لا تمر مناسبة أو لقاء متلفز دون أن يتلاسن الشعراءفي العراق مع الموتى من رموز الشعر العراقي. ليسبعيداً عن تاريخ هذه المقالة، ظهر الشاعر النصفمعروف والنصف مغمور جواد الحطاب في برنامج“قصتي مع علي صادق” على قناة الرابعة الحكومية، ليقول إن الشاعر بدر شاكر السياب هو “صناعةشيوعية” بفضل دعم الشيوعيين والبروباغندا التيأُطلقت لصالحه. وزعم الحطاب أن السياب لم يكنليتحول إلى الشاعر المشهور الذي نعرفه اليوم لولا هذاالترويج، متجاهلاً أن السياب هو من غيّر هندسة القصيدة العربية بإبداع ريادي غير مسبوق. وربمايجهل الحطاب أن السياب كتب مقالات بعنوان “كنتشيوعياً” يهاجم فيها ملة ماركس ويندّد بها، نادماً على انتمائه المؤقت لليسار العراقي.
ربما يكون البحث عن الشهرة الزائفة هو ما يدفعضيوف هذه اللقاءات إلى إثارة ضجة بكلام لا قيمةفنية أو تاريخية له، ودون أدلة موثقة، كما يقول المثلالفنلندي “ضراط في الصحراء“. وفي نفس البرنامج“قصتي مع علي صادق” وعلى نفس القناةالرابعة الحكومية ، يظهر هذه المرة عمر السراي، الأمين العاملاتحاد الأدباء والكتاب في العراق، باحثاً عن ترندشخصي كما حصل للشاعر الحطاب ، ومتناسياً منصبه في اتحاد بدأ بالجواهري وانتهى به، وسطأحداث ومصائب وحروب كبرى وتراجع معرفي وثقافيشهدته العراق وأهله.
هذه المرة كان الهجوم موجّهاً ضد عبد الرزاق عبدالواحد (1930-1996) ، الشاعر المعاصر للسيابونازك الملائكة الحائز على درع جامعة كامبردجوشهادة الاستحقاق منها 1979 وصاحب وسامبوشكين للشعر العالمي في بطرسبرغ عام 1976. كان الهجوم تعسفياً ومصطنعاً وغير مبرر، حيثوصف عبد الواحد بأنه “شاعر مرتزق” و“شاعرعادي“، وذم نصاً شعبياً له قائلاً: “نوكع زلم فوك الزلملمن يشيب الراس هذه الكاع ما تنجاس“، واصفاً إياهبالمتكسب ومداح القاتل والطاغية. وأكد السراي أنهضد هذا النمط من التكسب، والذي يرى أنه تحول معالحداثة إلى تكسب بصيغة جوائز شعرية، بينما نرىمصداق قول السراي في حصوله على جائزة“تكسب” من مجلة “قوافي” الإماراتية هذا العام.
بالمقارنة مع الكم الهائل من المسرحيات الشعريةودواوين الشعر المتقنة ذات الفحولة اللغوية والفنيةالعالية، مع تحفظي على محتواها في تمجيد“الحاكم“، لا نجد للسراي شيئاً يذكر سوى مجموعةشعرية فقيرة بعنوان “حلويات“، وهو عنوان غيرصحيح نحويًا، حيث الصيغة الصحيحة هي“حَلْوَيات“. ويمكنك توقع الأخطاء في المفردات داخلالمجموعة، كما يقول المثل المصري “أول القصيدةكفر“.
لست هنا للدفاع عن السياب وعبد الواحد، فأنا أرىأن الصنعة الشعرية العالية الجودة هي الأهم. لايعني المتلقي ميول أو متبنيات صانع الأثر الفني. فمثلاً، نحتفي بقطع فنية نحتية آشورية دون أننتساءل عن قسوة المشهد، أو إذا كان الملوكالآشوريون طغاة وقتلة. شعرياً، يحتفي العرب بقطعرائقة من الشعر الوجداني تُنسب ليزيد الأموي، ويستقبلها المتلقي كما هي دون إسقاطات تاريخيةعلى شخصية الشاعر الأموي الشهير الذي أمربمجزرة كربلاء في عام 60 هـ. وإذا قارنا ذلك بالغرب، فقد نستبعد الكثير من الأسماء العالمية فقط لأنهاكتبت في ظل الدكتاتوريات، مثل مكسيم غوركي الذيكان صديقاً مقرباً لستالين.
يُحسب لعبد الرزاق عبد الواحد تمسكه برئيسهالسابق كرمز، حيث يرى نفسه نسخة حديثة للشاعر“أبو فراس الحمداني” ويعتبر ممدوحه “سيفالدولة“، واستمر على هذا النهج حتى آخر نفس قبلوفاته. بينما غيّر آخرون مواقفهم في السجلالشعري والتاريخي وذموا حقبة كانوا يستعطفونفيها الحاكم الدكتاتور، على نمط “كلما جاءت أمةلعنت أختها“.
الشعر، ككل الفنون، يخضع لمؤثرات الزمان والمكان. في عراق عبد الرزاق عبد الواحد، كانت الساحةالأدبية بين خندقين: يسار شيوعي ويمين قومي بعثي. وكم من شاعر تلاشى أو انقرض ولم نسمع عنه، لأنهلم يتخذ إيديولوجية في صراعات الشعارات والسياسةوبازار الأفكار الفاسدة صلاحيتها. ربما اختار عبدالواحد ما يرى مناسباً لمصالحه الشخصية، ولكن فيالنهاية كان إنجازه معززاً بالموهبة والعاطفة وقوةالسبك والتنوع ، كما تماهى مع سرديات “إسلامية” لا ينتمي عقائدياً لها، كسردية الحسين.
ويبقى السؤال عن ما إذا كنا نحاكم الشاعر أخلاقياً أم فنياً .
كان “ابن جني” اللغوي العراقي الموصلي (322 هـ – 933 م) وتوفي عام (392 هـ – 1002 م) يُولياهتمامًا كبيرًا بالصنعة الشعرية والأداء الفني فيالشعر، وهو ما يتضح من تحليلاته وكتاباته، خاصةفي كتابه “الخصائص“. كان يُركز على الأساليبالفنية والبلاغة والفصاحة وكيفية استخدام اللغةبمهارة وإبداع. من خلال تحليله للشعر، كان يُظهرتقديره الكبير للشعراء الذين يتقنون فنون اللغةويبدعون في استخدامها. أما بالنسبة لشخصيةالشاعر، فلم تكن تحظى بنفس القدر من الاهتمام عندابن جني كما هو الحال مع الصنعة الشعرية. فمع أنهقد يكون مهتمًا بسيرة الشاعر وتاريخه، إلا أن تركيزهالأساسي كان على كيفية بناء القصيدة وتفاصيلهاالفنية. وبالتالي، يمكن القول إن ابن جني كانيُفضل الصنعة الشعرية على شخصية الشاعر، ويرى أن الجودة الفنية واللغوية للشعر هي العاملالأساسي في تقييم القصيدة.
أما في الأدب الغربي الحديث، فقد ركّز رومانجاكوبسون (1896-1982)، الذي يُعد واحداً منأبرز مؤسسي الحركة البنيوية في علم اللغة والنقدالأدبي، على النص ذاته وكيفية عمل اللغة فيه، دونإعطاء أهمية كبيرة لشخصية الشاعر أو خلفياتهالشخصية والاجتماعية. جاكوبسون كان مهتمًابالعناصر البنيوية للنص وكيفية تفاعلها مع بعضهاالبعض لإنتاج المعنى والجمال الأدبي.
تُبرز هذه المقارنات الفجوة الكبيرة بين المواقف المحليةمن الشعراء وأعمالهم، وبين الرؤى النقدية العالميةالتي تعطي الأولوية للعمل الفني ذاته على حسابحياة الشاعر أو مواقفه الشخصية.