اثر استشهاد ابني بأحدى العمليات الأرهابية، وقد عملت في بعض الأعمال الخفيفة، لكني الآن متقاعد وأجمع في وقتي بين متابعة اخبار العراق، والتواصل مع العائلة والأهل والأقرباء.
اقف في بعض الأيام متأملا مسيرتي منذ دخولي المدرسة ، وأنخراطي في سلك التعليم، ثم وصولي لمرحلة التقاعد، ولحد هذا اليوم، وأشعر احيانا بالفرح والأفتخار، فقد مارست مهنة التعليم بكل اخلاص، وعملت كل ما كان جهدي ان انقل التلاميذ الى مستوى راق، فقد درسّت مادة الرياضيات (الجافة) لتلاميذ الصفين الخامس والسادس الأبتدائي، وأحيانا كنت ادرس مادتي الرياضة والرسم (الفنية) بغية تحقيق المعدل والوصول الى 24 حصة اسبوعيا. ولقد حققت معدلات نجاح باهرة كانت تصل (92-93-94 %) وهذا ممتاز قياسا بالمناطق الريفية النائية التي كنت اعمل فيها. لقد كان اساتذتي الأوائل في مدينة تلكيف هم النموذج الذي احتذيت به وأنا اعمل في التدريس، وكنت احاول بكل اخلاص ان اقلدهم بعملهم المتفاني معنا في الأبتدائية، وأذكر منهم الأستاذان (دانيال جـّدو معلم الرياضة، ويلدا قللا معلم اللغة العربية) ادام الله في اعمارهم وأعمار كل اساتذتي، وموفور الرحمة والذكر الطيب على من فارقنا.
في عملي بسلك التعليم بالبصرة، لا انسى المواقف المشرفة للسيد (سلمان خالد الفريج) مديرنا في مدرسة “القبلة” اذ انه كان يدافع دفاعا كبيرا عن المعلمين وعن حقوقهم، وهنا يخطرني زميلي في التعليم بالبصرة السيد “غانم هـدّو” في مدرسة القبلة ايضا. مع كل الصعاب التي كنا نعاني منها بالعمل في الريف، وانعدام وسائل الراحة وبعدنا عن عوائلنا والمدنية، لكننا تمكنا نحن ، الهيئة التدريسية، من خلق اجواء صداقية رائعة كانت تصل لمستوى ان نغدو كالعائلة الواحدة، اذ كنا نمارس بعض الهوايات ومنها صيد السمك، فقد كنا نذهب بالسيارة كل يوم جمعة الى منطقة “الأثل” في الزبير، والبحر، وأحيانا الى منطقة ابو الخصيب، ونصيد السمك، علما ان من من احب الأصناف لي كان، الشــانك. وذات الشئ حصل مع الأهالي الذين عقدنا معهم الصداقات، ولا انكر محبة شيخ العشيرة في تلك المنطقة
حين اهداني (مشحوفا) ليسهل عملية تنقلي، وبندقية من اجل حمايتي الشخصية. لكني أشعر بالمرارة مرات اخرى، فمناهجنا لم تتطور طوال السنين، وبقت اساليبنا متخلفة قياسا بالتطور الهائل الذي طرء على اساليب التعليم في العالم. لقد حرمنا من الدورات الأضافية لتطوير مهاراتنا، وذات الشئ اقوله عن المدارس وبناياتها ومرافقها المتهالكة، وعن حال التلاميذ ايضا، وعندما توفرت لي الفرصة لأزور بعض المدارس الأبتدائية في مدينة (ديترويت) مع احفادي، لم اتمكن من السيطرة على مشاعري وكنت اقول (لماذا لا يكون هذا عندنا؟) ، على ان الغصة الكبيرة كانت في خسارتي لأبني الغالي والأثر الذي تركه عندي وعند العائلة، رحمة الله على روحه الطاهرة.
امنياتي للوطن الغالي، ان تتوفر الفرصة للناس كي تعيش، وأن تفتح مصالح جديدة، وأن ترجع المعامل الى سابق عهدها، ان كان معمل السكر،معمل الورق أوالحديد والصلب. ان العمل يوفر فرصة للشباب للأنخراط بالبناء، اذ مازال هذا الجيل يعاني كثيرا من البطالة والأهمال. وأتمنى ان تحكم العراق نخبة من القادة الجيدين. فالعراق بلد معطاء وبه خيرات كثيرة وشعبه رائع، فهو يستحق كل ما هو جيد ايضا.
**************
المربـي حمـيد مجـيد ســوّير المباركي
ولد في العام 1943 بمدينة “خانقين”، ثم انتقلت عائلته للعمارة، فدرس الأبتدائية في “مدرسة السلام” بمركز العمارة، اما المتوسطة فأكملها بين “المركزية” و “التحرير” بمركز العمارة ايضا. انهى الأعدادية في “ثانوية العمارة”. كان طموحه في الدراسة الجامعية، الا ان ظروف المعيشة الصعبة، والأحداث التي تلت (انقلاب شباط الأسود) اجبرته على ترك الجامعة والعودة للعمارة لأعالة العائلة. يقول المربي (حميد): لقد حرمت من الأنتساب للدورات التربوية التأهيلية بسبب عدم حصولي على (تزكية) من الحرس القومي، وذات الشئ حدث في اي تقديم للوظيفة، وأخيرا نجحت (وبمساعدة) بعض الأهل والأصدقاء في الدخول بدورة تربوية لمدة سنة في العمارة، وبالذات في “دار المعلمين الأبتدائية”، وكانت بأشراف السيد (كامل خيرو التكريتي) مدير تربية العمارة. انهيتها بنجاح، وعينت في سلك التعليم يوم 13/1/ 1965 ، اذ ما مازلت اتذكره جيدا.
كان اول تعيين لي في “مدرسة المفاخر”في قرية ابو شبيبة، ناحية السلام – قضاء الميمونة، بعدها في “مدرسة الفلاح الريفية”، في منطقة الكيّة – ام البطوط –ناحية المشّرح، بعدها في “مدرسة سومر” في قرية المحـّدر- قلعة صالح، ثم صدر أمر اداري بنقلي الى “مدرسة الجمهورية” في قضاء المجر الكبير، ثم “مدرسة القنيطرة” بنفس القضاء. بعدها درسـت في “مدرسة المنهل الريفية” في قرية البيجع، بقضاء الميمونة، وأنتقلت الى “مدرسة الأحرار” بالقرب من سدة المجر، قرية حجي محمد الضعيف، ثم الى ” مدرسة المستنصرية” في قرية الجاثة بقضاء الكحلاء، وبعد هذه الرحلات في مدارس الريف والقرى، انتقلت الى “مدرسة الثرثار” في حي الحضر – بغداد – الدورة، بعدها الى ” مدرسة بيروت” في محلة الطعمة – بغداد – الدورة، ومن هذه المحطة اذن وقت الأحالة على التقاعد الذي استحققته بتأريخ 1/7/1990 اي بعد 35 سنة من الخدمة والتفاني.
في رحلتي مع التلاميذ، قمت بتدريس القرأة والحساب لصفوف المرحلة الثالثة، مادة العربي والأجتماعيات لصفوف الخامس والسادس، مادة العلوم للصف السادس، والأنكليزية للصف الخامس، وهكذا يرى القارئ الكريم حجم ما مررنا به طوال هذه السنين، ولو كانت هذه المعاناة فقط فأنها (هينة) كما يقولون، لكن كانت تصادفني احيانا عقليات عنصرية وطائفية مقيتة، كانت تمارس التمييز الوقح في وضح النهار ودونما رادع يردعها للأسف، لأن النظام والتخلف الموجود كان يشجع على هذا التمييز. وربما بعد كل هذه السنين، اتمنى على اللذين لبسوا هذا الرداء القبيح ان تكون ضمائرهم قد استفاقت لترى حجم الخراب الذي حل بالبلد على يد من ادعوا التدين كذبا وبهتانا، متناسين بأننا شركاء أرض العراق بكل طيبته!
رغم اصابتي بعاهة بدنية، لكن ذلك لم يمنعني من ان اشق طريقي في الحياة وأعيش بكرامة، وفوق ذلك، فقد ابدعت في مهنتي، وتحضرني حادثة طريفة حدثت في احدى القرى حينما تسلمت مهمة تدريس الصف الثالث، وكان مستواهم للأسف ضعيف جدا، خاصة في مادتي القرأة والأملاء، فقمت بأستدعائهم لبيتي وتقديم دروس خاصة لهم، بعد انتهاء الدوام، (دروس الصف الأول) وفي خلال شهر كامل، تمكنت من رفع مستواهم ، وأستحققت لقب (معلم متميز) ، وهذا يشرفني كثيرا .اما بالنسبة للأهالي، فقد كانوا يظهروا الود والمحبة لي، وقمت في كثير من الأحيان على كتابة محاضر (محكمة المضيف)، وتدوين شجرة (اشجار) عوائلهم ايضا، وهذا الأمر دفعني لأقوم بذات العملية لعائلتي التي كتبت شجرتها وأرجعتها الى حدود 800 ميلادي ولحد هذا اليوم!
كان نهارنا في الريف ينقسم ما بين التدريس ثم البيت، وبعد تناول الغداء، يستلقي كل منا على اريكتة، وساعدتني تلك الأيام على القرأة كثيرا، وكنت كلما قصدت مركز المدينة او بغداد، اجلب معي كما جيدا من الكتب، اعيرها احيانا
لزملائي المعلمين ايضا. كنت دائم السؤال عن الهدف الذي يدفع هذه العوائل الفقيرة وفي هذه المناطق المقطوعة من العالم لدفع ابنائهم نحو الدراسة، وبالحقيقة تمكنت من حل هذا اللغز، فهو من جانب يعتبر مدعاة للفخر والأمتياز للعائلة كون احد ابنائها يعرف القرأة والكتابة وثانيا، كان هذا ردهم على تسلط الشيوخ والأقطاع، الذي بسط سيطرته عليهم بفعل انتشار الجهل والأمية.
لقد تركت ايام الدراسة طعما جميلا مازال مذاقه لليوم، وأذكر من اساتذتي (ادام الله بأعمار الباقون، ورحم الله من رحل عنا) في الصف الأول: اسماعيل السامرائي، الثاني: محمد علي الهاشمي، الثالث: صالح مهدي الدهلة، الرابع: جاسم العرص، والأساتذة حسين سالم المراني، ومدحت عبدلله المراني، وأبراهيم نعمة، وعواد كطان. اما زملائي في الهيئات التدريسية فأذكر منهم، عبد الحسين مجيد تايه، المرحومين خالد حازم السعدون وحميد زرزور، الأستاذ عبد علي جبر، رومي رحيمة وهو موجود في استراليا الآن، وعبد الأله سعيد، وقائمة طويلة – اعتذر من اللذين لم تسعفني الذاكرة بأسمائهم.
لقد عملت ما بوسعي على غرس روح المحبة والتسامح الأنساني عند تلاميذي وعند اهاليهم ايضا، الا ان اسوء ما كان يواجهنا هم بعض المنتفعين من (الدين) او تجاره كما يقولون. هؤلاء كانوا يحاربون العلم والتعليم ويريدون للناس ان تبقى امية ومؤمنة بالخرافات والخزعبلات، لكني قمت بواجبي على ما يرضي ضميري. وعندما يسألني البعض عن احلامي او آمالي اقول، لقد ضاقت كثيرا مساحة احلامنا بعد ان اجبرتنا الظروف السيئة على ترك وطننا، ولست مبالغا لو قلت، ان عمرا جديدا كتب لي بعد وصولي هذه البلاد منذ العام 2010، وهذه الحكاية لها ارتباط، فقد قمت قبل ان اكمل الخدمة، بأفتتاح محل صياغة في مدينة (الدورة) من اجل ان تكون العائلة مسنودة اقتصاديا، وتمضي الأيام ، وأذا بعصابة تقوم بتسليب المحل وسرقة محتوياته وأختطاف ابني من هناك، وعشنا اياما عصيبة (7) ايام نترقب التلفون ، ونموت ونحيا كل يوم عشرات المرات، حتى اطلق سراحه بعد فدية بمبلغ 2000 دولار (دفترين) كما يقول البعض، لكن الأمر من كل هذا كان، ان اتصل بي احد الخاطفين وقال لي ان كنت اتذكره، فقلت لا (انا بيا حال وأنته بيا حال) فقال لي: انا هو الطالب الذي سألته في الحساب ناتج ضرب الرقمي 6 و 7 ولم اعرف الأجابة فضربتني بالمسطرة، وأنتظرت ان اردها لك، وعندما سنحت الفرصة قمت بأختطاف ابنك!
شعور عارم بالحزن والأسى يتملكني وأنا اعيد تفاصيل هذا الحوار للسنين التي خلت، وأنظر الى يدي التي اتعبها طباشير السبورة، او اقدامي المثقلة من جراء الوقوف، وأقول، ياللعار ان يوجد بيننا من الناس من يقوم بمثل هذه الأعمال ويدعي انه من صنف البشر! ناهيك عن حادثة وفاة ابنتي في المستشفى نتيجه الأهمال من قبل الفريق الطبي.
لكن مع هذا، فأني اتمنى كل الخير للناس، وسأعمل لنشر الكلمة الطيبة ولخدمة عائلتي وأبناء الطائفة الكرام، من اجل ان اكون عامل خير في حل المشاكل وأصلاح ذات البين، وضـد كل عمل باطل.