19 ديسمبر، 2024 10:06 ص

قصة الحضارة (153): تسيد الخزف الياباني وأصبح كنزا للاقتناء

قصة الحضارة (153): تسيد الخزف الياباني وأصبح كنزا للاقتناء

خاص: قراءة- سماح عادل

الخزف في الحضارة اليابانية القديمة، وكيف رغم أنه تأثر بالصناعة الصينية والكورية، إلا أنه تسيد في النهاية، وأصبح من أغلي السلع المطلوبة عالميا. وذلك في الحلقة الثانية والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الخزف..

عن الخزف وأهميته في الحضارة اليابانية القديمة يذكر الكتاب: “شعوب الشرق الأقصى كلها وحدة بشرية وثقافية، وكل جزء من أجزاء هذه الوحدة  شأنها في ذلك شأن أقاليم القطر الواحد  قد أنتج فنه وثقافته في مكانه الخاص وزمانه الخاص، بحيث جاءت تلك الثقافة وذلك الفن يشبهان ويعتمدان على ما أنتجته بقية الأجزاء من ثقافة وفن؛ وعلى هذا نرى الخزف الياباني جزءا من الفن الخزفي في الشرق الأقصى، ووجهاً من وجوهه؛ وهو في أساسه شبيه بالخزف الصيني، إلا أنه مطبوع بطابع يميزه من الرقة والرشاقة اللتين تميزان الفن الياباني كله.

وقد كان الخزف الياباني  حتى قدوم الصناع الكوريين في القرن السابع  مجرد صناعة خالية من لمسة الفن، أعني أنه كان لا يعدو أن تصب المادة صباً على نحو غليظ لتكون آنية للاستعمال اليومي؛ والأرجح أنه لم يكن في الشرق الأقصى قبل القرن الثامن خزف مصقول، وأكثر من هذا ترجيحاً أنه لم يكن به نوع الخزف المسمى “بورسلان”، ثم أصبحت الصناعة فناً.

وكان أكبر العوامل على هذا التطور دخول الشاي في القرن الثالث عشر؛ فقد صحب الشاي عند دخوله البلاد أقداح صينية لشربه من طراز “صنج” فأثارت الإعجاب عند أهل اليابان؛ حتى غامر خزاف ياباني سنة 1223 وهو “كاتوشيروزيمون”، فسافر إلى الصين، ودرس هناك فن الخزف مدة ستة أعوام، وعاد بعدها ليقيم مصنعاً له في سيتو، وتفوق بضاعته على كل ما سبقه في بلاده من هذه الصناعة، حتى أصبحت “منتجات سيتو” علماً على كل صناعة خزفية في اليابان كلها”.

“شيروزيمون”..

وعن اتساع شهرة خزاف ياباني يكمل الكتاب: “وقد كتب الحاكم العسكري “يوريتومو” الثراء لذلك الخزاف “شيروزيمون” حين ابتدع بدعا جديدا، وهو أن يكافئ الخدمات الصغرى بهدايا من أباريق الشاي التي “صنعها شيروزيمون”، هذا بعد أن يملأها بهذه الأعجوبة الجديدة، وهي مسحوق الشاي، وما بقي لنا اليوم من آثار هذه المنتجات ويطلق عليها اسم “توشيرو – ياكي”  يكاد يغلو عن أي ثمن مهما غلا، وترى تلك الآثار باقية ملفوفة في الحرير الموشي الثمين، ومصونة في صناديق من خشب “اللاكيه” الجميل، وإذا حدثك محدث عن أصحابها، حدثك عنهم بأنفاس متقطعة على أنهم سادة خبراء الفن”.

“شونزوي”..

وعن خزفي آخر يواصل الكتاب: “وبعد ذلك بثلاثمائة عام، أغرت الصين يابانيا آخر بالرحلة إليها، وهو “شونزوي” ليدرس مخازفها المشهورة؛ ولما عاد إلى بلاده، أنشأ مصنعاً في “أريتا” في إقليم “هيزن”، وكان مما قام في وجهه من صعاب، أنه لم يجد في تربة بلاده المواد المعدنية التي تعين على صناعة الخزف الرقيق، كالتي توجد في تربة الصين؛ وقد قيل عن منتجاته إن عنصراً من أهم عناصرها مستمد من عظام صُنَّاعه، ومهما يكن من أمر، فمنتجات “شونزِوِي” ذات اللون الأزرق قد بلغت من الروعة حداً أغرى خزافي الصين في القرن الثامن عشر أن يبذلوا وسعهم في تقليدها وتصديرها مُزَوَّدة باسمه، والعينات الباقية من صناعته، تقـدر اليـوم بما يقـدر به أندر الصور الفنية التي رسمتها ريشة الصفوة من أعلام الفن في اليابان.

وحدث حوالي سنة 1905، أن كشف رجل من كوريا  هو “رايزمبي”  في “إزومي – ياما” الواقعة في إقليم “أريتا” عن رواسب غزيرة من حجر البورسلان، فأصبحت “هيزن” منذ ذلك الحين مركزاً لصناعة الخزف في اليابان، وكذلك كان “كاكيمون” المشهور ممن قاموا بهذه الصناعة في “أريتا” إذ تعلم فن الطلاء بالميناء من ربان سفينة صينية، وبعدئذ احترف هذه الصناعة حتى كاد اسمه يصبح كلمة معناها البورسلان الذي طلى بالميناء طلاء رقيق الزخارف”.

وراح التجار الهولنديون يرسلون إلى أوربا مقادير هائلة من مصنوعات هيزن، كانوا يعبئونها في السفن من ميناء “أريتا” عند “عماري”، فأرسلوا من ذلك 943ر44 قطعة إلى هولندا وحدها عام 1664، فأثارت “المنتجات العمارية” الباهرة هزة في أوربا، وأوحت إلى “إيبرجت دي قيصر” أن يفتتح عهداً ذهبياً من صناعة الخزف الهولندية بمصانعه في “دلفت”.

الاحتفال بشرب الشاي..

وعن أهمية الاحتفال بشرب الشاي في تطور فن الخزف الياباني يضيف الكتاب: “هذا إلى أن ظهور الاحتفال بشرب الشاي، قد حفز على تطور جديد في اليابان، وذلك أنه في عام 1578 كلَّف “نوبوجانا” بإشارة من “ركْيُو” سيد الشاي أسرة كورية من المشتغلين بصناعة الخزف في كيوتو، أن تصنع له مقدارا كبيرا من أقداح الشاي وغيرها من الأدوات المستعملة في عمله وشربه، ومضت أعوام قلائل بعد ذلك ثم أهدى “هيديوشي” تلك الأسرة خاتماً ذهبياً، وجعل مصنوعاتها وتعرف باسم “راكو – ياكي” شرطاً يكاد يكون لازماً لتمام الاحتفال بشرب الشاي.

وعاد قادة جيش هيديوشي من حملتهم الفاشلة على كوريا، عادوا ومعهم عدد كبير من الأسرى، كان بينهم كثير من رجال الفن، اختيروا قصدا، وهو اختيار لا نألفه في رجال الحروب، وفي سنة 1596 أحضر “شيمازويو شيهيرو” إلى “ساتسوما” مائة من مهرة الكوريين، بينهم سبعة عشر خزَّافاً، فكان لهؤلاء الرجال وأخلاقهم الفضل في نشر سمعة “ساتسوما” في أرجاء العالم كله مقرونة بتلك المصنوعات الخزفية المصقولة الزاهرة الألوان، والتي نطلق عليها اليوم اسم مدينة إيطالية، إذ نسميها “فاينْس”، وكان علم أعلام هذا الفرع من فن الخزف هو خزف كيوتو، واسمه “نِنسي”، ولم يكتف هذا الرجل بابتكاره بطلي خزف “فاينس” بالميناء، بل أضاف إلى ذلك رشاقة في مصنوعاته واعتدالاً سليم الذوق يعلو بقيمتها، مما جعلها نفيسة في أعين هواة هذا الفن منذ ذلك اليوم، حتى إن اسمه ليزوَّر أكثر مما يزور أي اسم آخر من رجال الفن في اليابان.

وقد كان من أثر صناعته، أن أقبل الناس على خزف “فاينس” المزخرف، إقبالاً بلغ في العاصمة حد الجنون، وفي بعض الأحيان في كيوتو كنت ترى منزلاً من كل منزلين قد انقلب تحفة خزفية؛ وهناك خزاف آخر، لا يفوقه شهرة إلا “نِنسى” وهو “كِنزان” الذي كان شقيقاً أكبر للمصور “كورين””.

فن البورسلان..

وعن الاحتفاء بفن البورسلان يتابع الكتاب: “وهنالك قصة تروي عن كيفية إحضار “جوتوسايجيرو” لفن البورسلان من “هيزن” إلى “كاجا”، ومن تلك القصة نتبين طرفا من أعاجيب الخيال التي كثيرا ما نراها كامنة وراء فن الخزف في نشأته وتطوره، وذلك أن طبقة من رواسب الحجر الخزفي الجميل قد استُكشفت قريباً من قرية “كوتاني”، فصمم الحاكم الإقطاعي في ذلك الإقليم على إنشاء صناعة البورسلان في إقليمه، وأرسل جوتو إلى هيزن لدراسة طرائق صناعته في الأفران وزخرفته بالرسوم، لكن جوتو لم يجد طريقه ميسَّراً، إذ وجد القائمين على صناعة الخزف يكتمون أسرار صناعتهم كتمانا شديدا، وأخيرا تنكر خادما وقبل عملا وضيعا في منزل خزاف.

وبعد أن قضى في خدمته ثلاثة أعوام أذن له سيده بالدخول في مصنع الخزف، وهناك لبث جوتو يعمل أربعة أعوام أخرى؛ وبعدئذ هجر الزوجة التي كان تزوج بها في هيزن والأطفال الذين أنجبتهم له تلك الزوجة، وفر إلى كاجا، حيث أحاط مولاه علما كاملا بالطرائق التي تعلمها، ومنذ ذلك الحين (1664) أصبح خزافو “كوتاني” أعلاماً في هذا الفن، وباتت “كوتاني” – “ياكا” (أي مصنوعات كوتاني) تنافس خيرة منتجات اليابان في هذا الباب.

واحتفظت مصانع “هيزن” لمنتجات الخزف بزعامتها إبان القرن الثامن عشر كله؛ وكان ذلك يرجع إلى حد كبير إلى العناية الكريمة التي أولاها الحاكم الإقطاعي “هيرادو” عمال مصانعه، ولبثت مصنوعات الخزف الأزرق المسماة “منشاواكي” والتي كانت تنتمي لـ “هيرادو”، لبثت قرناً كاملاً (1750-1843) في طليعة البورسلان الياباني، ثم نَقَلَ “زنجورو هوزن” الزعامة في القرن التاسع عشر إلى كيوتو، بتقليد بارع لمصنوعات “متشاواكي”، كثيراً ما بز فيها النموذج المحتذي، بحيث كان يستحيل أحياناً أن تفرق بين الأصل والتقليد”.

تطور جديد..

وعن تطور أخر في الصناعة يحكي الكتاب: “وفي الربع الأخير من ذلك القرن، هذبت اليابان من صناعة الطلي بالميناء، فطورتها من الحالة البدائية التي كانت عليها منذ قدومها من الصين، وتزعمت العالم كله في هذا الميدان من ميادين الصناعة الخزفية، وتدهورت فروع أخرى من تلك الصناعة في الفترة عينها، لأن ازدياد الطلب في أوربا للخزف الياباني، أدى إلى نمط فيه إسراف في الزخرف، لا يستسيغه الذوق الياباني، فكان من أثر هذا الطلب للخزف الياباني من خارج البلاد، أثر في تعويد العمال عادات جديدة في صناعتهم تأثرت بها مهارتهم، وضعفت تقاليد ذلك الفن.

وجاءت الصناعة الآلية فكانت هاهنا كما كانت في كل مكان آخر وبالاً؛ فحل الإنتاج الكبير محل الجودة، كما حل الاستهلاك الكبير محل الذوق الذي يميز الطيب من الخبيث، ومن يدري؟ فلعله بعد أن يفرغ الاختراع الآلي في الصناعة من شوطه الخصيب، وبعد أن تنتشر في الناس نعمة الفراغ وطريقة استعماله استعمالاً فيه خلق وإبداع، بفضل ما يطرأ على المجتمع من تنظيم وخبرة، ستتحول هذه النقمة إلى نعمة، بحيث تنشر الصناعة في أكثرية الناس ألوان الترف، فقد يعود العامل فيصبح فناناً كما كان  بعد أن يستكمل ساعات عمله القليلة أمام الآلة وقد يحول الإنتاج الآلي إلى عمل يعبر فيه عن شخصيته وفنه إذا ما أحبه حباً صادراً من صميم نفسه وفرديته”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة